“الردع المتبادل”.. حرب أميركيةـ روسية باردة في الجو

تظهر الطائرات العسكرية لحلف شمال الأطلسي، بما في ذلك القاذفات القادرة على حمل أسلحة نووية، بشكل متزايد على الحدود الروسية. لماذا يزداد هذا الظهور العسكري بالقرب من روسيا؟ الإجابة المختصرة على هذا السؤال، بحسب صحيفة "فزغلياد"، هي أن الجيش الأميركي يضع أهدافاً محددة لشن ضربات على الأراضي الروسية.

تواتر ظهور طائرات مقاتلة واستطلاعية للحلف الأطلسي بالقرب من حدود روسيا، جعل وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يتحدث بصراحة مؤخراً، واصفاً هذا النشاط بأنه “مثير مقلق”، لا سيما بعدما بدأت الطلعات الجوية تتخذ أشكالاً أكثر عدائية، من بينها محاكاة لضربات صاروخية على الأراضي الروسية.

الأميركيون معتادون على جني الأموال من كل شيء، بما في ذلك الحروب، التي تعتبر بالنسبة إليهم تجارة جيدة. حتى الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه لفت الانتباه إلى ذلك، حين أشار إلى أن البنتاغون “يسعى لشن الحروب من أجل المساهمة في إثراء المجمع الصناعي العسكري في البلاد”. وبحسب قوله، فإن المؤسسة العسكرية الأميركية مستعدة للانخراط في أي قتال من أجل إسعاد شركات السلاح.

لكن ما قاله ترامب لا يعني أنه بعيد عن هذه التوجهات، هذا على الأقل ما تظهره أرقام الميزانية العسكرية الأميركية للسنة المالية 2020، التي ارتفعت إلى 738 مليار دولار (وقعها ترامب بنفسه) لتتجاوز الميزانية السابقة بمقدار 22 مليار دولار.

بحسب الرئيس الأميركي، فإن نمو الإنفاق الدفاعي يُفسَّر باحتمال اندلاع صراع أميركي أكثر نشاطا مع روسيا والصين، وهو يشدد على أن الإنفاق لن يقتصر على بناء القواعد العسكرية وتدريب القوات فحسب، بل يشمل إنتاج أحدث الأسلحة.

لقد شرع البنتاغون في وضع ميزانية الدفاع، ومن بين الأعمال التي تم تحديدها في هذا السياق كان احتواء “العدوانية” الروسية من خلال السيطرة على المجال الجوي الروسي عبر الطلعات الاستطلاعية واستعراض القوة الجوية.

لكن هذا ليس سوى الجزء المرئي من جبل الجليد في شرح أسباب تكثيف تحركات الطيران الأميركي بالقرب من حدود روسيا، إذ ثمة جوانب عسكرية اكثر خطورة.

تتركز مصالح الاستطلاع الجوي للاميركيين حالياً في الشرق الأقصى وفوق بحر البلطيق، حيث يبدو نشاط رحلاتهم واضحاً. كذلك تم رصد عيونٍ وآذانٍ أمريكية تحلق في البحر الأسود وفي منطقة القطب الشمالي

على مدى عقود من الحرب الباردة، ثم في فترة العلاقات الروسية – الأميركية، كان الهدف الرئيسي من هذه الطلعات يتمثل في أنشطة الاستخبارات. كانت طائرات الاستطلاع الأميركية تحلق ليلاً ونهاراً ليس فقط بالقرب من حدود الاتحاد السوفياتي، بل في عمق الأراضي السوفياتية، وقد انتهت بإسقاط طائرة”يو-2″ في الأول  من أيار/مايو 1960 بالقرب من سفيردلوفسك (ايكاترينبرغ حالياً)، وكان يقودها الطيار فرانسيس باورز.

اليوم، لا تجرؤ الطائرات العسكرية الأميركية على انتهاك المجال الجوي الروسي، لكنها تستغل كل فرصة من أجل إجراء استطلاع جوي في المنطقة المجاورة مباشرة لحدود روسيا.

