“تعلمت عظمة أميركا، كيف انقذت البشرية وقيمها في الحربين العالميتين؛ كيف فتحت ابوابها امام ملايين المهاجرين. فقد بنتهم وبنوها؛ كيف نجحت في صياغة دستور عبقري واعادة بناء نفسها بعد حرب اهلية مضرجة بالدماء. كيف تقدمت بالعلم والثقافة، الديمقراطية والاقتصاد العالمي. حرية، ديمقراطية، قوة عسكرية، حقوق انسان، نية طيبة، ثراء للفرد: القرن العشرون كان القرن الأميركي.
تعلمت ايضا كم هي رقيقة طبقة الطلاء الجميلة التي تغلف المجتمع الأميركي. تحتها يدور ظلم، جور، عنصرية، فساد سياسي، عنف. الاغنياء اصبحوا اكثر غنى؛ الطبقة الوسطى وهي العمود الفقري للمجتمع تتناقص؛ الفقراء يلقى بهم الى الخارج. مسار صار أكثر تطرفاً منذ ثمانينيات القرن الماضي. وترامب تدهور بها أكثر فأكثر. أميركا لا تزال بلاد الامكانيات غير المحدودة، شريطة أن تكون مليارديراً.
بايدن وترامب، رجلان أبيضان في السبعينيات من العمر، ينتميان لأميركا القديمة. 74 مليون طفل يعيشون في الولايات المتحدة. في العام 2020، اصبح الاطفال البيض اقلية (اليهود بالمناسبة هم جزء من الوسط الابيض. ليس دوما كان هذا هو الحال). في غضون عشرين سنة سيكون البيض هم الاقلية بالنسبة إلى عموم السكان.
ولكن عند اللون ينتهي وجه الشبه بينهما. بايدن هو سياسي مختص، مع قرابة 50 سنة أقدمية. جاء من ديلاوير، ولاية صغيرة، باقل من مليون نسمة، على خط الحدود التقليدي، خط مايسون – ديكسون. بين شمال الولايات المتحدة وجنوبها. عمليا هي ضاحية من بنسلفانيا المجاورة. مدينة كبيرة واحدة، فيلمغتون، مصانع دوبونت ومحطة قطار بين واشنطن وفيلادلفيا – هذا يلخص الى هذا الحد او ذاك ما يوجد لدى ديلاوير لان تعرضه.
تعلمت ايضا كم هي رقيقة طبقة الطلاء الجميلة التي تغلف المجتمع الأميركي. تحتها يدور ظلم، جور، عنصرية، فساد سياسي، عنف. الاغنياء اصبحوا اكثر غنى؛ الطبقة الوسطى وهي العمود الفقري للمجتمع تتناقص؛ الفقراء يلقى بهم الى الخارج
بحسب الدستور، تنتخب ديلاوير مندوبين لمجلس الشيوخ، تماما مثل كاليفورنيا التي بعدد سكانها اكبر باربعين ضعفا. وضرب حظ بايدن، ففي سن 30 تنافس على عضوية المجلس وفاز. مذاك وهو جزء من المؤسسة الواشنطنية. كان ضمن امور اخرى رئيس لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ، عرض ترشيحه للرئاسة مرتين وفشل. تولى لثماني سنوات منصب نائب الرئيس، بخلاف ما كان متوقعا كمرشح للرئاسة في عمر 78. هو “العم جو”، العم الثرثار الذي يملأ بوده اللجوج الغرفة. لا توجد كاريزما، يوجد قليل جدا من المفاجآت.
الانتخابات كانت على ترامب، وليس على بايدن. كل محاولات ترامب لتسويد وجه بايدن لم تنجح. فالاعلام الرسمي لم يشترِ القصص التي نشرها ترامب ورجاله، سواء لانها تعلمت الدرس من الاخطاء التي ارتكبتها قبل أربع سنوات ام لان بايدن لم يثر فيها الاهتمام الذي اثارته هيلاري كلينتون. وكان تقليل الاهتمام ببايدن ونائبته كاميلا هاريس خطوة مدروسة من الديمقراطيين. كان هذا قرارا سليما.
الاتحادات المهنية ايدت بايدن. بما في ذلك الافرو-أميركيين الذين يسكنون في المدن الكبرى في الدوائر الحرجة. وقد عرف كيف يصل الى رؤساء الجاليات، الوعاظ في الكنس. وقد اضفى عليهم شيئا من السحر الذي اضفاه عليهم الرئيس الذي ارتبط إسمه به: باراك اوباما.
ترامب جاء الى الرئاسة من منهاتن، نيويورك. الولاية التي ولد فيها واصبح مليارديرا. لم تنتخبه قبل أربع سنوات ولم تنتخبه هذه المرة. وقد انتخب في الانتخابات التمهيدية في الحزب كشخص من الخارج – رجل الاعمال الناجح، الملياردير، النجم التلفزيوني، عدو المؤسسة السياسية، الرجل الذي رمم الاقتصاد، والذي سيزج هيلاري كلينتون في السجن ويجفف مستنقع واشنطن. بل وسيعيد أميركا إلى عظمتها.
الشعبوية القومية المتطرفة، الانعزالية، كراهية الاجانب، الاحتقار للسياسة، والمحبة للسلاح هي جزء من التاريخ الأميركي
في سنوات ولايته الاربع، تبين ان رجل الاعمال لم يكن ناجحا جدا: نجاحه التجاري الوحيد كان جعل اسمه علامة تجارية ذات قيمة. المليارديريون مؤيدو ترامب اثروا بفضل تبرعاتهم لحملة الانتخابات والعلاقات مع دوائر الضغط التي اشتروا خدماتها. ومجموعة المصوتين الذين حصلوا على مقابل كامل لقاء استثمارهم في ترامب هم المسيحيون الانجيليون. فقد حصلوا على ثلاثة من اصل تسعة قضاة محافظين جدد، اغلبية مستقرة، لسنوات طويلة لقرارات حاسمة في القيم الاهم للمجتمع الأميركي. وهذا الارث سيبقى لسنوات بعد أن يُنسى اسم ترامب.
