أولاً، برغم الكر والفر، كانت المناظرة أقل حدة من سابقتها بين ترامب وبايدن وكانت أيضا أكثر إحتراما للذات أولاً وللرأي العام ثانياً، مقارنة بما جرى بين ترامب وبايدن في المناظرة الأولى. بنس وهاريس كانا حذرين وحاولا ـ ولو بنسب متفاوتة ـ أن يلتزما بقواعد النقاش الذي أدارته بنجاح سوزان بايج (69 عاما) مديرة مكتب صحيفة “يو إس إيه توداي” بواشنطن والصحافية في “الراديو الوطني” (NPR).
لقد حاول بنس السيطرة على النقاش فقاطعته سوزان بايج لتوقفه أكثر من مرة لإستمراره في الحديث أكثر من الوقت المحدد له، وفعلت الأمر نفسه لكن بدرجة أقل مع كامالا هاريس. حاول بنس عدة مرات أن يعود للمواضيع التي حسمتها بايج، وهذا ما جعله يظهر بموقع الضعيف خاصة أمام منافسة حديثة في المناظرات التلفزيونية. بذلك إستطاعت هاريس تسجيل أكثر من نقطة في مرمى نائب الرئيس.
ثانياً، إستطاع مايك بنس أن يسجل بعض النقاط على هاريس، لا سيما عندما كان يدير النقاش ناحيته. ظل محافظا على رباطة جأشه حين أشارت كامالا هاريس الى سجل الرئيس الأميركي المشين بحق الجنود الذين قتلوا في الحروب، وقال عنهم “خاسرون وموتهم لا ينفعهم”، وهذا الدفاع وحده كاف لكي يظهر نائب الرئيس ولاءه لترامب، وكأنه كان يتحدث مباشرة الى الرئيس الذي يحب الولاء المطلق له، بينما لم يكن الأمر كذلك مع هاريس التي كانت تحرص على أن يكون خطابها موجهاً للشعب الأميركي.
ثالثاً، حاولت هاريس أن تبدي حرصاً على وحدة الولايات المتحدة ولم شمل الشعب الأميركي، وبالتالي دعت إلى التصويت في الإنتخابات بصرف النظر عمن سيكون الفائز، وذلك على عكس بنس الذي رفض الإجابة على سؤال حول نية الرئيس تسليم السلطة في حال خسارته، وأكد أن ترامب سيربح الإنتخابات!
رابعاً، كلما نظرت كامالا هاريس نحو مايك بنس، كان يتعمد غض الطرف عنها، وهذا بسبب تطرفه الديني الذي ظهر حين وصل النقاش الى مسألة المحكمة العليا ومحاولة الإدارة أن تمرر تعيين إيمي كوني باريت “المسيحية الصلبة” (على حد وصف بنس لها)، وذلك خلفاً للقاضية اليسارية الراحلة روث بادر غينسبورغ، فما كان من هاريس إلا أن هاجمته، وقالت إن بايدن إذا فاز بالرئاسة سيكون ثاني رئيس مؤمن كاثوليكي بعد جون كينيدي وهذا جعل ينس يُصُّر على أسنانه ويكبت مشاعره.
خامساً، في الموضوع العرقي، خاطبت هاريس خصمها قائلة له إنها ترفض أن يُنظّر عليها بالقوانين “أنا التي كتبت القانون في ولاية كاليفورنيا الذي يعد مثالا للأمة”. هنا حاول بنس أن يدلل على أن الإدارة الحالية هي الإدارة التي تعمل وتؤمن “بالقانون والأمن”، وهذه النقطة تثير إهتمام الرأي العام الأميركي في ضوء ما حصل من غليان ومظاهرات وأعمال شغب وعنف منذ مقتل جورج فلويد وبريانا تايلور منذ أشهر حتى يومنا هذا. حاول بنس أيضاً أن يخفف من وطأة وقع تحيز ترامب الى العنصريين بحجة التوازن، فما كان من هاريس إلا أن ذكرته بما قاله ترامب خلال مناظرة الأسبوع الماضي عندما خاطب جماعة “براود بويز” العنصرية المتطرفة “تراجعوا.. لكن إستعدوا” وهذه كانت نقطة قوية لهاريس التي أقرت أن بايدن وهي سيقبلان بحكم الشعب الأميركي أياً كانت النتائج.
