يقول رونين بيرغمان في كتابه “في 21 يوليو/تموز عام 1962، استيقظ الاسرائيليون على اسوأ كوابيسهم، فقد نشرت الصحف المصرية تقارير عن نجاح اختبارات اطلاق نوعين من صواريخ ارض-ارض اسمتهما “الظافر” و”القاهر”، وجرى استعراض هذه الصواريخ مزنرة بالعلم المصري في احتفال رسمي حضره عبد الناصر وثلاثمئة دبلوماسي اجنبي على ضفاف نهر النيل في القاهرة، وقال عبد الناصر في الاحتفال ان بلاده باتت قادرة على ضرب اي هدف جنوب العاصمة اللبنانية بيروت”. يضيف بيرغمان ان القلق عند “الاسرائيليين” تضاعف في الاسابيع التالية عندما تأكد لهم ان فريقا من العلماء الالمان لعبوا دورا اساسيا في تطوير الصواريخ المصرية، وقد شكل ذلك خطرا وجوديا جديدا لليهود بعد 17 عاما من انتهاء الحرب العالمية الثانية التي شهدت مجازر الهولوكوست، لقد اصبحت اسلحة الدمار الشامل في ايدي الد الاعداء الجدد لاسرائيل، جمال عبد الناصر، الذي كانت تنظر اليه القيادة “الاسرائيلية” على انه “هتلر الشرق الاوسط”. وقد وصفت الصحافة “الاسرائيلية” الامر بالقول ان المسؤولين النازيين السابقين يساعدون عبد الناصر في مشاريع الابادة الجماعية التي يعد لها.
لقد شكل واقع التجارب الصاروخية المصرية الناجحة صدمة في عالم الاستخبارات “الاسرائيلية” كي لا نتحدث عن القوى السياسية والرأي العام في “اسرائيل”، بحسب قول بيرغمان، اذا ان المعلومات عن هذا الموضوع لم تصل الى “الموساد”، الا قبل ايام قليلة من الاعلان المصري، ما شكل فشلا استخباريا ذريعا لـ”الموساد”. الاسوأ في الامر ان العلماء الالمان الذين طوّروا الصواريخ المصرية لم يكونوا مجرد فنيين بل ان بعضهم كان من ابرز المهندسين في النظام النازي، وقد عملوا خلال الحرب العالمية في مركز ابحاث الماني في قاعدة “بينينموند” الواقعة في شبه جزيرة في بحر البلطيق حيث جرى تطوير معظم اسلحة الرايخ الثالث.
وينقل بيرغمان عن مدير عام وزارة الدفاع، حينذاك، آشر بن ناتان قوله “لقد شعرت وكأن السماء تقع فوق رؤوسنا وقد تحدث عن الامر ديفيد بن غوريون شخصيا مرارا وتكرارا مؤكدا انه لا ينام الليل بسبب الكوابيس التي تنتابه من هذا الامر، فكيف له كأول رئيس وزراء ان يأتي باليهود من انحاء مختلفة من اوروبا لكي يواجهوا كابوس الهولوكوست ثانية فوق ارض بلدهم هذه المرة”.
