غرقت سفينة حكومة حسان دياب بسرعةٍ قياسيَّة. الكلّ كان يعرف أنّ هذا هو مآلُ الأمور، لأسبابٍ غصّت بها التحليلات الصحفيَّة وغير الصحفيَّة. والكلّ كان يعرف، لماذا اختير دياب، ولماذا اختيرت حكومته، ولأيَّة دوافع وأهداف. الدوافع كانت غير شريفة، والأهداف كذلك. لكن، ما سهّل للممارسات غير الشريفة مع الرجل، هو شبق السلطة لدى دياب ذي الضعف السياسي الموصوف. شاء حزب الله ومعه فريق العهد القوي جدّاً، تحقيق أمل دياب في الحياة (كما كلّ سُنَّة لبنان). فكان له ما أراد في 19 كانون الأول/ديسمبر الفائت.
اليوم، وبعد مئتيْن وثمانيةٍ وعشرين يوماً، عدّاً ونقداً، غرق دياب مع وزرائه في البحر قبالة مرفأ بيروت، بعدما انفجرت فيه كلّ قنابل النظام اللبناني الموقوتة منذ ثلاثين عاماً. وهكذا في كلّ “لعبة سياسيَّة”، يجب تحديد “الأبطال والحراميَّة”. وفي كلّ سيناريو فيلم أو مسلسل تلفزيوني، يجب أن تسفر “العقدة الدراميَّة” عن نهايةٍ مؤثِّرة للعرض. وأكثر النهايات إثارةً للدموع والتعاطف تكون مع اختيار “كبش فداء”. ينتقيه أفراد العصابة أو المافيا أو الجهة المأزومة سبيلاً للفكاك من أزمةٍ وخسارة. البروفسور حسان دياب هو كبش القطيع الحكومي الذي نُحِر في المسلخ اللبناني. والمضحك المبكي، هو قراءة وسماع ورؤية حُكّام لبنان، من أعلى هرم السلطة إلى أخمص “مسؤول” فيها، يسخرون ويتّهمون ويصلبون دياب على الخشبة حاملاً أوحد للخطايا. وخطايا دياب، في الحقيقة، ستٌّ يتشارك فيها مع الكثير غيره:
أولى خطاياه، شبقه الساذج للسلطة. لدرجةٍ ذهب فيها بعض تعليقات المحللين للقول، إنّ احتمالات اندلاع حرب عالميَّة ثالثة مرجحة أكثر من استقالة حسان دياب. وثاني خطاياه، قبوله بأنّ ينفِّذ عمليَّة انتحاريَّة في قلب السراي الكبير الذي كان يطوف بقذارات ومفخَّخات أسلافه. خطيئته الثالثة، هي عدم تمتّعه بأيّ كفاءة للقيادة والمسؤوليَّة والسلطة. إذْ إنّ “الآدميَّة” ليست سمة محبَّبة ومطلوبة للحكم في لبنان. أمّا الخطيئة الرابعة، تكمن في بلادته الجليديَّة التي لا تتلاءم، إطلاقاً، مع حرارة لبنان الملتهبة، على كلّ الصعد. خامس الخطايا، هي ادّعاؤه المقيت بحيث لا يتحمَّل أيّ عاقلٍ إعلان رئيس حكومتنا الآفلة مع انتهاء الـ 100 يوم على وصوله إلى سدّة الرئاسة الثالثة، أنّ حكومته “أنجزت ما نسبته 97 في المئة من التزاماتها في البيان الوزاري، ونحو 20 في المئة من التزاماتها خارج المئة يوم، في برنامج عمل السنة”؟ والخطيئة السادسة، موهبته في تكريس اللغة الخشبيَّة مضموناً لكلّ كلام ينطق به (تصريحاً أو تلميحاً). فلغته هذه فاقت طاقة اللبنانيّين المقهورين على الاحتمال. صحيح أنّ 99 بالمئة من سياسيّينا لا يتقنون إلاّ هذا النوع من اللغات الخطابيَّة، إلاّ أنّ السيد دياب أُعلِن منتصراً بضربات الترجيح في المباراة الخطابيَّة على الشاشات والمنابر. وبعد، هل تستحقّ هذه الخطايا الصَلْب؟ كلا. هي تستحقّ الشفقة على ذبحه كبشاً للفداء. ولكن، لماذا وكيف نختار كبش فداء؟
أكثر من سيناريو يُطرح لخلافة دياب. أحلاها مُرّ. ولا سيّما، ذاك الذي يروَّج له مع حمولة “الجسر الجوي” للمساعدات الغربيَّة والعربيَّة ويهدف إلى تعويم مافيا الحكم. ألا يقتضي سوْق أكثر من كبشٍ طائفي وغير طائفي إلى مسلخ الحكم في لبنان؟
دينيَّاً، يعني الكبش في اليهودية ذاك الذي أخذ على عاتقه ذنوب بني إسرائيل، والذي هام بين الأحراش وعلى رأسه تلك الذنوب. ويصف بها المسيحيون، بصورةٍ رمزيَّة، صلب يسوع وتحميله خطايا البشر. ولدى المسلمين، تمثّل تأهُّب النبي ابراهيم لنحْر ولده اسماعيل ككبش فداء، واختبارٍ لإيمانه ومن ثمّ الإيحاء له باستبدال ابنه بكبش.
