يقصد دونالد ترامب في كلامه خوض الحروب بمعناها التقليدي، اي تلك التي تتطلب جيوشا جرارة وهجوما بريا بعد قصف جوي، كما حصل حين غزت اميركا وبريطانيا العراق بناء على كذبتي اسلحة الدمار الشامل وتعامل الرئيس الراحل صدام حسين مع القاعدة، او حين تم غزو فيتنام وافغانستان، او حتى ليبيا أيضا بذريعة نشر الديمقراطية والياسمين وأنهار اللبن والعسل. فتم تقسيم العراق وغرقت افغانستان بأسوأ موجات الارهاب، وليبيا بأفدح التفتيت.
بهذا المعنى، ترامب لم يشن حروبا. لكن الرجل امتهن الاحتيال السياسي والخطاب، تماما كما امتهن قبله الاحتيال الاقتصادي والتجاري، ففي كتاب مهم جدا لتفنيد خطاباته وأساليب دعايته، ظهر قبل أيام قليلة في فرنسا بعنوان: “دونالد ترامب – تشريحٌ لتسويق ولاية خارج المعهود”، يشرح الكاتب أن هذا الرجل الذي يشبه بدعايته الصاخبة ادولف هتلر او سيلفيو بيرلسكوني (رئيس وزراء ايطاليا السابق)، اعتمد أساليبت دعائية مدروسة باتقان مع كل ما يتخللها من كذب وتضليل ولعب على الأوتار العاطفية. فرجل الأعمال الذي يقول انه بنى ثروته بجهده وان والده الثري لم يعطه سوى مليون دولار حين بدأ. كان يكذب لأنه اعطاه على الاقل 14 مليونا ومشاريع استثمارية عقارية. وهو كذب أيضا بشأن شهادته ذلك انه كان قد أرسل طالبا حتى يقدّم الامتحان مكانه، وكذب كذلك بشأن سبب عدم خدمته العسكرية في فيتنام، ذلك ان طبيبا صديقا لوالده زوّر له شهادة عدم صلاحيته للقتال.
يشرح الكتاب ان الرئيس المنتهية ولايته، كان بالأصل أكثر قربا من الحزب الديمقراطي، فهو كان ضمنيا مؤيدا للاجهاض، وكان بين شركائه في لعبة الغولف الرئيس السابق بيل كلينتون، وكانت كل حياته وتصرفاته المتحررة تتناقض مع الافكار المحافظة للحزب الجمهوري والانجيليين. لكنه أدرك بعد الحماقات العالمية والداخلية التي ارتبكها سلفه جورج دبليو بوش، أن البوصلة ستميل صوب اليسار، وان مرور رئيس أسود البشرة هو باراك اوباما الى البيت الأبيض، سيزعزع العمق الأبيض الجرماني في المجتمع الاميركي، فتقدم وترشح وفاز. وقد صوّت له العمال خشية فقدان اعمالهم بسبب سياسة العولمة التي انتهجها اوباما، وصوّت له المتشددون الذين رأوا فيه سدّا ضد الشطحات الاجتماعية للحزب الديمقراطي كمثل الزواج للجميع الذي شرّع منذ العام 2015 زواج المثليين.
حين يختتم رجل التسويق السياسي والتجاري، عهده الصاخب والمثير للشغب والفوضى، بشعار تسويق خاتمته قائلا :”انا الرئيس الوحيد الذي لم يشن حروبا”، قد تُصدّقه العقول الأميركية التي لا تهتم كثيرا بمتابعة السياسة الخارجية. لكن هل فعلا هو لم يخض الحروب ام خاضها بأساليب اخرى؟
شكل ترامب نتاجا جديدا لماركة سياسية، تشبه نتاج دعاياته التجارية. فاستخدم شعارات جاذبة ولغة جسد مدروسة باتقان، وعبّر عن مكنونات أميركيين يرَون في الهجرة الشرعية وغير الشرعية مصيبتهم، وفي الاسلام عدوا، وفي كل أجنبي منافسا، برغم ان معظم المجتمع الاميركي مستند الى تركيبة من دول مختلفة.
كان ترامب يُدرك انه برفعه شعار:”Make America Great Again” (فلنجعل أميركا عظيمة من جديد)، وبترداد عبارة “صدِّقوني”، وبوعده الناس في حملته الانتخابية بان كل دولار سيتبرعون به لحملته سيعود عليهم مضاعفا 4 أو 5 مرات، انما يغذي ذلك الحلم الدفين في قلوب الاميركيين.
لا شك ان الانجيليين الجدد الذين صار عددهم يربو على 100 مليون في أميركا الشمالية والجنوبية، ساندوه لأنه وعدهم بالكثير في الداخل والمجتمع والعائلة، وحقق لهم امانيهم الخارجية وبينها نقل السفارة الاميركية الى القدس (هو في الواقع نفذ قرارا متخذا قبله ولم ينفذه اي رئيس)، وتشريع احتلال اسرائيل للجولان السوري المحتل والقضاء على الحلم الفلسطيني ودفع الدول العربية نحو التطبيع.. تبنّى ترامب هذا الحلم الديني التبشيري بحذافيره، وهو في العمق ليس مؤمنا ولا متدينا.
