تمر هذا الأسبوع الذكرى الخمسون لرحيل جمال عبد الناصر عن عالمنا، وستخرج الكتابات، بعضها يتمنى لو كان العمر قد امتد به وسار على نفس السياسات التى كانت لصيقة بحكمه منذ انفرد بقيادة مصر بعد أزمة مارس فى فبراير ــ مارس ١٩٥٤، وبعضها الآخر قد يذهب إلى حد تمنى لو كانت أزمة مارس هذه قد انتهت بانتصار فريق محمد نجيب ــ خالد محيى الدين وأنصارهما خارج القوات المسلحة من القوى السياسية المدنية وفى الصدارة منها حزب الوفد و«الإخوان المسلمين» لكى يقودوا معا مصر، بحسب اعتقاد هذا الفريق ــ على طريق التطور الديمقراطى، وقد تذهب كتابات ثالثة أبعد من ذلك بتمنى لو أن ثورة يوليو ما كانت قامت من الأصل، وما عرفت مصر حكم العسكريين. بل بعض المتعاطفين مع روح هذه الكتابات يحنون إلى الحكم الملكى الذى لم يعايشوه، ويتحسرون على أن حكم الأسرة العلوية قد انتهى فى مصر. كل هذه تمنيات مشروعة، ولكنها لا تفيدنا كثيرا فى فهم ما جرى، ولا طرح الشروط الضرورية لكى تمضي مصر على الطريق الذى يريده البعض منا.
طبعا كل هذه التمنيات تستند إلى افتراض أن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكنها تغفل عن النصف الآخر من مقولة ذلك الفيلسوف الألمانى الذى أضاف أن البشر يصنعون التاريخ فى ظل أوضاع ليست من اختيارهم، ومن ثم سيكون من الحماقة محاولة تشكيل التاريخ بتجاهل هذه الأوضاع. ولذلك فالسؤال الذى يحاول هذا المقال الإجابة عليه هو ما هى تلك الأوضاع التى ألقت بظلالها على ما جرى فى مصر منذ ٢٣ تموز/يوليو ١٩٧٠ وحتى ٢٨ أيلول/سبتمبر ١٩٧٠، وهل من الممكن أن تكون هناك دروس مما جرى خلال تلك الفترة تعيننا على رسم خطانا فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، أم أن كل ما جرى خلال عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى انتمى إلى عهد مضى، ولا جدوى منه بعد أن تغيرت أوضاع العالم ومصر على نحو نقلنا إلى مسار جديد مختلف؟
***
تدور الانتقادات لنظام يوليو حول دور الجيش فى صنعه، ورفضه للرأسمالية، وسعيه لتحقيق العدالة الاجتماعية، وانتهاجه سياسة نشطة فى رفض التصالح مع إسرائيل وانخراطه فى الدعوة لمكافحة الاستعمار وتحقيق الوحدة العربية، وهى انتقادات مشروعة أيا كانت منطلقاتها، ولكن على أصحاب هذه الانتقادات أن يشرحوا كيف كان يمكن لمصر تجنب هذا الطريق. فكل ما فعله ذلك النظام كان يستجيب لأوضاع مصر فى أوائل الخمسينيات، وينسجم مع اتجاهات عامة طبعت مسار معظم الدول التى خرجت من السيطرة الاستعمارية فى آسيا وإفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية.
كان استمرار الحكم الملكى صعبا إلا بالتصالح من جديد مع حزب الوفد، حزب الأغلبية البرلمانية الذى قبل الملك فاروق صاغرا انتصاره الانتخابى فى تشرين الأول/أكتوبر ١٩٥٠ ليستغل أزمة حريق القاهرة بعدها بسنتين ليقيل حكومته فى كانون الثاني/يناير ١٩٥٢، ولم تكن هناك بوادر لرأب الفجوة بين الطرفين، وتصور الملك أنه كان يمكنه الاستمرار فى حكم البلاد من خلال أحزاب الأقلية، ولكن أيا من الحكومات الأربع التى تألفت خلال هذين العامين حتى تموز/يوليو ١٩٥٢ استنادا إلى أحزاب الأقلية لم تتراوح مدة بقائها فى السلطة بين يوم أو عشرين إلى أربعة شهور، ولم يكن لدى الملك استعداد للدعوة لانتخابات جديدة كان يعرف مقدما أنها ستأتى بخصم العرش العتيد للحكم، حتى ولو كان الوفد قد أصبح أكثر استعدادا فى تلك السنوات لمسايرة الملك. ومن ناحية أخرى لم يكن لدى القوى السياسية المنظمة أية نية للثورة على الملكية أو الإطاحة بشخص الملك فاروق. ومع استمرار عدم الاستقرار السياسى أصبح الباب مفتوحا لدخول لاعب جديد غير من قواعد اللعبة تماما بما سمى فى البداية بالحركة المباركة التى أصبحت بعد ذلك ثورة ٢٣ يوليو.
