إلغاء الدعم يطوي صفحة نظام لبناني بديله الفوضى!

إعتمد لبنان في مدى 30 سنة أسوأ أنواع الدعم على الإطلاق. فإذا كانت الإتهامات توجه إلى الطبقة السياسية بأنها أهدرت وأفسدت وأساءت إدارة البلاد، فإن ملف الدعم هو الأخطر في ذلك الإنحراف المدمر الذي حرق الأموال وبدّد الموارد في أتون خيارات ظاهرها شعبي وباطنها مافيوي أدت الى الإفلاس.

يُعتمد الدعم عادةً لمساعدة الشرائح الأكثر فقراً، وللقطاعات التي تخلق فرص عمل وتزيد الصادرات وترفع تنافسية الاقتصاد وتُعظّم القيمة المضافة فيه.

 تأتي أموال الدعم مبدئياً من الضرائب والرسوم التي تؤخذ من اصحاب المداخيل والثروات المتوسطة والكبيرة لتوزع على الأكثر حاجة اجتماعياً والأجدى اقتصادياً. هذه واحدة من أبسط قواعد إعادة توزيع الثروة المعتمدة في معظم الانظمة الليبرالية العادلة نسبياً أو الاشتراكية الكفوءة اقتصادياً.

بعد اتفاق الطائف، تسنى للبنان فرصة بناء دولة عادلة ومنتجة ومستدامة، لكن خيار الزواج الميليشياوي-الأوليغارشي استقر على بناء محاصصة حزبية وطائفية وطبقية ومصرفية وتجارية بأموال أتت من مصدرين أساسيين.

منذ أوائل التسعينيات الماضية وحتى العام 2010، تركز الاعتماد على المساعدات والقروض الدولية والاستدانة من الأسواق المالية، وبعد ذلك تفتق ذهن “الطغمة” عن جريمة العصر، أي مد اليد الغادرة الى الودائع المصرفية، بعدما انهارت الثقة بلبنان من قبل المقرضين والمانحين والمكتتبين بسندات الخزينة، بحجة التقاعس عن اصلاح انحراف الاقتصاد وفشل تنقية المالية العامة.

انفق لبنان في مدى 30 سنة نحو 300 مليار دولار، من خلال ميزانيات سنوية كانت عاجزة على الدوام. في المتوسط العام بلغ الانفاق السنوي 10 مليارات دولار على أن المبلغ كان أقل من ذلك في سنوات العقد الأول، ثم ارتفع على نحو هستيري في العقدين الثاني والثالث.

في أواخر صيف 2019 كان احتياطي العملات يزيد على 34 مليار دولار. أهدروا 20 مليار دولار في سنتين منها 8 مليارات هرّبوها الى الخارج، لغايات هم يعرفونها جيداً هرباً من استحقاق توزيع الخسائر حتى لا يقع عبؤها على المصارف وكبار “القوم” الفاسدين

تبديد 20 ملياراً في 24 شهراً

في السنتين الماضيتين، وبعدما تعطلت معظم أدوات تعبئة الموارد، لجأت الدولة الى مصرف لبنان الذي لبّى النداء وانفق 20 مليار دولار اي بمعدل 10 مليارات دولار سنوياً أيضاً، استكمالاً لمخطط سرقة الودائع كرمى لبقاء المهيمنين على هيمنتهم والساطين على سطوتهم. علماً بأن هذا المبلغ كان يغني عن أي قروض ومساعدات دولية لو تسنى توظيفه في بدائل مثل النقل العام لوقف هدر دعم البنزين واصلاح الكهرباء لوقف هدر دعم الفيول، فضلاً عن امكان الصرف دعماً لصناعات تُخفّف فاتورة الاستيراد لا سيما الدواء، وتخصيص مبلغ لا يتجاوز المليار دولار سنوياً لدعم الاكثر فقراً نقداً وليس عبر دعم السلع والخدمات.

