عن المكائد “قبل وقوعها”.. هل ينفع الأسف “بعد هجومها”؟

لو دقّقنا النظر اليوم، لوجدنا أنّ مسار التفكير لكلّ جماعة في منطقتنا هو أحادي القطب، لا يميل ولا يتزحزح عنه الناس. والمقلق في الأمر، هو أنّ الفئة التي نُطلق عليها نخبًا، هي الأكثر تشبثًا بهذه الأحادية، فنرى عند كلّ أزمة أو تهديد، خطابًا وتحليلًا ولغةً واحدة، كأنهم يفكرون بعقل واحد (وهنا الأمر يختلف عن الدعوة كي تكون الجماعة على قلب أو قرار واحد)، وهذا أمر يدعو إلى دقّ ناقوس الخطر لما سينتج عن هذه المعضلة الخطيرة المتسترة بلباس الوحدة والقوّة. والصحيح هنا، أن نخلق تحوّلًا يصبح التفكير فيه ركيزة للعقول كلّها ومعيارًا، لتنطلق بشجاعة في ميادين البحث والتدقيق والتحليل والمساءلة والحلول دون خوف أو وجل.

الحاجة إلى مثل هذا التحوّل اليوم ليست ناشئة عن ترفٍ فكريّ أو رغبةٍ عابرة، بل ضرورة ملحة في هذه اللحظة التاريخية التي نمر بها، فأسوأ الإحتمالات هي أن تكون فرصة النهوض قد انقضت ومرّت ولات حين مناص، أمّا الأقل سوءًا هو أن مدى الفرصة سوف ينقضي قريبًا جدًا، وبعدها لن يجدي نفعًا أيّ كلامٍ أو صراخٍ في سبيل استنهاض من يجب استنهاضه، أو استنقاذ ما يمكن استنقاذه.

هي اللحظة المصيرية للتحوّل السريع في طريقة التفكير والإدارة واستنهاض أبناء الأمة بطاقاتهم وعقولهم وإبداعاتهم ليكونوا فاعلين ومؤثرين، والسعي لفهم ما جرى وما سيجري ضمن رؤية علمية ومنطقية، فالخطر اليوم وجوديٌ، ولا يمكن في هذه الحالة الرهان على ما يُسميه البعض “جنرال الوقت”، هي فرصة لإعادة تشكيل الوعي الجديد والرؤية الجديدة التي تتناسب مع التحديات غير المسبوقة وغير المعهودة في كلّ تجاربنا وتاريخنا السابق.

حرب الإدراك

“أفكارنا المُسبقة التي كوّنها عقلنا عن هذا المشهد، قويّة لدرجة أنّ عقلنا يُنكر ما يتعارض مع تلك الأفكار ويتجاهل ما تنقله إليه أعيننا”. في بداية رواية “شيفرة دافينشي” لدان براون يشرح روبرت لانغدون أثناء محاضرته حول علم الرموز كيف أنّ الإدراك البشري ليس موضوعيًا بالكامل، بل يتأثر بالأفكار المسبقة والإنطباعات المتراكمة في أذهاننا، إذ أنّ أدمغتنا تميل إلى ما تتوقع رؤيته، حتى لو كانت الصورة تقدم معنًى مختلفا.

هذه الفكرة تحديدًا كانت محور كتاب روبرت جيرفيس “الإدراك وسوء الإدراك في السياسات الدولية”، الذي يؤكد من خلاله أنّ صانع القرار لا يتفاعل مع العالم كما هو، بل كما يتصوره الصانع ويتخيله. وبالتالي، فإنّ كثيرًا من السلوك السياسي ليس نتيجة عقلانية كاملة بل نتيجة إدراكات ناقصة ومشوهة، ما يفرض فهمًا لكيفيّة تشكل الإدراك.

