ربما لم يُقدّر لفنانٍ استثنائيّ أن ينال هذا الإجماع مؤخراً، فقد دأب العالمُ على انتظار الموتِ من دون قصدٍ مسبق أو عن نية مضمرة حتى يصفّي الحساب مع الذاكرة.. شيءٌ أشبهُ بهذا، يتكرّر دوماً في ثنايا المشاعر المتشابكة حيال وقوعه. ومهما استثقلنا قدرة الموت على إعادة نفسه بذات الفتنة في التخلّق، فإنّه يهزمنا حقاً عندما يحقّق غايته في ابتذال تلقينا لعودتهِ، فقد خُلقت الصدمة للتعبير عن رفض الألفة معه.
***
ما يجعلنا ننفرد بمعنى الحياة، ليس وجودنا فيها أو شعورنا باقتراب فقدها؛ إنّ ذلك كله على أهميّتهِ وتماسك منطقه، وجهٌ مغايرٌ للحقيقة في إحدى أطوارها الكثيرة، ذلك أنّ الحياة تُقاس بما يمكن أن يحدث فيها من استثناءٍ شحيحٍ قلّما يتواتر أمام قواعد راسخة ومبادئ قارّة. وقد سبقَ أنْ قال المهاتما غاندي “تستمدّ الحياة قيمتها من الموت”، بيد أنّ الموت نفسهُ لا يسمح للحياة أن تأخذ حظّها كاملاً في أن تُعاشَ على النسق الذي اصطفتهُ لنفسها، بعيداً عن وعيد الموت الذي يقتطع لزوّارهِ وتجّارهِ وجلاوزتهِ وأزلامهِ وسدنتهِ حقّ استعمالهِ على النحو الذي يروّع محبّاً للحياة ويبتزّ حالماً بها، من دون أن يذر لهؤلاء البتة، شيئاً من غفلتهِ المرجوّة عليهم أو صفحهِ المشتهى عنهم!
***
الذي يجعلنا ننفرد بمعنى الحياة ولو يسيراً، هو أنّنا نمتلك فيها القدرة على عيش أكثر من حياةٍ بإرادتنا: حياةٌ قد تأتي ومعها (أحلامٌ كبيرة) وتنتهي بـ (الكابوس) المنتظر في قافية العيش، وأخرى تنتظر (هجرة القلوب إلى القلوب) بشغفٍ كثيف لكنّها تخطئ حين تعدّ اللون المكرّر في (قوس قزح) مسائيّ يتيم. حياةٌ نتمنّى فيها أن نحرز دور (العرّاب)، برغم فشلنا المزمن في امتلاك النذر اليسير من (الحقد الأبيض) حتى نمنّي ذواتنا الكسيرة بالتعلّل بشيءٍ ما؛ يرفع من قيمتنا المهدرة أمام أنفسنا ولو ردحاً مقتضباً من الوقت. إنّها (التغريبة) التي لا تتكرّر إلا بفهمنا الركين إلى أنّ الغُربة ليست سوى مجرد (أصوات خافتة) تنتظر أن تعلق بأهداب الهواء في يومٍ ما. حياةٌ؛ (ندى الأيام) فيها يشبهُ طفولة النهار في الصباح وكهولته في المنتصف وشيخوخته في المساء ورحيله في الغروب. حياةٌ لا تتعدّى فيها (الفصول الأربعة) يوماً واحداً تمتلك الصدفة فيه تحويل اللغة من (حجر جهنّم) إلى فسيلة في الجنّة. (مرايا) الأقدار في الحياة ذاتها التي صاغها حاتم عليّ تعبر بقرّائها القلّة من (سفر) مؤقتٍ في زمن المشاهدة الضيق إلى رحيل أبديّ إلى عمر التفكير المفتوح. حياةٌ تنتقل من خطيئة تحلم بـ (الغفران) من (قلم حمرة) في الخيال، إلى قصاصٍ عادلٍ من جملة عصيّة في النص.
***
إنْ يكن للموتِ فضل على الحياة؛ فهو اقتدارهِ على بلوغِ نوعٍ من الإجماع بين ضحاياه المؤجلين، سواءً بِشراء الحب أو ببيع الكراهية، بالاستذكار المُحزنِ للماضي أو النسيان المُريح للمستقبل، ثمةَ نوعٌ من الوفاء بدَينٍ سريّ، أو هنالك غدرٌ بفضلٍ معلن.. لذلك تبدو الأفكار أمام الموت، متحالفةً مع أدوار شتّى لم تكن مشاعاً للتداول بين أصدقاء وأعداء.
***
عندما ماتَ حاتم عليّ، لم يبرح الناس في الاستناد إلى ماضي هؤلاء في الحكمِ على حاضر الصدمة، فقد اندرجوا في سياقٍ طويل ومتعبٍ من الارتكازِ على متعة راحلة، صنعها لهم حاتم عليّ في ما مضى، وقُدّر عليهِ أن يتحالفَ فيها مع عمرِ غضٍّ؛ بدا مختلطاً بمشاعر الأسى على رحيلٍ مبكّر، صدمَ معجبين بدأ العمر يفلت منهم شيئاً فشيئاً.. فقد ألَف هؤلاء على أن يكونهم حاتم عليّ من دونهم في شخوصٍ يتبنّاها في أعماله، حتى لو كانت تاريخيّة سبقَ أن كانت لغيرهم، على أنّ للمرء حقّ لم يُهدر بعد، في أنّ يمتلك الامتزاج بمن يشاكلهُ من التاريخ، دون أن يحوز العابر من زمنهِ إلينا أيّ رفضٍ ممكن! من إحدى علائم الابتكار والإبداع في حاتم عليّ أنّه يُحسن جيداً هذه التوليفة، وكان الدليل الواضح على ذلك، اختلاط رثاء الناس له بتأبين أنفسهم المتعبة بواسطتهِ وحزنهم على عمرهم المتواتر من خلاله.
وبرغم أنّ حاتم عليّ مُقلٌ سينمائياً، لكنّهُ استقدمَ السينما للتلفزيون، وزاوج بين الإثنين في شكلِ يخرج الفيل من متجر الخزف من دون فوضى أو اختلال، ربما لأنّه يعرف جيداً أمثولة المخرج الفرنسي جان لوك غودار القاضية بـ”إنّنا نرفع رؤوسنا في السينما لأنّها تعني الخلود، فيما ننكّس أعناقنا للتلفزيون لأنّه منذور للنسيان”، أو قد استحضرها بكثيرِ من الهمّ الفني في أكثر صوره إلحاحاً على ذهن الفن في التقاط الأبد بمشهدٍ يُعبّر فيه عن المفقود لديه أو ذاكَ الذي يختطّ فيه الـ (ما حدثَ وما لم يحدث) نصاً يليق بفجيعة (موت مدرّس التاريخ العجوز) في الصفّ الجديد. وداعاً حاتم عليّ.