في أواخر صيف 2019 كان احتياطي العملات يزيد على 34 مليار دولار. أهدروا 20 مليار دولار في سنتين منها 8 مليارات هرّبوها الى الخارج، لغايات هم يعرفونها جيداً هرباً من استحقاق توزيع الخسائر حتى لا يقع عبؤها على المصارف وكبار “القوم” الفاسدين بالدرجة الاولى. حموا المصارف وارادوا رشوة الناس بالدعم، فحصل ما حصل من تعميم للفقر وبقيت المصارف مفلسة!

لم يكن المسار السابق للأزمة صدفة. إذ ادمنت الطبقة السياسية الحاكمة، بإئتلاف بين مجمل المكونات السياسية والطائفية، صرف الاموال بأي ثمن لضمان ديمومة هيمنتها من دون اكتراث بمصدر تلك الأموال. جُلّ ما كانت  تريده هو 10 مليارات دولار سنوياً للتحاصص والزبائنية والدعم العشوائي لعموم السكان ليس لأنهم مواطنين بل لأنهم رعايا طائفية ناخبة.

نحو 40 الى 50  في المائة من تلك الأموال كان يذهب للدعم باشكاله العشوائية المختلفة. وتبين ذلك جلياً منذ أواخر العام 2019 عندما تولى مصرف لبنان الصرف لتغطية الحاجة التي تمثلت في دعم كهرباء لبنان والمحروقات والأدوية إلى جانب سلة غذائية، مقابل التخلي عن دعم الليرة وبالتالي ترك انهيارها على غاربه.

الهروب إلى الأمام

قبل ذلك، كان تركز اهتمام مصرف لبنان على دعم سعر صرف الليرة الذي كلفه نحو 45 مليار دولار باعترافه. يضاف الى ذلك مبلغ 45 ملياراً ذهب لدعم كهرباء لبنان التي بقيت تعرفتها مدعومة بنسبة تراوح بين 80 و90 في المائة منذ ما بعد الطائف الى اليوم. الى ذلك، يضاف دعم البنزين الذي بقي في لبنان بين الأرخص عالمياً، حتى انه في السنتين الماضيتين كان ارخص من الدول النفطية نفسها، وينطبق الهدر نفسه على دعم المازوت ومواد وسلع أخرى أيضاً.

لقد مارسوا دائماً الهروب الى الأمام بعدما فشلت الدولة والأحزاب الطائفية التي تتحاصصها في اقامة شبكة نقل عام تغني عن ضرورة اقتناء السيارة، وفشلت في إصلاح الكهرباء، وفشلت في دعم قطاع الصناعة (خصوصاً الدواء) للاستغناء عن بعض الاستيراد وتوفير العملة الصعبة، وفشلت في ضبط الانفاق الجاري لا سيما على الاجور والرواتب التي وضعت زوراً ـ وبمستواها المصطنع ـ لبنان في شريحة الدول المصنفة  فوق المتوسطة الدخل بفعل الربط المكلف جداً لليرة بالدولار.

الدعم “السخي” لم يحسّن مستوى معيشة الغالبية العظمى من اللبنانيين لا بل افاد منه الأغنياء اكثر من الفقراء، وأخطر مثال هو افادة التجار في سنتين من 12 مليار دولار زعموا انهم خصصوها للدعم فاذا بمعظمها يذهب للكارتيلات والمحتكرين

جل ما اعتقدت انها نجحت فيه تلك “الدولة المسخ” هو رفع مستوى معيشة اللبنانيين عبر تثبيت سعر الصرف ودعم الكهرباء والمحروقات والدواء وبعض الغذاء. وبدا ذلك كأنه رشوة معممة للجميع في حين ان باطن الأمر خلاف ذلك تماماً.

إقرأ على موقع 180  كورونا يعيدنا إلى كانتوناتنا.. لبنان ليس بخير

وبنتيجة هذا التوزيع، المعتمد على الاقتراض في البداية ثم على الاقتراض وودائع الناس لاحقاً، تبين أن اكبر المستفيدين هم السياسيون والمصرفيون وكبار التجار وأهل الإحتكار. اذ تركزت الثروة في أيدي هذه القلة القليلة في وقت كانت الدولة منهوبة الموارد والناس مسلوبة الودائع.

