هذا ما حصل عند اللقاء الأول مع فيروس كورونا المستجد. لقد كان مخيفًا ورمزًا للمؤامرة القادمة من الشرق أو الغرب، كلٌّ حلّل بحسب ميله السّياسي، ومرّ وقت ليس بقصير حتى وصلت نسبة جيّدة من الناس إلى القناعة العلميّة الأساسيّة.
وما يحصل اليوم بموضوع اللقاح مشابه جدًا للحالتين السّابقتين، فما هو هذا اللقاح الغريب الذي أريد إدخاله إلى جسمي بشكل إرادي؟ ولماذا ترغّبني معظم وسائل الإعلام بضرورة الحصول عليه بشكل عاجل وعند إتاحته مباشرة؟ ما هي هذه المادة الجديدة التي يحتويها اللقاح المضاد للفيروس؟
اللقاحات لم تكن يومًا غريبة على الإنسانية. هي آلية طبيعية يستعملها الجسم لتذكّر الأخطار وكيفية التعامل معها وجلّ ما قامت به الإنسانية خلال المائتي سنة الماضية هو تطوير وتحسين نوعية هذه المواد كي تتصدى بشكل أسرع لأمراض كانت تشلّ المجتمعات وتتسبب، في بعض الأحيان، في انخفاض معدّل حياة الإنسان. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قبل اكتشاف لقاح الحصبة، كان معدّل الوفيات بفعل هذا المرض يصل إلى 2000 نسمة/100،000، أمّا الآن فهو 0.
من هنا بدأت الإنسانية بالعمل على تطوير هذه الآلية الحمائية للمجتمع، وتنويعها لتشمل كلّ أنواع الأمراض فدخلت في قوانين الدول الجرعات الإلزامية التي استطاعت محو أمراض من الوجود، مثل شلل الأطفال، فهذا المرض غير موجود في لبنان بشكل نهائي بسبب وجود قوانين وحملات توعية على مستوى واسع ألزمت واستقطبت الأهالي لتلقيح أطفالهم ضد هذا الفيروس بالإضافة إلى أمراض أخرى أدرجت على لوائح اللقاحات الإلزامية، فعند كلّ مفترق في حياة أولادك عليك إبراز جدول اللقاحات الموقع من طبيب الأطفال أو العائلة المعني.
هذه اللقاحات لم تكن يومًا مؤذية برغم وجود بعض العوارض الجانبية بعد أخذها، فهي أخيرًا جسم غريب يدخل جسدك، ومن أواليات النظام المناعي رد الفعل والتعرّف على الخطر، فارتفاع الحرارة أو التورم مكان الحقنة دليل عافية هنا، ويعني أنّ الخلايا المعنيّة تعرّفت على الخطر.
المجتمع المضاد للقاحات
كنّا متصالحين مع اللقاحات بشكل تام، باستثناء بعض الحركات الموجودة في بعض الدول الغربية التي تدعو الناس لعدم أخذ اللقاحات لأنّها تؤدي إلى مرض التوحّد أو تحتوي على عنصر الزئبق السّام أو ببساطة أشدّ لأنّ اللقاح مادة مصنّعة وعلينا أن لا ندخل هكذا مواد غريبة إلى أجسامنا. قد يستغرب البعض هذا الكلام، ولكن نعم يوجد من يفكّر بهذه الطريقة، وبرغم إسقاط العلم كلّ ادعاءاتهم، فادعاء تسبّب اللقاح الثلاثي (الحصبة، الحميراء/الحصبة الألمانية، النكاف/أبو كعب) بمرض التوحّد كان عبارة عن دراسة مزورة قام بها أحد الأطباء الإنكليز مدفوعًا من بعض المحامين الراغبين بملاحقة شركات الأدوية. لاحقاً حُوكم ومُنع من ممارسة مهنة الطب، وما زال البعض يتبنى أقواله حتى يومنا هذا.