 يشرح جيرفيس أنّ الإدراك يتكوّن أولًا من خلال الخبرة السابقة، إذ يميل العقل إلى تفسير وتحليل الأحداث من خلال نماذج سابقة كانت محل عمل واختبار، لكن المشكلة الأساسية هنا، هي أنّ هذه النماذج لا تنطبق دائمًا على الوضع الحالي. ثم تأتي الأفكار المسبقة، حيث يدخل صانع القرار عادة في الموقف المستجد وفي ذهنه رواية مسبقة عمّا سيجري، لذلك يميل إلى قبول ما يؤكد الرواية، والأهم، تجاهل أو التقليل من شأن ما يتعارض معها. المسألة الثالثة هي ما يسميها الكاتب “الإنتقائية الإدراكية”، إذ أنّه حتى عندما تكون الأدلة شديدة الوضوح وغير مبهمة إطلاقًا، يمكن للإنسان أن يراها بشكل يناسب توقعاته، وهذا ما يجعل الدعاية العقلانيّة فعّالة، لأنّها تؤطر المعلومات بحيث تُقرأ بمعنى محدّد. وأخيرًا تأتي أخطاء الإسناد (Attribution Errors) عندما يقع الخصم في خطأ تفسير عملٍ ما على أنّه مقصود أو عدائي، أو عندما يقع صانع القرار في خطأ تفسير حدثٍ ما على أنّه عابر أو بسب ظروف خارجيّة مؤقتة.

لا تكفي الثقة بالفرد أو الآليات كي يُغمض العقلاء عيونهم عن شيء يرون خطورة حدوثه ومآله، بل يُصبح من الواجب التنبيه إلى خطورة ما يحدث لأنّ التذرع بالطمأنينة والثقة، وبخاصة عند من نُطلق عليهم مصطلح الخواص والنخب، لن تُورّث سوى الحسرة والندامة، فعن علي ابن أبي طالب عليه السلام: “من لم يتحرّز من المكائد قبل وقوعها، لم ينفعه الأسف بعد هجومها”

من هنا تؤدي بعض الآليات إلى اتخاذ قرارات خاطئة، مثل إسقاط النوايا الذاتية على الخصم، حين نظن أنّ الخصم يفكر مثلنا، كمثل أنّنا لا نريد الحرب فهو إذًا لا يريد الحرب، أو أنّ محاذيره تشابه محاذيرنا، وأيضًا المبالغة بالتهديد وتجاهل المعلومات المتناقضة، والأهم ما يسميه جيفريس بـ”ضغط الجماعة” داخل مؤسسة اتخاذ القرار، حيث يحجم البعض عن طرح الآراء المخالفة خوفًا من مخالفة الإجماع. كذلك الإطار المعرفي، إذ أنّ الطريقة التي يُقدّم بها الحدث تُحدّد كيف يفهمه صانع القرار، هل هو خطرٌ أم فرصة.

إذًا، الإدراك ليس انعكاسًا مباشرًا للواقع، بل هو بناء ذهني، وهذا البناء يتأثر بالنماذج الذهنية السابقة، وباللغة وبالإنتماء الجماعي، وعندما يقع الإدراك تحت تاُثير هذه التحيّزات يُصبح قابلًا للتلاعب عن قصد أو غير قصد، فتصبح النتيجة اتخاذ قرارات غير عقلانيّة، بل وأحيانًا كارثيّة، برغم امتلاك المعلومات الصحيحة والسليمة.

تناقض الرؤى

مسألة أخرى يمكن القول بأنها شديدة الأهمية وحاسمة بالنسبة لفهم العالم، هي ماهيّة الرؤى التي نعتنقها، لأنّ نوع الرؤى التي يتبناها صانع القرار ستكون حاسمة بالنسبة للقرارات التي سيتخذها، والتي ستساهم إمّا في صعود جماعته أو انحدارها. فالسياسة ليست مجرد جدلٍ حول الوقائع، بل حول ما يجب أن يكون، وهذا بدوره يعتمد على الطريقة التي نرى بها الإنسان والمجتمع، وجميع هذه السياقات لا يمكن فهمها وبلورتها بشكل جيد وواضح من دون التحرّر الفكري والإنفتاح الجاد والحقيقي على كلّ ما يحيط بك في هذا العالم المتضائل يومًا بعد يوم.