مجرد العودة الى الاتفاق النووي يعني هزيمة نكراء لترامب، خصوصا ان لا ايران قدمت تنازلات ولا دورها ضعف في المنطقة، ولا اسرائيل قابلة بالعودة الى الاتفاق، وأبرز حلفائها حزب الله صار أكثر قوة وتسليحا
انا لم أشن حروبا .. دعاية ساذجة:
حين يختتم رجل التسويق السياسي والتجاري، عهده الصاخب والمثير للشغب والفوضى، بشعار تسويق خاتمته قائلا :”انا الرئيس الوحيد الذي لم يشن حروبا”، قد تُصدّقه العقول الأميركية التي لا تهتم كثيرا بمتابعة السياسة الخارجية. لكن هل فعلا هو لم يخض الحروب ام خاضها بأساليب اخرى؟
نعم هو خاض حروبا كثيرا، وهذه أبرزها:
- هو خاض حربا اقتصادية وتجارية ضد الصين. وكاد الأمر يصل الى مواجهة عسكرية بدعمه تايوان. وغادر البيت الأبيض مجرجرا خلفه آثار حرب اقتصادية مع الصين، ومسميّا فايروس كورونا الجديد أي كوفيد 19 بـ”فايروس الصين”.
- هو خاض حربا ضد الاتحاد الاوروبي وفرض عليه ضرائب جديدة على السلع.
- هو خاض حربا ضد المناخ والبيئة بانسحابه من اتفاق باريس المناخي.
- هو انتقل الى الحرب الدقيقة مع ايران، فاغتال أبرز قائد عسكري عندها الجنرال قاسم سليماني برفقة الرجل القوي في الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، اضافة الى حرب العقوبات ضد دول وكيانات عديدة.
- هو غادر البيت الأبيض بينما الجيش الأميركي يخوض حرب احتلال لجزء من الاراضي السورية.
- هو خاض حرب حصار اقتصادية على لبنان بذريعة تطويق حزب الله وتأليب البيئة اللبنانية ضده.
- هو مارس حرب الكاوبوي ضد دول خليجية لسلبها كميات كبيرة من المال من دون مقابل.
- هو خاض حربا لا أخلاقية ولا إنسانية ولا قانونية ولا شرعية حيال القدس والجولان وفلسطين بشكل عام.
ناهيك عن الحروب الكثيرة بالوكالة التي خاضها عنه حلفاؤه وفي مقدمهم اسرائيل.
هل ربح ترامب حروبه المتعددة؟
اذا كان هدف الحرب هو تدمير العدو ونهب ثرواته واعادته ضعيفا الى طاولة الاستسلام، فان ترامب خسر عمليا معظم معاركه، لماذا؟
- اولاً في الداخل خسر الانتخابات والرئاسة، وجعل العرق الأبيض العنصري يُصاب بنكسة، فربح خصومه.
- ثانياً بالنسبة للصين، يُعبر فريق بايدن عن الاستمرار في التعامل بحزم مع الصين، اولا لادراك هذا الفريق بضرورة ارضاء الشيوخ الجمهوريين، وثانيا لأن الصين اصبحت فعليا المنافس العالمي الأكثر تهديدا لأميركيا. لكن الأكيد ان كل سياسة ترامب لم تضعف الصين بل زادتها قوة بحيث انها الوحيدة مثلا التي شهدت نموا اقتصاديا برغم جائحة كورونا.
- ثالثاً بالنسبة للاتفاق النووي مع ايران، صحيح ان فريق بايدن يقول انه سيعود متشددا الى الاتفاق بالتعاون مع حلفائنا وشركانئا (وفق ما اعلن وزير خارجيته المقبل انطوني بلينكين)، لكن مجرد العودة الى الاتفاق يعني هزيمة نكراء لترامب، خصوصا ان لا ايران قدمت تنازلات ولا دورها ضعف في المنطقة، ولا اسرائيل قابلة بالعودة الى الاتفاق، وأبرز حلفائها حزب الله صار أكثر قوة وتسليحا.
- رابعاً بالنسبة لسوريا، لا شك ان بايدن سيعتمد سياسة التشدد التي اعتمدها رفيقه وصديقه باراك اوباما قبله، لكن واقع التفاوض مع ايران والتفاهم الضروري مع روسيا، واعادة اطلاق عملية سلام في المنطقة تفترض تغيير الاستراتيجية. لا نعرف حتى الان كيف ستكون، لكن الأكيد ان ترامب لم يربح شيئا من استمرار احتلاله لجزء من الأرض السورية، وان روسيا رسّخت اقدامها أكثر في المنطقة.
- خامساً بالنسبة لاتفاقيات المناخ والتفاهم مع الاوروبيين، لا شك ان المستقبل سيكون لطي كل الفوضى التي تسبب بها ترامب، واعادة الامور الى مجاريها وعودة اميركا الى اتفاق باريس المناخي.
وحدها فلسطين تبقى المقياس. فالرئيس بايدن قال حرفيا انه لن يتراجع عما فعله ترامب لجهة نقل السفارة الاميركية الى القدس. والنظام الرسمي العربي قدّم لترامب هدية ثمينة عبر التطبيع، فهل سيشعر بايدن فعليا بالضغط لكي يعيد اطلاق عملية المفاوضات، ويعيد الأمل بقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.. ربما سيحاول، لكن لا شك أن اميركا في ظل هذا الوضع العربي المهترىء، ما عادت مستعجلة في هذا الأمر، الا اذا نجح الفلسطينيون في الداخل في قلب الطاولة والمعادلة.
هنا فقط ربح ترامب، مؤقتا، إحدى أسوأ معاركه وأكثرها لا أخلاقية ولا انسانية.. حتى اشعار آخر. أما حلفاء ترامب في المنطقة، فهم بلا شك الأكثر قلقا. وهذا بحد ذاته هزيمة لسياسته الهوجاء التي لم تخض حروبا كبرى وانما خاضت حماقات أكبر كادت تدمر العالم.