الغرض من هذه الطلعات هو الكشف عن الوضع الإلكتروني، وتحديد أساليب عمل القوات الروسية، ورصد إحداثيات أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات وراداراتها، واعتراض المعلومات من خطوط الاتصال اللاسلكية بين المقرات، وتقييم قدرات تجمعات القوات المنتشرة في مختلف مناطق البلاد.

يقول الخبير العسكري الكسندر دروبيشيفسكي لصحيفة “فزغلياد” إن هذه ممارسة شائعة في استخبارات العديد من البلدان، موضحاً “بعد كل شيء، نحن أيضاً نراقب عن كثب خصماً محتملاً، ويجب أن نعرف ببساطة خطط وقدرات منافسينا المحتملين”، لكنه يشدد على أن “هناك ممارسة معينة، نوع من “ميثاق الشرف”، بموجبه لا يجب أن تؤثر الأنشطة الاستخباراتية في سلامة المدنيين”، مضيفاً “نحن لا نخالف هذه القواعد، لكن الأميركيين بدأوا يتصرفون علانية، بغطرسة وتهور، وهم على وشك ارتكاب خطأ ما، ونشاطهم الآن ملحوظ في العديد من المجالات”.

يركز وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الآن على كثافة استخدام طائرات الاستطلاع بالقرب من حدود روسيا. هذا النشاط زاد أكثر من 30 في المئة مقارنة بالعام الماضي، فإذا كان قد تم تسجيل 87 طلعة في شهر آب/أغسطس 2019، فإن شهر آب/أغسطس الفائت سجل 120 طلعة، فيما يحلق الطيران الروسي لاعتراض طائرات الاستطلاع الأجنبية كل يوم تقريباً، أو حتى عدة مرات في اليوم، كما يقول شويغو.

تتركز مصالح الاستطلاع الجوي للاميركيين حالياً في الشرق الأقصى وفوق بحر البلطيق، حيث يبدو نشاط رحلاتهم واضحاً. كذلك تم رصد عيونٍ وآذانٍ أمريكية تحلق في البحر الأسود وفي منطقة القطب الشمالي. في الواقع، إنهم يحاولون إخضاع جميع حدود روسيا للسيطرة الكاملة، مع العلم بأنه لم تتم ملاحظة مثل هذا النشاط حتى خلال الحرب الباردة. مناطق تحليق طائرات الاستطلاع محددة بوضوح: مواقع محطات الدفاع والدفاع الجوي وأنظمة الدفاع الصاروخي ورقع انتشار التجمعات البرية والبحرية.

علاوة على ذلك، تحلق طائرات التجسس بشكل متزايد في أجواء سوريا. على سبيل المثال، في حزيران/يونيو الماضي، قامت طائرات P-8A Poseidon و Aries II بدوريات لفترة طويلة في دائرة ليست ببعيدة عن قاعدة حميميم، حيث تتمركز القوات الجوية الروسية، وعن ميناء طرطوس، حيث توجد قاعدة لوجستية للبحرية الروسية.

إقرأ على موقع 180  أميركا ضلَّت طريقها في مكافحة الإرهاب.. وفشلت

لم تكن هذه المرة الأولى التي يولي فيها الاستطلاع الجوي الأميركي اهتماماً وثيقاً بالمنشآت العسكرية الروسية في سوريا.

يشي ذلك بأن الأميركيين يسعون لكسر نظام الدفاع الجوي الروسي مستقبلاً من مسافة بعيدة، بواسطة صواريخ كروز، وبعد ذلك سيكون بإمكانهم، نظرياً، تحميل القنابل إلى الأهداف المحددة، بعد تحييد أي تهديد روسي

ثمة ميزة جديدة لـ”الرحلات الجوية” الأميركية قرب حدود روسيا، وهي أنها لم تعد تقتصر على طائرات الاستطلاع، بل باتت القاذفات تشارك فيها بشكل متزايد. في كثير من الأحيان، تظهر القاذفات الاستراتيجية “بي- 52 – اتش”، وهي قادرة على حمل أنواع مختلفة من الأسلحة التقليدية والدقيقة والنووية.