علينا اليوم أن نفكر أكثر في مصلحة البشرية، فأن يأخذ كل واحد منا اللقاح اليوم أو غدًا ضد فيروس كورونا المستجد لا يعني فقط إنقاذ نفسه فقط من الإصابة بل إنقاذ عدد من الأشخاص من حوله، في حال أصبح حاملًا صامتًا للمرض
ومع كلّ وباء كانت تنتشر مثل هذه الأفكار. منذ اللقاح الأول للجدري عام 1796 مع الطبيب البريطاني إدوارد جينير، كانت الحجة وقتذاك أنّ مواد اللقاح تتنافى والدين أن مصدرها حيواني وليس إنسانياً، ثمّ عادت هذه الحركات المناهضة للقاحات وانتظمت بين بريطانيا والولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي بناءً على مرض غريب أصاب بعض الأطفال في مستشفى بلندن، فبدأت أعداد كبيرة من الناس بالاستجابة وعدم أخذ اللقاحات ونتيجة لذلك عادت بعض الأمراض للإنتشار، ما يعني بالتالي عقم هذه الأفكار غير القائمة على أيّ مبدأ علمي.
لقاح كورونا والأسئلة
ومع الجائحة المسيطرة الآن، عادت هذه الأفكار للظهور مجدّدًا متذرعة بجهلها بما يحتويه اللقاح، أو بإحتواء اللقاحات على شرائح خفية لمراقبة الناس والتحكم في حركاتها (طبعًا لن ندخل في هذا النقاش) أو أنّ اللقاح الجديد يحتوي مادة وراثية قادرة على تعديل المواد الوراثية الموجودة في خلايا الإنسان، وهذا أمر غير صحيح على الإطلاق، فاللقاحات المنتمية للجيل الثالث لها عمل واحد فقط هو إنتاج بروتينات شبيهة لتلك الموجودة على الفيروس كي تتعرّف عليها خلايا المناعة وتردّ الهجوم الفيروسي في حال وقوعه.
أمّا من يقول بأنّ إنتاج اللقاح تمّ في وقت قياسي، بالتالي علينا أن نحذر من محتويات هذا المنتج كونه لم يختبر بما فيه الكفاية، فعلينا أن نقول له بأنّ هذه هي الفرضية الوحيدة القابلة للنقاش، والردّ عليها يكون بالسرد الآتي:
- الصين، منذ اللحظات الأولى لعزل الفيروس قامت بنقل شيفرته الوراثية لكلّ العالم.
- الأموال التي صرفت على الأبحاث من قبل الدول والمنظمات غير مسبوقة.
- التعاون العالمي بين المختبرات وشركات صناعة الأدوية واضح ولا يحتاج إلى شرح، فكلّ لقاح تقريبًا طورّ من قبل جهتين أو أكثر (فايرز وبيونتيك، أسترا زينيكا وأوكسفورد إلخ..).
- الأبحاث على فيروسات كورونا لم تنطلق من الصفر أبدًا، فهناك وباءان سبّبهما أسلاف كورونا المستجد: سارس 2004، ميرس 2012.
- عدد المتطوعين غير المسبوق للمشاركة في المراحل الاختبارية الأولى للقاحات، فقد شارك مئات الآلاف من الناس في هذه التجارب وهنا لا بدّ من تحيّة لشجاعة هؤلاء الأشخاص.
خاتمة
ما يخيف حقًا في مجتمعاتنا هو رفض بعض القادة والزعماء السياسيين أخذ اللقاح، كلّ اللقاحات كي لا ندخل في تصنيفات سياسية، وهذا أمر مستغرب في بلد لا يملك إمكانات طبية حكومية حقيقية وغرف عناية كافية وأسطوانات الأوكسجين فيه تبقى مرهونة لأمزجة مؤسّسات تجارية خاصة.. نقصد بها المستشفيات الخاصة.
لا بدّ من القول إنّ الأشخاص المناهضين للقاحات ربما لم يكونوا ليبقوا على قيد الحياة لولا وجود مجتمع من حولهم حصل على اللقاحات اللازمة لتحقيق المناعة المجتمعية، ومن هنا علينا اليوم أن نفكر أكثر في مصلحة البشرية، فأن يأخذ كل واحد منا اللقاح اليوم أو غدًا ضد فيروس كورونا المستجد لا يعني فقط إنقاذ نفسه فقط من الإصابة بل إنقاذ عدد من الأشخاص من حوله، في حال أصبح حاملًا صامتًا للمرض.
كل شيء قابل للتسييس إلا صحة الناس وحياتهم.