جان عبيد.. الحكيم والحَكَم

برحيل جان عبيد، يشعر كل لبناني يعرفه أنه خسر جزءاً منه بتواريه أو أنه ترك جزءاً منه معنا. سنحتفظ له بفضيلة التقدير والمحبة والإعجاب. جان عبيد لا يتكرر.

دخل معالي الأستاذ جان عبيد المسرح اللبناني من بابه الأوسع، الصحافة التي خاض غمارها وميادينها منذ مطلع ستينيات القرن الماضي.

قبل ان يُعين نائباً عن الشوف عام ١٩٩٠، كان مستشاراً للرئيسين الياس سركيس وأمين الجميّل وقبلهما، كان على علاقة جيدة بالرئيس سليمان فرنجية وبنجله طوني والد سليمان فرنجية. خدم لبنان وزيراً للتربية والخارجية في عهدي إلياس الهراوي واميل لحود.

كان جان عبيد خبيراً في السياسة بأبعادها الداخلية والعربية والدولية. كان متحدثاً ومؤثراً في الوقت نفسه. كان صديقاً للعديد من الرؤساء والقيادات اللبنانية على تنوع مشاربهم ومراكزهم. دخل السياسة من أبوابها العروبية، لكن عروبته كانت فقط في خدمة لبنان. كان يركز على احتمالات ما يمكن ان يكون غداً، من دون خوف من المبادرات أو المآزق او حتى أن يُنسب إليه الفشل. ساعد من خلال إتصالاته الدولية ولا سيما العربية الواسعة كل العهود التي عمل معها وخلال أخطر المراحل التي مرّ بها لبنان.

يتمتع جان عبيد بسمعة طيبة في النزاهة والأمانة. أحب لبنان وكان يستمتع في خدمة بلده وناسه، سواء في الداخل الممزق أو الخارج المتأزم. كان ديبلوماسياً بإمتياز أثناء خدمته لبنان وزيراً للخارجية في أوائل العقد الأول من هذا القرن.

كان جان عبيد صادقاً ومؤمناً وحراً. أحب الحرية وأحب أن تنتقل عدواها إلى الجميع. أحب رئاسة الجمهورية ورأى دوره فيها حكيماً وحكماً ثم حاكماً، وكانت الثقة عِملته الصعبة. رفض الرئاسة عندما كانت شروطها مقرونة بالدمار والدم عام ١٩٨٩، وأُبعدت عنه عام ٢٠٠٤ عندما كان الجو السياسي في سوريا ولبنان متوتراً

لم يتوقف يوماً عن الاستفادة وكسب الخبرات من التجارب، كما من الكتب التي تملأ طاولة مكتبه والمكتبات التي تزنّر جنبات مكتبه الدافىء في سن الفيل، وكيف ننسى تلك الاجتماعات المستدامة الراقية بنقاشاتها في مكتبه كما في منزله. دائم الشغف في الاستماع وصاحب قدرة هائلة في إختيار الحِكَم والأبيات والآيات إستناداً إلى خبرة طويلة وثقافة عريقة. كان قادراً على الإحاطة بكل شاردة وواردة ولكل كبير وصغير في بلده الصغير الكبير لبنان.

عرفت عنه منذ ستينيات القرن الماضي والتقينا في صيف عام ١٩٨١ في سهرة عشاء في منزل الشيخ (الرئيس لاحقاً) أمين الجميّل في بكفيا، وتصادقنا خلال زيارته الى واشنطن عام ١٩٩١ وكان ثالثنا رجل السياسة والمعلومات العميقة الصديق الشهير خالد خضر آغا. كان يفضّل الحوار في المكاتب والجلسات الصغيرة المغلقة. لم تكشف ملامحه اللطيفة ومواقفه الجريئة سوى القليل القليل من صفاته وخصاله.

كان جان عبيد يتكلم بشفافية مطلقة، خاصة عندما كان يواجه رجال السلطة. لم يخف أحداً منهم، فقد كان معروفاً بصراحته اللاذعة وعدم تلونه، لكن لم تكن المواجهة أسلوبه المفضل. رسالته هي هي لأيٍّ كان، فلا يغيّرها عندما تختلف الظروف. لم يكن من جماعة الهيك وهيك. كان صريحاً حد الوقاحة الجميلة والمطلوبة.

كان جان عبيد صادقاً ومؤمناً وحراً. أحب الحرية وأحب أن تنتقل عدواها إلى الجميع. أحب رئاسة الجمهورية ورأى دوره فيها حكيماً وحكماً ثم حاكماً، وكانت الثقة عِملته الصعبة. رفض الرئاسة عندما كانت شروطها مقرونة بالدمار والدم عام ١٩٨٩، وأُبعدت عنه عام ٢٠٠٤ عندما كان الجو السياسي في سوريا ولبنان متوتراً ويهدد بالعنف والإنقسام.. والفتنة.

الآن، سيتعين علينا مواصلة العمل الذي طالما حثنا على القيام به: أن نحب الحرية، أن نمارس الصراحة بالأخص في الحوارات الوطنية، وألا نفقد أبداً تعطشنا للمعرفة.  سنفتقده. ومع ذلك، لم يكن من الممكن أن نطلب أكثر من احتضانه الشغوف لأفراح الحياة وتحدياتها. لذلك يجب أن نكون ممتنين، لأنه حتى عندما نحزن على فراقه، فإننا جميعاً أفضل بكثير لأننا كنا جزءاً من صفحات جريئة وشجاعة وجميلة عاشها.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إثارة قضية اللاجئين في لبنان وتركيا.. لماذا الآن؟
عبد الله بو حبيب

وزير خارجية لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل تطوي صفحة الموسوي.. جاءها زمن نصرالله (77)