

المَجرَى اسمُ مكان من الفعل جَرَى، الفاعل جَارٍ والمصدر جَريٌ وجَريان. ثمَّة فارقٌ بين العَدو والجَّري من زاوية الاستخدام؛ العَدوُ مفردة لا تُستَخدَم إلا في وَصف حالِ الحركةِ السَّريعة لكائنٍ حي؛ لا يُقال مثلًا إن النهرَ يعدو، وبالمثل لا يُقال إنه يَركض. النهر على ما عرفنا: يجري، ويبدو أن مشتقات الجَّري أكثر مرونة من غيرها؛ إذ يُمكن إدراجُها ضمن صِيغ مجازية مُتعددة تختصُّ الجماد وغيره من موجودات؛ فالزَّمن يَجري والحياة تجري، والجري في هذه الحال فعلٌ لا يُرى إنما نلحظ أثره.
***
يجري الواحد على رزقِه ويسعى؛ يدفعه الأملُ في غدٍ أكرم إلى المحاولة مرةً وأكثر. بعضُ المرَّات تنعدمُ الفُرصَ ويغيب بصيص الضوءِ عن الأفق وتسود العتمة. أمٌ تضيق بها الدنيا فتنهي حياتها وولدها بسبب ضيق ذات اليد، ورجل يعجز عن سَدّ احتياجات أسرته فلا يجد مفرًا من إلقاء نفسه إلى النهر أو أسفل قطار مار. اليأس مخيفٌ ما تربَّع في الروح وأطفأها، ولا مناص من القيام بفعل ذي أثر حاسم؛ كي تعود المياه إلى مجاريها.
***
إذا عرض واحد على آخر أن “يجريَ له” في مصلحة ما؛ كان القصد أن يسعى لإنهائها، والغالب أن يطلبَ مُقابلًا لقاء الجَّهد الذي سيقوم به. الوسيلة قد تبقى غامضة والنتيجة الإيجابية هي التي تُحدّد الجائزة، وعلى الساعي أن ينجز عمله على أتم وجه كي تأخذ الأمور مجراها؛ فيحظى بالثمرة المرجوة.
***
تتسم قنوات المياه بميل هندسي – ولو طفيف – كي يكفل الحركة، فإن اعتدل المجرى واستقام؛ ركدت المياه في مكانها وأسنت. شرط من شروط النظافة أن تكون المياه جارية؛ فإن زالت عنها هذه الصفة تغيَّرت خصائصُها وباتت على عكس المرجو مصدرًا للتلوث، والشيء بالشيء يُذكَر؛ فثمة مَجرى للبول وآخر للهواء؛ وكلاهما مَصون ومُزوَّد بوسائل تطهير ودفاع تحفظ للجَّسد سلامته.
***
قدَّمت دور العرض في الثمانينات فيلم “جري الوحوش”؛ بطولة نور الشريف وحسين فهمي ومحمود عبد العزيز، وإخراج علي عبد الخالق. يجسد الفيلم صراع البطل مع ما رمته به الأقدار، ثم تلقيه عقابًا صارمًا على رغبته في تحديها والتغلب عليها؛ نهاية تمثل دعوةً صريحةً للاستسلام والرضاء. لم أتعاطف مع قصة الفيلم؛ إذ هي في ظني مُتجنِّية على حقِّ الإنسان في السَّعي نحو أحلامه وأمنياته، وإذ يقدِّم العلمُ فرصًة لتحسين حياة الفرد، فإن تجاهلها أو رفضها يضعه على الجانب المضاد للتطوُّر البشري، والحقُّ أن هذه التصوُّرات التي تعادي الاكتشافات الجديدة؛ ليست إلا مسلكًا خائبًا عماده الخَوف وجُمود الفكر.
***
يقول المثلُ الشعبي: “اجرِ يا بني آدم جري الوحوش؛ غير رزقك لم تحوش”، والمراد أن يكف المرء عن ارتكابِ الحَماقات والانخراطِ في الشُّرور، من أجل تحقيق مُراده؛ فثمَّة حدٌّ فاصلٌّ ما بين أداءٍ مُتزن يأخذ بالأسباب المَنطقية ولا يحيد عن تحقيقِ الهدف، وآخر مَحموم مُستَعِر، لا يُفضي سوى للإنهاك والخسارة.
