في مقر جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي تمثال برونزي لجورج بليك اضيف قبل نحو ثلاثة أشهر إلى النصب التكريمي لضباط الاستخبارات الخالدين. لم يكن هذا التكريم الوحيد الذي ناله الجاسوس “الأسطورة” في الاتحاد السوفياتي وروسيا: وسام لينين، وسام الحرب الوطنية من الدرجة الأولى، وسام الشجاعة، وسام الصداقة، درع ضابط أمن الدولة الفخري، درع الخدمة في الاستخبارات، جائزة الاستخبارات الخارجية لروسيا الاتحادية.. وبعيداً عن التكريم الرسمي زجاجة نبيذ من القرم تلقاها هدية من رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين، و”بورتريه” خصّه به “فنان الشعب السوفياتي” الكسندر شيلوف ضمن مجموعته التشكيلية “قاتلوا من أجل وطنهم”.
لا شك أن روسيا ستذكر جورج بليك دوماً كواحد من ابطالها، بخلاف ما هي الحال في الغرب حيث ينظر اليه كـ”خائن”. لهذا لم يكن مستغرباً ذلك التناقض الحاد في السيرة الذاتية التي نشرت للرجل بين طقوس الرجم المعنوي في الصحافة الغربية، وبين الاحتفاء التخليدي لبطل الاتحاد السوفياتي وروسيا الاتحادية في الصحافة الروسية، لا بل أن ثمة طلباً تقدم به زعيم حزب “شيوعيو روسيا” ماكسيم سوريكين لمكتب عمدة موسكو وجهاز الاستخبارات الخارجية بإطلاق اسمه على أحد شوارع العاصمة الروسية.
السيرة الرسمية
على الموقع الالكتروني لجهاز الاستخبارات الخارجية الروسي يمكن التعرف إلى السيرة الذاتية الرسمية لجورج بليك:
ولد جورج بليك في 11 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1922 في روتردام. خلال الاحتلال الألماني لهولندا، فرّت والدته وأخواته إلى إنكلترا هرباً من الموت. ظل جورج، الذي كان يبلغ من العمر 17 عاماً، في مسقط رأسه وشارك في حركة المقاومة. يروي بليك تلك الأيام قائلاً “شبابي مرتبط بالحرب العالمية الثانية وأهوال الاحتلال. في 10 أيار/مايو 1940، تعرضت روتردام لقصف بربري من قبل الطائرات الألمانية. كانت المدينة تحترق والدخان يتصاعد منها. دمر نحو 31 ألف منزل”.
في العام 1942، اتخذ جورج بليك قراره بالانتقال إلى إنكلترا لمواصلة القتال ضد النازيين. بجواز سفر باسم مستعار، شق طريقه عبر فرنسا المحتلة. وأثناء عبوره الحدود الإسبانية، تم اعتقاله وسجنه. لكنه تمكن من الفرار.
وفي العام 1943 تطوع بليك في البحرية البريطانية. دخل المدرسة البحرية، وتم إرساله إلى أسطول الغواصات. كان يستعد للقيام بعمليات برمائية ضد ألمانيا، ولكنه نقل في آب/أغسطس عام 1944 إلى القسم الهولندي في الاستخبارات البريطانية.
وبعد استسلام القوات الألمانية، غادر بليك إلى هولندا لاستعادة الاتصال مع العملاء البريطانيين الذين تركوا هناك في السابق.
في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أعادت أجهزة الاستخبارات البريطانية توجيه عملها الرئيسي نحو الاتحاد السوفياتي، وذهب بليك إلى هامبورغ لجمع معلومات حول القوات السوفياتية في ألمانيا. هناك بدأ في دراسة اللغة الروسية بشكل مستقل. وعند معرفة ذلك، أرسلته قيادة الاستخبارات البريطانية لمتابعة دورات اللغة الروسية، بهدف فرزه للعمل ضد الاتحاد السوفياتي.
في تشرين الأول/أكتوبر 1948، تم تعيين بليك كمقيم في مكتب جهاز الاستخبارات البريطانية في سيول، وتم تكليفه بمهمة جمع المعلومات حول الشرق الأقصى السوفياتي (بريموري، سيبيريا، منشوريا). مع اندلاع الحرب الكورية، احتلت قوات كيم إيل سونغ سيول، فوقع بليك في الأسر، وتم ارساله الى أحد معسكرات الاعتقال.