في هذا السياق، يقدم توماس سوويل في كتابه “تناقض الرؤى” تفسيرًا عميقًا للإنقسامات الإيديولوجيّة في السياسة والفكر العام، إذ يؤكد أنّ الخلافات السياسيّة ليست مجرّد صراع مصالح، بل نتيجة لرؤيتين مختلفتين لطبيعة الإنسان ولطريقة عمل المجتمع، يطلق عليهما تسمية الرؤى المقيدة والرؤى الحرة.

ترى الرؤى المقيدة أن الطبيعة البشرية محدودة ومعرضة للخطر، وأنّ الإنسان مدفوع بالمصلحة الذاتية، وليس بالعقلانية الكاملة أو النوايا النبيلة، وبما أن هذه الطبيعة غير قابلة للتغيير فإن الحلول الواقعية يجب أن تقوم على التوازن بين المصالح، والآليات المؤسساتية كالقانون والتقاليد والتجربة التاريخية.

إقرأ على موقع 180  الأسد في طهران.. مرحلة سياسية وعسكرية جديدة

أما الرؤى الحرة فتفترض أنّ الطبيعة البشرية قابلة للتحسين عبر التربية والتشريعات، وأنّ الإنسان إذا أتيح له المجال المناسب قادرٌ على التصرف بعقلانية وتعاطف، وهي على عكس الرؤى المقيدة ترى أنّ المؤسسات التقليدية كالتجربة التاريخية والتقاليد والأعراف تُعيق تحقيق العدالة والحريّة، لذلك تدعو إلى إصلاحات جذرية وسياسات موجهة لتحقيق أهداف أخلاقية. وبحسب غودوين (من رواد الفكر الأناركي) فإن “الحلّ الصحيح لمسألة اختيار الجهود الواجب تطويعها هو أن نجعل الناس يفعلون ما هو صحيح لأنّه صحيح، وليس بدافع المكافآت المعنوية أو الإقتصادية” لأن الأمل في المكافأة والخوف من العقاب كانت في تصور غودوين خطأ في حدّ ذاتها ومعادية للتطور.

أيضًا من الإختلافات الجوهريّة بين الرؤيتين هي قضيّة التنازلات المتبادلة بدل الحلول. يشير سوويل إلى أنّ التنازلات المتبادلة في التصور المقيّد، هي جميع ما يمكن أن نأمل به، وهو عين الحكمة وفق هذا التصور ومن بين أهم الواجبات. يسميها إدموند بورك (من آباء الفكر المحافظ) الأُولى بين جميع الفضائل “ولا شيء يعتبر جيّدًا إلّا بالنسبة إلى شيءٍ ما وبالإشارة إلى شيء ما”، أي بكون الأشياء تنازلاتٍ متبادلة.

وعلى العكس من ذلك، في التصوّر الحرّ، حيث يُعتبر التحسن الأخلاقي بدون حدود ثابتة، وأنّ هناك اختلافًا كبيرًا بين ما يفعله الإنسان في الواقع وبين إمكاناته. وهذا يعني، بحسب الكاتب، أنّه يوجد وسائل متاحة من أجل تحسين طبيعة الإنسان الذي يملك قابلية أن يصبح كاملًا. ويبقى مفهوم الحلّ مركزيًا في هذا التصوّر، الذي يتحقق عندما يصبح من غير الضروري القيام بالتنازلات المتبادلة التي تمثل حلولًا مؤقتة، بل الذهاب مباشرة إلى الحلول “الجذرية” حتى لو كان ذلك مكلفًا.

خلاصات وتصوّرات

ثلاثة عناصر أساسيّة شكّلت مرتكزات إسقاط أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز (يوليو) عام 2006: القوّة الصاروخية والتضليل الأمني والهالة المعنوية والإعلامية للشهيد السيد حسن نصرالله. خلال السنوات اللاحقة، ركز العدو بشكل استثنائي على هذه النقاط، وحوّلها بسياق حرب الإدراك عند جبهة المقاومة كلّها وليس في لبنان فقط، إلى مسألة حياة أو موت بالنسبة إليه، وساهم في خلق فكرة أنّ هذه النقاط تحديدًا كافية لردعه بل والقضاء عليه. وبالتالي دفع المقاومة للتركيز بشكل إستثنائي عليها، لكنّه في المقابل، كان يعمل بكلّ رويةٍ وتأنٍ على سحق هذه العناصر. هذا التضليل الإدراكي المدروس والموجه، منع المقاومة من التفكير بأساليب إبداعية خارج النطاق المتصور للعدو. تأتي “حرب الإسناد” ضمن هذا السياق أيضًا. يوهمك العدو بأنّ هناك حدودًا ومحاذير يفهمها الطرفان وذلك نتيجة تراكم الخبرة والتجربة على مر عشرات السنين، ليفاجىء الجميع بقفزة نوعيّة خارج المتوقع.