لا بد من الإشارة الى أن قاذفة “بي-52” (دخلت الخدمة في القوات الجوية الأميركية منذ عام 1955) قد تم تطويرها بهدف رئيسي يتمثل في توصيل قنبلتين نوويتين حراريتين عاليتي القوة إلى أية نقطة في الاتحاد السوفيتي. الآن يقول وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إن هذه الطائرات مدربة لمحاكاة الضربات الصاروخية، والتي بطبيعة الحال لا يمكن إلا أن تكون مثيرة للقلق.

في الوقت نفسه، تحلق القاذفات الأميركية بثقة في منطقة تشغيل نظام الدفاع الجوي الروسي و”تظهر” بشكل مباشر على الرادارات.

يقول اللفتنانت جنرال أيتيك بيزيف إن الهدف الأساسي من تحركات الطائرات الحربية الأميركية بالقرب من الحدود الروسية هو استفزاز قوات ووسائل الدفاع الجوي وقوات الفضاء الروسية للكشف عن قدراتها.

ضمن هذا السياق، فإن إمكانات القاذفات الاستراتيجية يمكن أن تكون أفضل من قدرات طائرات الاستطلاع، ذلك أن قاذفات “بي-52” ليست مزودة بالأسلحة فحسب، بل أيضاً بالمعدات التي تسمح بالمسح على مسافة تصل إلى 800 كيلومتر.

ولدى القوات الجوية الأميركية برنامج يسمى “Giant Piggy Bank”، يتم من خلاله تسجيل إحداثيات جميع الأهداف على الأراضي الروسية: الأهداف الاستراتيجية، المطارات العسكرية، مواقع أنظمة الدفاع الجوي، وما إلى ذلك. إنهم يقومون بتحديثه باستمرار، بما في ذلك من خلال رحلات استطلاعية منتظمة بالقرب من الأراضي الروسية.

ليس الهدف هنا هو تنفيذ ضربات جوية، وإنما الكشف عن جيوب المقاومة المحتملة للدفاع الجوي. كذلك يختبر الطيارون خطوط الطيران إلى مسارح العمليات العسكرية المحتملة، ويحددون الطرق.

يشي ذلك بأن الأميركيين يسعون لكسر نظام الدفاع الجوي الروسي مستقبلاً من مسافة بعيدة، بواسطة صواريخ كروز، وبعد ذلك سيكون بإمكانهم، نظرياً، تحميل القنابل إلى الأهداف المحددة، بعد تحييد أي تهديد روسي.

من حيث المبدأ، يتصرف الروس بنفس الطريقة، فطائرات “توبوليف 160″ و”تو 95”  تحلق على طول ساحل ألاسكا والولايات المتحدة للغرض ذاته.

كل هذا متعة باهظة الثمن. تبلغ تكلفة الساعة التي تقضيها القاذفة الشبح “بي-2” في السماء حوالي 130 ألف دولار، في حين تقل الكلفة قليلاً بالنسبة للطائرة “بي-52 اتش”، مع الاشارة الى أنها تقوم بدوريات جوية لمدة 10-12 ساعة.

تسمح ميزانية البنتاغون بهذا الإنفاق، خصوصاً أن الهدف ثمين، وهو فتح الدفاع الجوي الروسي.

روسيا بدورها تنفق الأموال بجدية على هذه الطلعات الاستراتيجية.

كل هذا يسمى “الردع المتبادل” الذي لا ينبغي أن يؤدي إلى عدوان متبادل قد تكون كلفته باهظة على الطرفين.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  بيرنز رئيساً لـ"سي أي آيه".. بلا "عصا سحرية"