فما إن حل العام 2019 المفصلي حتى انفضح على الملأ ان لبنان بين أكثر البلدان التي تعاني من عدم المساواة في توزيع الثروة في المنطقة والعالم بحسب تقارير الاسكوا. اذ حل في المرتبة العشرين في هذا الترتيب “السيء الذكر”. ويشهد لبنان احد اعلى مستويات تركز المليارات للفرد الواحد (سبعة من اصحاب المليارات لكل 4.8 ملايين نسمة من السكان اللبنانيين، وهو معدل أعلى من الموجود في أميركا وأوروبا). ففي 2019 كان أغنى 10 في المائة في لبنان يملكون 70.6 في المائة (أكثر من 151 مليار دولار) من مجموع الثروات الشخصية. وبلغ معدل ثروة الفرد الواحد في فئة الـ 10 في المائة الأكثر غنىً 360 الف دولار مقابل ما بين 3200 و9144 دولاراً لبقية السكان.

أمّن السياسيون استمرار حكمهم بهذه التعمية الاحتيالية. اوهموا الناس بدعمهم في رواتبهم ودوائهم وكهربائهم وسياراتهم، وهم في حقيقة الأمر كانوا يُعظّمون هيمنتهم على الثروة وهيمنة حلفائهم من كبار المصرفيين والتجار. فالدعم “السخي” لم يحسّن مستوى معيشة الغالبية العظمى من اللبنانيين لا بل افاد منه الأغنياء اكثر من الفقراء وبأشواط فلكية. وأخطر مثال هو افادة التجار في سنتين من 12 مليار دولار زعموا انهم خصصوها للدعم فاذا بمعظمها يذهب للكارتيلات والمحتكرين. مثال صارخ يضاف الى فضيحة افادة المصارف بفوائد عالية ثم بحمايتهم من تبعات جريمة تبديد ودائع الناس وتجنيبهم كأس الافلاس، وتركهم واقفين هانئين متفرجين اليوم على مآسي المجتمع كأن الأمر لا يعنيهم.

ماذا بعد؟

لوهلة، ظنّ السياسيون ان الاعتماد على المجتمع الدولي سيغطي كل تلك الموبقات، لكنهم فوجئوا بقواعد لعبة جديدة تمنع عنهم المال السهل وتضع عليهم شروطاً اصلاحية شبه مستحيلة بنظرهم بفعل تركيبة الحكم التحاصصي في لبنان. فأي اصلاح هو انتقاص من هيمنة هذا او ذاك على المرافق والادارات والوزارات التي سجلّوها بأسمائهم.

وإمعاناً في الهروب الى الأمام، استعرت الخلافات والنكايات على كل المستويات فاسحة ترف المجال لحاكم مصرف لبنان لاعلان تصحيح المسار بانهاء الدعم من دون كبير قلق من قبل “أولي الأمر” لأنهم يعرفون كيف قسّموا اللبنانيين العاجزين الآن عن تغيير المعادلة القائمة بثورة مستحيلة او حرب مدمرة.

الى أين من هنا؟

نظرياً يمكن التعويل على نحو 60 إلى 70 مليار دولار لقيامة لبنان جديد. وهي مجموع ما تبقى من احتياطي عملات في مصرف لبنان اضافة الى الذهب وقروض ومساعدات “سيدر” وقروض ممكنة من صندوق النقد والبنك الدوليين وايرادات خصخصة انتقائية شفافة مانعة للاحتكار والاستغلال وتركز الثروة أكثر، ومعممة الفائدة على مختلف شرائح المجتمع لا سيما الأقل دخلاً.

مليار واحد فقط من تلك المبالغ يكفي سنوياً لدعم الأكثر فقراً نقداً، والباقي لبناء دولة حديثة واقتصاد منتج وفق نهج اصلاحي يقطع جذرياً مع كل الممارسات التي سادت منذ التسعينيات الماضية إلى تاريخه. نهج يمكن، مع الزمن، التعويل عليه أيضاً لسداد بعض الودائع التي سرقت.

لكن السؤال الأزلي هو: هل يمكن الوثوق بالطبقة الحاكمة لتدير تلك الاموال الانقاذية الممكنة؟ الجواب “لا وألف لا” طبعاً!

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  جمرةَ حبٍ للمؤتمنين على المصير.. والدروب