ولكن لماذا لم يعد ضباط يوليو النظام الحزبى السابق، وسارعوا فى ١٦ كانون الثاني/يناير ١٩٥٣ إلى إلغاء الأحزاب السياسية وأحلوا محلها التنظيم السياسى الواحد بدءا بهيئة التحرير وانتهاء بالاتحاد الاشتراكى العربى مرورا بالاتحاد القومى بين ١٩٥٧ــ١٩٦٢. لم يكن الأمر بالنسبة للنظام السياسى محسوما بينهم، لا فى ٢٧ تموز/يوليو ١٩٥٢ عندما ناقشوا هذه المسألة، ولا فى شباط/فبراير ــ آذار/مارس ١٩٥٤ عندما تصارعوا حولها. نتيجة الصراع معروفة، ولكن السؤال الجدير بالاهتمام هو لماذا هزم فريق محمد نجيب – خالد محيى الدين وأنصارهما من القوى السياسية فى الوفد والإخوان المسلمين خلال هذين الشهرين؟ هل كان ذلك فقط لأن أغلبية مجلس قيادة الثورة بزعامة جمال عبدالناصر تمكنت من كسب تأييد معظم ضباط القوات المسلحة، وردع أى مقاومة من جانب ضباط سلاح الفرسان الذى اعتمد عليه خالد محيى الدين، واستخدمت القهر ضد النقابات العمالية وشلت قدرة القوى المدنية على التحرك بعد إضراب عمال النقل تأييدا لأغلبية أعضاء مجلس قيادة الثورة؟. هل كان انتصار الفريق الذى دعا إلى استمرار الثورة ضد الفريق الذى دعا إلى العودة إلى الديمقراطية هو بسبب امتلاك الفريق الأول للقدرة على القهر أم أن الدعوة للديمقراطية لم يكن لها أنصار كثيرون بين المواطنين المصريين فى ذلك الوقت وقد سئموا عجز الوفد عن البقاء فى الحكم رغم أغلبيته، ولم تكف شعبية محمد نجيب بينهم لدفعهم للخروج إلى الشارع تأييدا له؟ ألم تجبر الجماهير السودانية ضباط الجيش على العودة إلى ثكناتهم فى 1964، 1985 وحاولت ذلك مرة ثالثة 11 نيسان/أبريل 2019.
***
التحول إلى السلطوية السياسية لم يكن ظاهرة مقصورة على مصر. بدأت الانقلابات العسكرية تطيح بحكومات مدنية منتخبة فى العديد من دول الجنوب، كانت البداية فى الشرق الأوسط بانقلاب حسنى الزعيم فى سوريا ثم تعددت هذه الانقلابات فى العراق 1958، وفى سوريا مرة أخرى فى 1961، و1963، وفى اليمن فى 1962 والجزائر فى 1965، وخارج الوطن العربى فى باكستان فى 1958 وتركيا 1960، وفى إندونيسيا 1965 والأرجنتين 1955، وسقطت معظم دول أمريكا الجنوبية تحت حكم العسكريين منذ 1964 بداية بالبرازيل ولحقتها بيرو فى 1968 ثم أغلبية دول أمريكا الجنوبية فى السبعينيات. وهذه مجرد أمثلة. وعندما لم يكن العسكريون فى السلطة حلت نظم الحزب الواحد محل نظم تعددية الأحزاب فى إفريقيا فى غانا وغينيا ومالى وكينيا وساحل العاج وتنزانيا وزائير وغيرها.
كما لم يكن الإصلاح الزراعى فى مصر إجراء غير مألوف فى دول الجنوب، فقد أدخلت الولايات المتحدة فى كل من تايوان وكوريا الجنوبية فى بداية الخمسينيات فى القرن الماضى إصلاحا لملكية الأراضى نزل بحدها الأقصى إلى ما يعادل خمسة فدادين وحظرت بيع الأراضى، وهو ما فاق فى راديكاليته كل ما أقدمت عليه حكومة عبد الناصر حتى عندما نزلت بهذا الحد الأقصى إلى خمسين فدان فى سنة ١٩٧٠، بل ودعت حكومة كنيدى إلى تعميم الإصلاح الزراعى فى أمريكا الجنوبية فى أوائل ستينيات القرن الماضى فى إطار ما عرف بالتحالف من أجل التقدم.