تجنيد عامل سويسري في الخطوط الجوية المصرية في زيوريخ، اتاح لعملاء “الموساد” الإستحصال على حقائب البريد الدبلوماسي المصري ليلا مرتين في الاسبوع، حيث كانوا يأخذون الحقائب الى مكان آمن في المدينة ويقومون بفتحها وتصوير محتوياتها من وثائق
لقد دفع هذا الامر رئيس “الموساد” ايسر هاريل الى اعلان حالة طواريء استخباراتية شاملة في كل زاوية في مقر الوكالة، وبدأت البرقيات تتطاير الى كل محطات “الموساد” في اوروبا لجمع كل ما امكن من المعلومات عن الالمان الذين شاركوا في مشروع عبد الناصر وامكانية تجنيدهم للعمل مع العملاء الاسرائيليين، حتى لو اقتضى الامر استخدام القوة معهم. على الفور، بدأ عملاء “الموساد” العمل على خرق البعثات الدبلوماسية المصرية في اوروبا لتصوير ما لديها من وثائق، ومن ضمن هذه العمليات تجنيد عامل سويسري في الخطوط الجوية المصرية في زيوريخ، اتاح لعملاء “الموساد” الإستحصال على حقائب البريد الدبلوماسي المصري ليلا مرتين في الاسبوع، حيث كانوا يأخذون الحقائب الى مكان آمن في المدينة ويقومون بفتحها وتصوير محتوياتها من وثائق، قبل ان يعيدوا اغلاقها بطريقة احترافية تحول دون معرفة انها سبق ان فتحت، ويعيدوها الى مقر الخطوط الجوية المصرية في الليلة نفسها. لقد ادى ذلك بعد فترة وجيزة الى ان يكوّن “الموساد” فكرة عن برنامج الصواريخ المصرية وكل القيمين عليه من اجانب ومصريين.
وتبين لجهاز “الموساد” من خلال تلك الوثائق، يقول بيرغمان، ان من اطلق مشروع تطوير الصواريخ المصرية هما العالمان الالمانيان الدكتور ايوجين سانجر وولفاغنج بيلتز اللذان كان لهما الدور الاساس خلال الحرب العالمية الثانية في مركز الابحاث التابع للجيش الالماني في قاعدة “بينينموند”. وقد انضم هذان العالمان في العام 1954 الى مركز ابحاث فيزياء الدفع النفاث في مدينة شتوتغارت الالمانية الذي ترأسه سانجر نفسه، فيما تولى بيتلز رئاسة اقسام المركز ومعه عالمان ألمانيان خدما في صفوف الجيش الالماني، هما الدكتور بول غورسكي والدكتور هانس كراغ. وقد شعرت هذه المجموعة من العلماء انها لم تنل ما تستحقه من مراكز عمل ومستحقات مالية بعد الحرب العالمية، فلجأ افرادها في العام 1959 الى التواصل مع النظام المصري وعرضوا خدماتهم لتطوير برنامج صواريخ ارض-ارض البعيدة المدى. وافق عبد الناصر على تجنيدهم وعيّن احد اقرب مستشاريه العسكريين الجنرال عصام الدين محمود خليل لتنسيق البرنامج والانطلاق به، وكان هذا الجنرال مديرا للمخابرات الجوية المصرية.
انشأ الجنرال خليل قسما خاصا لهذا البرنامج كان منفصلا عن منظومة الامرة والقيادة للجيش المصري، وبدأ وصول الدفعة الاولى من العلماء الالمان الى مصر في نيسان/أبريل من العام 1960، وفي اواخر ذلك العام كان كل من سانجر وبيلتز وغورسكي قد تموضعوا في مصر ومعهم 35 عالما وفنيا المانيا. وتضمن المجمع الذي عاشوا فيه حقول اختبار ومختبرات واماكن سكنية فاخرة اضافة الى رواتب خيالية وبقي الدكتور هانس كراغ في المانيا حيث انشأ شركة تجارة دولية كانت عبارة عن غطاء اوروبي لتزويد مجموعة مصر بما تحتاجه من معدات ومواد.