***
داخل صالاتِ الإحماء؛ حيث المشَّايات الكهربائِية الحديثة؛ يجري الزبائنُ في أماكنهم. الجَري في المكان هنا فعلٌ حقيقيٌّ لا مزحة، يتيح مُمارسة الرياضةِ دون التعرُّض لأجواءٍ مُرهِقة؛ لكن التعبير نفسَه يُصبح في بعض الأحوال مجازيًا، يُفيد غيابَ الإنجاز وتعطُّله، فهذا الذي يتصوَّر أنه يجري في مكانه ويقطع مسافاتٍ واسعة؛ لم يزل في مَوضِعه، لم يتقدَّم بمقدار خطوة واحدة ولم يُحقِّق شيئًا. تلتصق قدماه بالأرض؛ بينما يتخيل أنه شارفَ على بلوغِ النهاية، وبقدر اللهاث العنيف؛ تأتي المفاجأة الصادِمة، فالجَّهد الضخم قد أُرِيقَ في غير مَحلِّه والنتيجةُ صِفرية.
***
هناك من يجري مما أخافَه وأرهبَه، يبتعد عنه ويتجنب لقاءَه، وعلى الجانب الآخر هناك مَن يجري إلى مَن أحب قلبه وهوى؛ يروم لقياه وصحبته. فعلُ الجَّري في الحالين واحد؛ فيما الاتجاه معاكس.
***
إذا ازداد العبءُ على أكتاف امرئٍ، ودفعه إلى الإتيانِ بسلوك مُستعجَب ذَميم؛ تلمس العارفون له العذر وأفصحوا بحاله: “معلش أصله بيجري على كوم عيال”. كَومُ العِيال حملٌ ثقيل، والعملُ على توفير القُّوت لهم وإتاحة فرص التعليم أمامهم؛ يكاد يقترب من المستحيل؛ خاصةً والظرفُ الاقتصاديُّ خانقٌ، والتدهوُر العام مُتواصِل. يُقال كذلك: “عندها أيتام تجري عليهم”؛ في إشارة لامرأة ترعى أولادًا توفي عنهم الأب وتركهم دون عائل. الجري في الحالين سباق عنيف مع النفس، وظيفة صباحية وأخرى مسائية وثالثة منزلية، دين يثقل الكاهل هنا وتوسُّل يَدهس الكرامة هناك.
***
بعض المرات يصر الواحد على مسلك يعود عليه بأثر سلبي أكيد. يكرره ولا ينصت للنصائح، يراه الناس ويدهشون لإصراره على المضي قدمًا في طريقه، ولا يجدون من الحكم والمأثورات ما يصف الحال بأفضل من قولة: ”بيجري على خراب عشه“. الأصل نجده في الأمثولة القديمة: دبور وزن على خراب عشه، ويحكى أنها قيلت في واقعة قيام فلاح بتدمير عش دبور راح يضايقه بإلحاح؛ فكانت النتيجة هلاكه.
***
“ع اللي جرى”؛ أغنية أداها فنانون عدة، من بينهم أصالة، ويبدو أنها في الأصل للفنانة التونسية عليا، وقد قدمتها منتصف الستينيات من ألحان حلمي بكر، وكلمات مُحسن الخياط.
***
إذا زهق واحد من آخر وضجَّ من تفاهاته؛ قال له: ”اجرِ العب بعيد يا شاطر“، والقصد أن يمضيَ عنه ويكفَّ عن تنغيصِ مزاجه. فعلُ الأمرِ حاسمٌ، يؤكد قوة القائل، وفي السِّياسة كثير المواقف التي تستحق القول؛ لا سيما والمناطحة تبدو في غير محلها؛ إنما تكفي الكلمة والإشارة.
***
يُقال إن الجري نصف الجدعنة؛ والقصد أن الفرار من معركةٍ لا يُرجى الفوزُ بها هو اختيار صائبٌ ومُحبَّذ. الحق أن الجريَ صار في الآونة الأخيرة كل واحد صحيح، ليس بنصف؛ لكنه أيضًا ليس من الجدعنة والشهامة والمروءة في شيء. يجري حكامُ العرب بعيدًا عما يقع على أرض فلسطين، يتصورون أنهم قادرون على حماية أنفسهم بخطب ود العدو، ويتناسون أن المعركة معركتهم، وأن الهرب لا يجدي.
(*) بالتزامن مع “الشروق“