الشعبوية القومية المتطرفة، الانعزالية، كراهية الاجانب، الاحتقار للسياسة، والمحبة للسلاح هي جزء من التاريخ الأميركي. وفي العقد الماضي، سافرنا مع صديقين أميركيين، امرأة ورجل، يعملان في مهن حرة، بالطرق الجانبية لنيواينغلند. وكان الموسم خريفيا مثل اليوم. تحدثنا عن سلسلة العمليات (المسلحة) التي تعرضت لها أميركا: مجانين ذبحوا اطفال مدارس، ذبحوا مصلين، ذبحوا مجرد مشاة في الشارع. السهولة التي يمكن فيها الحصول على السلاح في الولايات المتحدة اثارت حفيظتنا، نحن الاسرائيليين، وافترضنا ان هكذا يشعر صديقانا ايضا. ولكننا اخطأنا.
قالا لنا انتم لا تفهمون كم هو هام السلاح لنا. لا تفهمون كم هذا الأمر أميركيا. وفي الحديث تبين انهما يحتفظان بترسانة من الاسلحة وانهما يتدربان عليها. ترامب قال لهما “بايدن سيأخذ منكم البنادق”، فصدقوا.
من صوّتوا لترامب هم رجال بيض من الطبقة الوسطى الدنيا. “جديرون بالشفقة”، على حد تعبير هيلاري كلينتون في تصريح بائس عشية الانتخابات السابقة. ولكن ليسوا هم فقط صوتوا له، في حينه والان. للترامبية مؤيدون في كل طبقات المجتمع: نساء أيضا، مؤمنون من كل الاديان ايضا. افرو-أميركيون ايضا. هسبانيون ايضا. يهود ايضا. “الناس عالقون في تاريخهم. التاريخ عالق فيهم”، كتب الشاعر الافرو-أميركي جيمز بولتوين. الترامبية هي جزء من لحم أميركا. والان ايضا جزء من لحم العالم الغربي كله.
قبل سنوات عدة، التقيت ببايدن في القدس. فاجأني بمعرفته الواسعة عن الشرق الاوسط وعن السياسة الاسرائيلية. تأييده لاسرائيل. كان نموذجيا للديمقراطيين من الجيل الذي ولد في اثناء الحرب العالمية الثانية والكارثة. الالتزام بالفكرة، وليس بالسياسة؛ الالتزام بالامن، وليس الاحتلال
توقع مؤيدو الديمقراطيين انتصارا جارفا: ليس بسبب بايدن بل بسبب ترامب. والتصويت المتلاصق ادخلهم في حالة اكتئاب. تعلموا ان الأميركيين ليسوا بالضبط ما اعتقدوا عنهم. نصف أميركا تحب ما يكرهون من كل قلبهم، وبالعكس. الشرخ عميق. ويبدو أيضا ان الحلم بالتحكم بالبيت الابيض وبمجلسي الكونغرس تبدد هو الاخر. اغلبية جمهورية في مجلس الشيوخ من شأنها ان تعرقل كل محاولة للتقدم بجدول اعمال جديد. وقبل ذلك تنتظرهم حرب استنزاف في المحاكم، والتي ستمزق المجتمع الأميركي إرباً (…).
سألت شخصا يعرف بايدن جيدا كيف سيكون بايدن. فقال: “توجد لكم مشكلة مع بايدن بالنسبة لايران. فهو لم ينس ما فعله نتنياهو باوباما. سيستأنف الاتصالات مع الايرانيين في محاولة لترميم الاتفاق (النووي). الفلسطينيون لن يكونوا على جدول اعماله. ولكن انتخاب بايدن سيعطي ذريعة جيدة لابو مازن لاستئناف الاتصالات مع الأميركيين، لتلقي المال، وربما ايضا لاستئناف التعاون الامني مع اسرائيل. نتنياهو يمكنه ان ينسى صفقة القرن. فقد ماتت. تلقى اسنادا من ترامب لكل خطواته في الضفة. اما بايدن فلن يسمح له بالتمتع بالشيك” (…).
قبل سنوات عدة، التقيت ببايدن في القدس. فاجأني بمعرفته الواسعة عن الشرق الاوسط وعن السياسة الاسرائيلية. تأييده لاسرائيل. كان نموذجيا للديمقراطيين من الجيل الذي ولد في اثناء الحرب العالمية الثانية والكارثة. الالتزام بالفكرة، وليس بالسياسة؛ الالتزام بالامن، وليس الاحتلال. موقف هذا الجيل من اسرائيل يختلف عن موقف الانجيليين المبني على الايمان المسيحاني. “هم سيبيعونكم مقابل كرسي في المحكمة العليا”، قال لي بايدن في ذاك الحديث.
منذ ذلك الحين حصلت امور عديدة. في ثماني سنوات باراك اوباما كان جو بايدن نائبا للرئيس. في خلال هذه السنوات، انفتحت هوة بين موقف بايدن من اسرائيل والموقف من نتنياهو. ومذ ذاك الحين، قام جيل جديد في الحزب الديمقراطي، يشخّص اسرائيل مع الاستعمار، الاحتلال ـ والاخطر من ناحيته – مع ترامب. لقد أحرق نتنياهو ـ او على الاقل سحق ـ العلاقات مع القوة الصاعدة في الحزب الديمقراطي.. اما مع بايدن فسيتدبر الأمر”!.