حصل عملاء “الموساد” من الحقائب الدبلوماسية المصرية على رسالة موقعة من العالم الالماني بيلتز نفسه تعدد كل القطع التي يحتاج الى ان يستحصل عليها فريق العلماء لصناعة 900 صاروخ للجيش المصري
ويقول بيرغمان انه كلما كانت المعلومات تتدفق الى مقر “الموساد” عن عمل هذه المجموعة، كلما كان الهلع يزداد لدى قادة “الموساد”، ففي 16 اغسطس/اب من العام 1962، حصل عملاء “الموساد” من الحقائب الدبلوماسية المصرية على رسالة موقعة من العالم الالماني بيلتز نفسه تعدد كل القطع التي يحتاج الى ان يستحصل عليها فريق العلماء لصناعة 900 صاروخ للجيش المصري، ويضيف ان هذه الوثيقة اوقعت قادة “الموساد” في حالة من الذعر لان هذا العدد من الصواريخ كان هائلا بالنسبة إليهم وما كان اسوأ من هذا الرقم هو ما تضمنته الوثيقة عن تزويد الصواريخ برؤوس مشعة وكيميائية. وقد استدعى ذلك دعوة بن غوريون الى اجتماع عالي المستوى سأل فيه ايسر هاريل عن خطته لمواجهة الامر. فكان رد الاخير انه طالما ان المشروع الصاروخي لم يصل الى درجة الانتاج، فهو يحتاج الى العلماء الالمان. كانت خطته تقضي بان يخطف او يقتل هؤلاء العلماء الالمان للحؤول دون نجاح المشروع.
وفي نهاية شهر اغسطس/اب، سافر هاريل في جولة اوروبية لوضع خطته موضع التنفيذ، ولما فشلت كل مساعي عملائه في تحديد مكان اقامة بيلتز، قرر هاريل ان يركز عمله ضد العالم كراغ. ويروي بيرغمان تفاصيل مثيرة عن عملية خطف كراغ قائلا انه في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الاثنين في العاشر من سبتمبر/ايلول 1962 اتصل هاتفيا شخص بالعالم كراغ في منزله وقدم نفسه على انه يدعى (قاهر صالح)، وقال انه يتكلم نيابة عن العقيد سعيد نديم كبير مساعدي الجنرال محمود خليل، وقال له ان العقيد نديم الذي يعرفه كراغ شخصيا يود اللقاء به بخصوص امور مهمة جدا، وكان صالح يتحدث بلغة ودودة جدا، وقال له انه يقيم فندق “امباسدور” في ميونيخ وان الامر الذي يود العقيد نديم ان يحدثه به يتضمن صفقة تدر على كراغ ارباحا كبيرة ولا مجال لمناقشتها في مقر الشركة التي يتولى رئاستها بسبب طبيعتها الخاصة.
لم ير كراغ ما يثير الريبة في الموضوع وقَبِلَ دعوة صالح للقاء، ولكن الاخير لم يكن سوى احد عملاء “الموساد” القدماء ويدعى “عيديد” وهو من مواليد العراق، وقد درس في مدارس بغداد الى جانب المسلمين وتعلم كل تقاليد حياتهم ناهيك عن تمكنه من اللغة العربية بصورة جيدة، وكان ناشطا سريا صهيونيا هناك حتى العام 1949 حين فر من العراق قبل وقت قليل من اكتشافه ومحاولة القبض عليه، وقد عمل بعدها مع “الموساد” في عمليات عديدة ضد اهداف عربية.
إتفق “عيديد” مع كراغ ان يلاقيه في مقر الشركة في اليوم التالي حتى يأخذه الى الفيلا التي يقطن فيها العقيد نديم خارج المدينة، وهذا ما حصل، اذ جاء “عيديد” في اليوم التالي الى مقر الشركة بسيارة تاكسي من نوع “مرسيديس”، وكان كراغ سعيدا بمجيئه من دون ان يراوده ادنى شك بهويته الحقيقية الى درجة انه طلب منه ان يدخل الى مكاتب الشركة، حيث قدمه إلى الموظفين قبل ان يغادرا معا بالتاكسي. وينقل بيرغمان عن “عيديد” قوله “كانت هناك كيمياء بيننا عندما كنت اطري على شخصيته خلال تبادلنا الحديث في السيارة وكنت اقول له اننا في المخابرات المصرية نقدر عاليا خدماته واسهاماته في ما اخذ هو يخبرني بدوره عن المرسيديس الجديدة التي إقتناها”.