ثمة مفارقة أنه بينما يحذر كثيرون من أن الولايات المتحدة أمام لحظة تاريخية، ثمة تعليقات على شبكات التواصل الاجتماعية كانت تركز على جزئية صغيرة جدا وهي تلك الذبابة السوداء التي حطت لدقيقتين على الشعر الأبيض لمايك بنس
سادساً، شنت هاريس هجوما على سياسة ترامب الإقتصادية في مواجهة جائحة كورونا حيث خسر أكثر من ثلاثين مليون من الأميركيين وظائفهم ومات أكثر من مئتين وعشرة آلاف شخص حتى الآن، وقالت إن سياسة بايدن ستقوم على إستحداث سبع ملايين وظيفة في البنية التحتية للطرق والجسور وانشاء الطاقة المستدامة والوصول الى إقتصاد نوعي من إنبعاثات حرارية محايدة في عام 2035 والى طاقة نظيفة في عام 2070. هنا حاول بنس أن يصف هاريس بالمعادية للطاقة المستخرجة من النفط، بما فيه “الحفر الأفقي” (فراكينغ) فأجابته هاريس بأن سياسته في هذا المجال “رجعية”، فرد عليها بأنها “ليبرالية”. وكما في مواجهة ترامب ـ بايدن، إستحوذ موضوع كورونا على حيز كبير من المناظرة بين بنس وهاريس. وعندما سئلت عن إستعدادها لتناول أي لقاح محتمل، قالت هاريس إنها ستثق فقط في آراء العلماء وليس ترامب الذي روّج من قبل لعلاجات لم تثبت فعاليتها، فيما رد بنس قائلا “من غير المعقول الاستمرار في تقويض ثقة الجمهور في اللقاح إذا ما أنتج خلال إدارة ترامب”، وتوجه إلى هاريس قائلا “سيناتورة، أطلب منك فقط، التوقف عن اقحام السياسة في حياة الناس”. يذكر أن بنس هو مسؤول وحدة مكافحة فيروس كورونا في البيت الأبيض، وقد حمل الصين مسؤولية انتشار الوباء ووعد بمفرداته العنصرية بـ”محاسبتها”.
سابعاً، في نهاية المناظرة التي جرت في جامعة يوتا في سولت ليك سيتي، صعد الأزواج إلى المنصة. زوجة بنس لم ترتد القناع الواقي من كورونا، بينما إرتدى زوج هاريس القناع، برغم أنه تمت زيادة المسافة الفاصلة بين هاريس وبنس خلال المناظرة ووضعت حواجز زجاجية على جانبي كل واحد منهما (3.6 متر) من أجل التقليل من إمكانية انتقال عدوى الفيروس، خاصة في ظل الإعتقاد السائد أن ترامب ربما كان يحمل الفيروس خلال مناظرته مع بايدن، وأنه ربما نقل العدوى إلى منافسه وإلى مدير المناظرة كريس والاس (فوكس نيوز)، وإن كانت الاختبارات كشفت أنهما غير مصابين حتى الآن وما أن إنتهت المناظرة حتى قال ترامب إن بنس “فاز بفارق كبير”، فيما قال بايدن إن هاريس “جعلت الجميع يفخرون هذه الليلة”.
ثامناً، إستحوذ موضوع الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين وتدخل الروس في الإنتخابات الرئاسية الأميركية السابقة والحالية على حيز من المناظرة. إتهمت هاريس ترامب بأنه “خان أصدقاءنا واحتضن ديكتاتوريين في جميع أنحاء العالم”، فرد بنس بإستعراض إنجازات الإدارة ومنها نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وإتفاقات التطبيع بين عدد من دول الخليج العربي وإسرائيل، وقال ان الولايات المتحدة قتلت قاسم سليماني “قاتل آلاف الأميركيين” وأنهت وجود داعش وتمكنت من إعتقال قياديين في تنظيم “الدولة الإسلامية” ومنهم “جون الإنكليزي” الذي تم تسليمه إلى بريطاني، فكان رد هاريس أن تخبط الإدارة في العالم والشرق الأوسط كلف الأميركيين دماءً غالية خاصة أن روسيا وضعت “فدية” مقابل مقتل أي أميركي في أفغانستان وسوريا، وقالت لبنس “هل يعلم الرئيس وأنت ما معنى ذلك؟ إنه قتل لجنودنا وأننم لم تحركوا ساكنا ضد بوتين”؟
في الخلاصة، حققت هاريس في المناظرة أكثر من نقطة في مرمى بنس أكان في السياسة الخارجية أم في الإقتصاد أم في المسائل الإجتماعية. فبعد أربع سنوات من الحكم، وقف بنس مدافعا عن سجل رئيسه المنتفخ بالأنا والمتخبط والشاهد لا بل الدافع وراء هذا الإنقسام العامودي غير المسبوق في المجتمع الأميركي إلى حد جعل عدداً من الكتاب الأميركيين يحذرون من أن الولايات المتحدة مقبلة على حرب أهلية ثانية بشكل محتم، كما قال الكاتب والصحافي الأميركي توماس فريدمان.
ثمة مفارقة أنه بينما يحذر كثيرون من أن الولايات المتحدة أمام لحظة تاريخية، ثمة تعليقات على شبكات التواصل الاجتماعية كانت تركز على جزئية صغيرة جدا وهي تلك الذبابة السوداء التي حطت لدقيقتين على الشعر الأبيض لمايك بنس!