لم يكن التحول إلى توسيع ملكية القطاع العام فى مصر حدثا فريدا فى دول الجنوب، فقد بدا النموذج الاشتراكى فى التنمية طريقا أسرع لتحقيق التنمية، كما أوحت بذلك نجاحات الاتحاد السوفيتى فى خمسينيات القرن الماضى والمقارنة بين ما بدا من استقرار جمهورية الصين الشعبية واعتمادها على قدراتها الذاتية مقارنة بالهند التى تعددت فيها أزمات الغذاء التى تطلبت دعما دوليا. صحيح أن تجربة الرأسمالية المصرية قبل ١٩٥٢ لم تكن تجربة فاشلة، وقد قدر الاقتصاديون معدل النمو طوال الفترة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف الخمسينيات بنحو ٥٪ سنويا، ولكن لم يبد هذا المعدل طموحا بنسبة كافية لقيادات الضباط الأحرار، كما خشيت الشريحة العليا من هذه الرأسمالية من توسع ملكية الدولة بعد تمصير الشركات البريطانية والفرنسية فى أعقاب هزيمة العدوان الثلاثى فى كانون الأول/ديسمبر ١٩٥٦. ولم تكن نظرة الضباط الأحرار للرأسمالية نظرة ودية، فقد كان أحد مبادئهم الستة هو القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، ولا شك أن توسع ملكية الرأسماليين المصريين كان سيبعث فى نفوسهم الخوف أن تتحول ثرواتهم إلى قاعدة للنفوذ السياسى كما كان الحال قبل الثورة. أضيفوا إلى ذلك كله إعجاب عبد الناصر بتجربة التخطيط فى الهند، وعلاقاته الوثيقة مع الزعماء الصينيين، وصداقته لرئيس يوغوسلافيا الشيوعية جوزيب بروز تيتو.
***
قد تتفقون معي على أن تلك كانت روح العصر فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، وقد تغيرت الأوضاع كثيرا فى مصر والوطن العربى والشرق الأوسط والعالم كله منذ ذلك التاريخ. سقطت الاشتراكية وسقطت نظم الحزب الواحد، وانتقل العالم من نظام القطبية الثنائية حثيثا إلى نظام تعدد القوى فهل نعيد الماضى أم نتعلم منه؟ الجواب هو أن نستخلص الدروس من الإجابات التى قدمتها تلك الفترة لتحديات التطور السياسى والاقتصادى والاجتماعى لمصر ولسياستها الخارجية. وسوف نسعى لاكتشاف خلاصة تفاعل الماضى والحاضر.
أولا: صحيح أن ضباط يوليو كانوا لا يرفضون العمل السياسى الجماهيرى، ولكنهم بحسب تصور عبد الناصر نفسه فى فلسفة الثورة كانوا يتصورونه استنساخا لتقاليد العمل العسكرى، فالقيادة تصدر الأوامر وعلى الجماهير تلبية النداء، دون أن يكون للأخيرين الحق فى المبادرة، ولا السماح بإظهار أى اختلافات في ما بينهم وبين القيادة. شعار الثورة الأول كان: الاتحاد ــ النظام ــ العمل، وهو شعار لا يفسح المجال لأى عمل سياسى فيه اختلاف فى وجهات النظر، وحوار ينتهى إما باتفاق أو أن يحتفظ كل فريق بوجهة نظره، ويترك الأمر للمواطنين فى انتخابات حرة تقرر من هو الأجدر بالتأييد لفترة زمنية تحددها آجال شغل المناصب المنتخبة أو التنفيذية العليا.
ثانيا: أن الدور الأساسى للقوات المسلحة هو الدفاع عن الوطن، وأنه حق مشروع لضباط القوات المسلحة أن يمارسوا العمل السياسى مثلهم مثل غيرهم من المواطنين ولكن بشرط ترك مناصبهم فى القوات المسلحة، وعدم اتخاذ القوات المسلحة موقفا من قضايا الخلاف فى السياسة الداخلية. والجدير بالذكر أن تلك كانت دعوة عبد الناصر لزملائه من الضباط الأحرار فى سنة ١٩٥٦، ولكن انتهى الأمر بأن أوكل لنائبه الأول ووزير الدفاع شمس بدران وبعض المؤسسات الأمنية فى القوات المسلحة أدوارا فى السياسات الداخلية والخارجية، وعلى الرغم من التوتر الذى نشأ عن أخطاء نائبه القائد الحقيقى للقوات المسلحة أثناء العدوان الثلاثى فى ١٩٥٦، وفى سوريا فى ١٩٦١، ثم فى النزاع حول اختصاصاته فى سنة ١٩٦٢، إلا أنه قبل بتوسع هذا الدور، وكان ذلك من أحد أسباب الهزيمة العسكرية فى سنة ١٩٦٧.
ثالثا: أن طريق التنمية المتوازنة فى مصر هو بتكاتف كل قوى وقدرات الوطن فى مشروع يعكس الأولويات الصحيحة للاقتصاد والمجتمع فى مصر بتضافر مؤسسات القطاعين العام والخاص فى تنفيذ خطط للتنمية وفقا لهذه الأولويات.
رابعا: أن السياسة الخارجية يمكن أن تقدم أفضل الدعم للسياسات الداخلية الساعية لتحقيق التنمية، وذلك عندما تكون لها رسالة واضحة، وعندما تقيم الجسور مع كل الدول وخصوصا العربية والإفريقية والمتوسطية استفادة من التعاون مع هذه الدول ولبناء مصالح مشتركة تجد معها هذه الدول حافزا يدعوها للوقوف إلى جانب مصر عندما يواجهها تهديد من طرف يسعى للإضرار بها.
***
دروس كثيرة يمكن أن نستخلصها من تجربة مصر فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى ولا نخرج معها عن روح العصر الجديد.
(*) نقلا عن موقع “الشروق“