في زمننا الحاضر، يجسِّد “كبش الفداء” أيّ شخص أو مجموعة من الأشخاص تؤخَذ بشكلٍ عشوائي بجريرة شنيعةٍ من فعل البشر، تحصل بسبب الإهمال الآدمي. وعادةً، يتمّ البحث عن كبش الفداء كي يُحمَّل مسؤوليَّة نوعٍ من أنواع الفظائع والجرائم والأزمات… والتي غالباً ما تكون مصحوبة بخسائر في الأرواح أو الممتلكات. أمّا علم النفس الاجتماعي فيُعرِّف نظريَّة “كبش الفداء”، بأنّه العمليَّة التي تُستخدَم فيها آليّات الإسقاط أو الإحلال النفسي “لصبّ مشاعر الهجوم والعدائيَّة والإحباط،…، على فردٍ آخر أو جماعةٍ أخرى وذلك عبر مستوى كبير من اللوم غير المبرَّر.” والتضحية بكبش فداء، هي تكتيك يُستخدَم لتجريم “آخر ما” (غالباً مجموعة كاملة من الأفراد) لما ارتكبه عددٌ صغير من المجموعة من أعمالٍ غير أخلاقيَّة. ويرتبط هذا الفعل بمغالطة الذنب بالارتباط والقولبة النمطيَّة. وعلى مرِّ التاريخ، تعرّض أشخاصٌ وجماعاتٌ كثيرة للتضحية بهم كأكباش فداء. أمّا أهمّ آليّات خلق “كبش الفداء” فهي الإسقاط. إنّها آليَّة دفاع، يُسقِط عبرها المرء (أو الجماعة والجماعات) المشاعر والأفكار، غير المرغوب فيها، على شخصٍ آخر. ما يجعل هذا الشخص الآخر “كبش فداء” للمشكلات التي يعاني منها هذا المرء والجماعة والجماعات التي تتّفق على الكبش ذاته، لغاياتٍ متقاطعة ومتلاقية.
من هنا، تتطلّب التضحية بشخصٍ أو بإحدى الجماعات ككبش فداء، أن يتّفق أفراد الجماعة الداخليَّة على هدفٍ معيَّن، بغية إلقاء اللوم عليه في ما يتعلق بمشكلاتهم. ويزيد، كذلك، احتمال ظهور هذا السلوك، عندما تعاني الجماعة من خبرات سلبيَّة مريرة طويلة المدى. إذّاك، يمكن أن تؤسِّس هذه الجماعة إيديولوجيا مشتركة مُقنِعة. وعندما تجتمع هذه الإيدولوجيا مع الضغوط السياسيَّة والاجتماعيَّة، يمكن أن تؤدّي إلى أكثر صور التضحية بكبش فداء تطرُّفاً. ونعني القتل (الجسدي أو النفسي) والاغتيال (الجسدي أو الأخلاقي أو السياسي تحديداً). أليس هذا ما يحدث في هذه الساعات في لبنان مع دياب وحكومته؟ بلى. ولكن ألا يُقال “بشِّر القاتل بالقتل، ولو بعد حين”؟ بلى أيضاً.
بطبيعة الحال، ليس عندي أيُّ أسفٍ أو تعاطفٍ مع السيد حسان دياب ووزرائه. لكن، أن يؤخَذ وحده “كبش فداء” لمافيا السلطة وعصابة حكم “قُطَّاع الطرق”، فهو لمصيرٌ مرفوض بكلّ المعايير الإنسانيَّة والأخلاقيَّة والسياسيَّة والتاريخيَّة. في ظروف لبنان الراهنة، بات استلام منصب رئيس الحكومة “مهمّة انتحاريَّة”، من المستبعد أن تقبل بها أيُّ شخصيَّةٍ لبنانيَّة “كبيرة” من مُدّعي الإصلاح والتغيير والثورة والتحرير. أكثر من سيناريو يُطرح لخلافة دياب. أحلاها مُرّ. ولا سيّما، ذاك الذي يروَّج له مع حمولة “الجسر الجوي” للمساعدات الغربيَّة والعربيَّة ويهدف إلى تعويم مافيا الحكم. ألا يقتضي سوْق أكثر من كبشٍ طائفي وغير طائفي إلى مسلخ الحكم في لبنان؟