في ربيع العام 1951، أرسل الجاسوس البريطاني حينها، عن طريق ضابط كوري، رسالة إلى السفارة السوفياتية، طالباً ترتيب لقاء مع ممثل لجهاز الاستخبارات الخارجية، حيث عرض العمل مع الاستخبارات السوفياتية، وقدم معلومات قيمة عن أجهزة الاستخبارات البريطانية.
بعد توقيع الهدنة الكورية في عام 1953، عاد بليك إلى لندن واستمر في العمل مع الاستخبارات البريطانية، حيث تم تعيينه في منصب نائب رئيس دائرة العمليات الفنية التي كانت تعمل في التنصت السري في الخارج.
في كانون الأول/ديسمبر 1953، وخلال اجتماع سري لجهاز الاستخبارات البريطانية ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية في لندن، تقرر حفر نفق لمراقبة خطوط الاتصالات للقوات السوفياتية في ألمانيا. أبلغ بليك الاستخبارات السوفياتية بالعمليات الوشيكة، فتقرر استخدام النفق نفسه لتضليل الغربيين لفترة معينة قبل التصرف بشأنه، وذلك حتى لا يؤدي أي تصرف مفاجئ إلى اثارة الشبهات حول “العميل المزدوج”. وبناءً على معلومات بليك، نفذ جهاز الاستخبارات الخارجية السوفياتي في العام 1956 عملية لتدمير النفق، في ما وصف حينها بواحدة من أهم الضربات الاستخباراتية في العالم.
تم كشف نشاط بليك بسبب خيانة ضابط الاستخبارات البولندي م. غولينفسكي، الذي أبلغ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بمعلومات عن عميل سوفياتي في جهاز الاستخبارات البريطانية، وفي ربيع العام 1961، أُمر بليك، الذي كان في بيروت في مركز سري لدراسة اللغة العربية، بالعودة إلى لندن من أجل “مهمة جديدة”.
في مقر الاستخبارات البريطانية، تم استجواب بليك، واحيل للمحاكمة حيث عوقب بالسجن 42 عاماً. ولكن بعد أربع سنوات في السجن، تم تنظيم عملية هروبه، لينتقل عبر برلين إلى موسكو، حيث عاش هناك حتى وفاته.
تمت ترقية جورج بليك إلى رتبة عقيد في جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي. وكتب مذكراته في كتابين بعنوان “لا خيار آخر” (1990) و”جدران شفافة” (2006).
تأثير “حدتو”
على هامش السيرة الذاتية الرسمية، ثمة تفاصيل مثيرة للاهتمام في حياة جورج بليك، بينها الانتماء البريطاني الصرف لأسرته، فأمه كانت بروتستانتية وأبوه يهودياً سفاردياً حصل على الجنسية البريطانية وخدم في الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى ونال وسام الخدمة الجديرة بالتقدير.
علاوة على ما سبق، فإن الوالدين أطلقا اسم جورج على طفلهما تيمناً بجورج الخامس ملك المملكة المتحدة.
عاش جورج بليك وعائلته حياة مريحة في هولندا حتى وفاة والده في عام 1936، ليتم اثر ذلك ارساله الى مصر للعيش مع عمته الثرية، وهناك واصل تعليمه في المدرسة الإنكليزية في القاهرة. وأثناء وجوده في العاصمة المصرية كان بليك قريباً من ابن عمته هنري كوريل، الذي أصبح في ما بعد زعيماً للحركة الشيوعية الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو).
وفي العام 1991، قال بليك إن لقاءه مع كورييل، الذي كان يكبره بعشر سنوات ساهم في تشكيل وجهات نظره في الحياة اللاحقة.
كان بليك قريباً من ابن عمته هنري كوريل، الذي أصبح في ما بعد زعيماً للحركة الشيوعية الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)
“الهروب الكبير”
في سجن ورموود سكرامبز بدت القصة أقرب إلى فيلم اثارة.
ينقل نيكولاي دولغوبولوف، المؤرخ الاستخباراتي ونائب رئيس تحرير صحيفة “روسيسكايا غازيتا”، عن بليك قوله: “عندما حكمت بالسجن 42 عاماً، أدركت أن لا جدوى من الانتظار”، لا سيما بعدما تبين أن فرصة إطلاق سراحه من خلال تبادل العملاء مستبعدة.
وفقاً لدولغوبولوف، فإن لعبة القدر وحدها هي التي سمحت لبليك بأن يلتقي في السجن مع ضابطي استخبارات سوفياتيين آخرين كانا يقضيان عقوبتهما. أحدهما السير غوردون لونسديل، المعروف أيضًا باسم كولونيل كونون مولودي؛ والثاني مشغل راديو من أصل اميركي هو موريس كوهين (المعروف ايضاً باسم بيتر كروغر) الذي عمل ضابطا مع الإستخبارات السوفياتية وحصل بعد وفاته على لقب بطل روسيا في عام 1995. ومع أن العميلين السوفياتيين لم يكونا على علم بما يضمره بليك إلا أن وجودهما في السجن نفسه ربما كان عاملاً مساعداً لتنفيذ خطته.