نجاح عملية خطف كراغ زادت حماسة بن غوريون، فأعطى الضوء الاخضر لعمليات قتل اخرى، كما اقر باستخدام الوحدة رقم 188 في الاستخبارات العسكرية “امان” لتنفيذ الامر
وصلت السيارة الى الفيلا التي كان يفترض ان تكون مقر اقامة العقيد نديم، وعندما خرج كراغ من السيارة فتحت له مدخل الفيلا سيدة وادخلته من دون ان يدخل “عيديد”، وفي الغرفة التي دخلها كان هناك ثلاثة عملاء من “الموساد” عاجلوا كراغ ببضع لكمات ورموه ارضا قبل ان يكبلوه وقام طبيب فرنسي يهودي بفحصه حيث رأى انه تحت وقع الصدمة ونصح بعدم اعطائه اية مسكنات وبادره احد عملاء “الموساد” بالقول باللغة الالمانية “انت الان سجين لدينا فاما ان تفعل ما نقوله لك او اننا سننهي حياتك الان”، فوعده كراغ بالتعاون.
تم نقل السجين كراغ في عربة تجرهها سيارة “فولسفاكن” وانطلق موكب الجميع، ومن ضمنهم ايسر هاريل، برا نحو الحدود الفرنسية، وفي الطريق توقف الموكب في احدى الغابات حيث ابلغ هاريل العالم الألماني كراغ انه اذا اتى بأية حركة مشبوهة عند المرور على الحدود، سيعمل سائق العربة على بث نوع من السم يقضي عليه على الفور. مرت الامور بسلام على الحدود ووصل الموكب الى مدينة مارسيليا الفرنسية حيث جرى تخدير كراغ قبل نقله على متن احدى طائرات شركة “العال” التي كانت تتولى نقل اليهود المهاجرين من شمال افريقيا الى “اسرائيل”، وقال عملاء “الموساد” لضباط المطار ان كراغ هو مهاجر مريض جدا لتبرير تخديره، في ما تولى عملاء اخرون بث معلومات مغلوطة تضمنت صورا لشخص يشبه كراغ، وهو يتنقل حاملا حقيبة وثائق في امريكا الجنوبية للايحاء بان كراغ قبض الاموال من المخابرات المصرية وفر، وبشكل مواز، سربت وكالة “الموساد” الى الاعلام ان كراغ تشاجر مع الجنرال خليل وجماعته، ما ادى الى اعتقاله وقتله من قبل المخابرات المصرية.
ويضيف بيرغمان، في “اسرائيل” جرى التحفظ على كراغ في احد المقرات السرية لـ”الموساد” حيث أخضع لتحقيق قاس لعدة اشهر، في البداية، لزم السجين الصمت ولكن مع الوقت انهار، وبدأ بالتعاون وقدما معلومات غاية في الاهمية، بحسب ما يقول تقرير لوكالة “الموساد” عن الواقعة، ويضيف التقرير “كان الرجل يتمتع بذاكرة قوية جدا ولديه معلومات تفصيلية دقيقة جدا عن البرنامج الصاروخي المصري في ما كانت الوثائق في حقيبته ايضا تتضمن معلومات قيمة”.
بعد ان انتهى التحقيق معه عرض كراغ ان يعود الى ميونيخ ويتعاون مع “الموساد”، وقد اغرت الفكرة عملاء الوكالة لكن ايسر هاريل راى فيها مخاطرة كبيرة خشية ان يقوم السجين بتسليم نفسه للشرطة ويروي واقعة خطفه فقرر ما هو اسهل، اذ امر احد رجاله بنقل كراغ الى منطقة نائية شمال تل ابيب واطلاق النار عليه قبل ان تقوم طائرة عسكرية اسرائيلية باخذ جثته ورميها في البحر.
نجاح عملية خطف كراغ زادت حماسة بن غوريون، فأعطى الضوء الاخضر لعمليات قتل اخرى، كما اقر باستخدام الوحدة رقم 188 في الاستخبارات العسكرية “امان” لتنفيذ الامر. يقول بيرغمان ان هذا الامر اطلق منافسة حامية بين “الموساد” و”امان” لتنفيذ عمليات القتل.
(*) في الحلقة المقبلة: اغتيالات جديدة تحضيرا لحرب العام 1967