يأتي المسار السياسي والعسكري الحالي للعدوّ الصهيوني بالتنسيق مع واشنطن ضمن هذا السياق، ولذلك يجب اتخاذ آليات مختلفة في التفكير واتخاذ القرار، وعدم الرهان أنّ بالإمكان إعادة رسم بعض خطوط المرحلة السابقة. فما يحدث اليوم هو اندفاعة استعمارية مجنونةٌ لتغيير كلّ شيء دفعة واحدة، ومخطىءٌ من يتوقع أن يرى خريطة المنطقة على حالها بعد سنة، أو بضع سنوات كحدٍ أقصى من الآن، واللازم أن تندفع الجبهة المقابلة (أو ما تبقى منها) لقلب كل الوقائع رأسًا على عقب، بدءًا من ضرب خريطة الإدراك التي رسمها العدو لكلّ القادة المخضرمين وفق آليات الإدارة المعهودة، قبل أن تُصاب بالشلل التام والكامل.

أختم بالتطرق إلى حكمتين تمرّست النظر من خلالهما للعدو والصديق في السياسة. الحكمة الأولى؛ تعلّمتها من الزميل والصديق عامر مُحسن وهي تفترض سوء الظن بدءًا بكل موقف أو قرارٍ سياسي في لبنان، وعليه يمكن البناء على موقف واشنطن من قبول حزب الله في الحكومة العتيدة، والتي كان بإمكانها لو شاءت أن تمنع دخوله ومشاركته فيها، وهي سياسة مارستها واشنطن على مرّ كلّ السنوات الماضية، إذ أشعرت المقاومة أنّها باتت شريكة في القرار اللبناني وأنها ربحت مكسبًا وامتيازًا يجب أن تحافظ وتقاتل من أجل عدم خسرانه، لكن على أرض الواقع، كانت واشنطن تمسك بكل عناصر السلطة والقوّة الأساسية: الإقتصاد والنقد والأمن والعسكر والقضاء والإعلام، بينما أبقت للمقاومة شعور المشاركة والتأثير، في مقابل إلباسها ظلمًا كلّ قاذورات السياسة الللبنانية.

الحكمة الثانية؛ تعلّمتها إثر حادث سير في مقتبل شبابي. يومها انطلقنا مع صديق لنا بسيارته الفارهة التي جاء بها والده الثري من ألمانيا. كان صديقي سائقًا ماهرًا، هكذا عهدناه، وحين اندفع بكلّ سرعة كنّا مطمئنين بصدق، إلى أنّ قيادته الماهرة وقوة فرامل سيارته الجديدة كفيلة بأن تتجمد مكانها قبل أن نصل إلى حافة النهر، وذلك تحديدًا ما لم يحدث، إذ اندفعت السيارة بكلّ قوتها إلى الجهة المقابلة للنهر ثم غرقت وكادت أن تقتلنا جميعًا لولا لطف الله. الفكرة هي أنّه لا تكفي الثقة بالفرد أو الآليات كي يُغمض العقلاء عيونهم عن شيء يرون خطورة حدوثه ومآله، بل يُصبح من الواجب التنبيه إلى خطورة ما يحدث لأنّ التذرع بالطمأنينة والثقة، وبخاصة عند من نُطلق عليهم مصطلح الخواص والنخب، لن تُورّث سوى الحسرة والندامة، فعن علي ابن أبي طالب عليه السلام: “من لم يتحرّز من المكائد قبل وقوعها، لم ينفعه الأسف بعد هجومها”. صدق أمير المؤمنين.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لبنان "الحديدان".. و"حارة كِل من إيدو إلو"