يقول دولغوبولوف: “أخبرني جورجي إيفانوفيتش (كما ينادى بليك في روسيا)، إن ما جرى كان بالطبع خطأ البريطانيين. في نفس السجن تواجد هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يرتدون رداءً ذا لون خاص، ما يعني أنهم بحاجة إلى المراقبة الأقرب”.
وخلافاً لما يعتقده كثيرون، فإن فرار بليك تم بمساعدة ثلاثة أشخاص التقاهم في السجن، هم بات بوتل ومايكل راندل، وهما ناشطان مناهضان للأسلحة النووية في المملكة المتحدة، وشون بورك، الناشط في الجيش الجمهوري الإيرلندي، والذي اعتبر أن إدانة بليك بالخيانة هي “عقوبة إعدام مؤجلة”.
استعدادًا لفرار بليك، هرب بوتل جهاز اتصال لاسلكي إلى السجن، وسلمه لبليك في زنزانته، لكي يتمكن من التواصل مع محرريه.
وفي يوم أحد ممطر (22 تشرين الأول/أكتوبر عام 1966)، وبينما كان رفاقه في الزنزانة والحراس يشاهدون فيلماً، اعتلى بليك بهدوء النافذة، وانتظر اشارة عبر جهاز اللاسلكي، حتى ألقى بوتل سلماً مصنوعاً من الحبل على الحائط الذي يبلغ ارتفاعه سبعة أمتار.
قفز بليك على الأرض من الجانب الآخر، مما أدى إلى إصابة وجهه ويده. أخذ بوتل بليك، الذي كان نصف واعٍ، إلى مخبأ، ثم أحضر له طبيباً.
اختبأ بليك لمدة شهرين في شقة في لندن. إثر ذلك خُبئ في أسفل شاحنة، وتم نقله على متن عبارة إلى بلجيكا، ومنها الى جمهورية ألمانيا الديموقراطية، حيث تواصل مع الاستخبارات السوفاتية، ليتم نقله بعدها الى موسكو.
الخيانة والانتماء
في رسالة نشرت يوم عيد ميلاده الخامس والتسعين، كتب بليك: “سيرتي الذاتية معروفة لكثيرين. وميزتها، في رأيي، أن المراحل الرئيسية فيها مرتبطة بخيار مهم. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكموظف في القوات الخاصة البريطانية، وقفت في طليعة خصوم روسيا، موطني الحالي. بعد ذلك بقليل، كانت هناك حرب مروعة في كوريا. رأيت وجهها الحقيقي، بما في ذلك جثث المدنيين الذين قتلوا على يد الآلة العسكرية الأميركية، عندها أدركت أن مثل هذه الصراعات محفوفة بالمخاطر المميتة للبشرية جمعاء، واتخذت القرار الأكثر أهمية في حياتي – بدأت أتعاون بشكل استباقي ومجاني مع الاستخبارات السوفياتية من أجل حماية السلام العالمي”.
وفي الرسالة ذاتها، أكد بليك أن “مهمة ضباط الاستخبارات الروسية هي إنقاذ العالم في مواجهة تهديد جديد بالحرب النووية ذلك أن مثل هذا التهديد وضع مرة أخرى على جدول الأعمال من قبل سياسيين غير مسؤولين”.
كما أشار إلى خطر الإرهاب العالمي، في معرض مخاطبته لضباط الاستخبارات الروسية، قائلاً: “هناك حرب حقيقية بين الخير والشر. وأنا أؤمن بكم، في خدمتكم غير الأنانية لقضيتنا المشتركة، وفي مهنيتكم. أنا أؤمن بالنصر النهائي على العدو الحقير. هذا الإيمان يمنحني الحيوية”.
عاش بليك في موسكو كضابط متقاعد في المخابرات السوفياتية وظل شيوعياً حتى النفس الأخير. رفض اتهامات الخيانة وأصر على أنه لم يشعر قط بأنه بريطاني: “لارتكاب خيانة، يجب أن تشعر أولاً أنك تنتمي. لم أشعر أبدًا بأنني أنتمي.. ليس لدي ما أبرر لنفسي.. لقد ساعدت أولئك الذين هم في طليعة التقدم”!.