كان الأمين العام لحزب الله واضحاً في خطابه، عندما توقف عند خطاب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي (كانون الثاني/ يناير الماضي) الذي تحدث فيه عن تبدل أو تغير في إستراتيجية ضرب الأهداف العسكرية، فاتحاً الباب أمام إحتمال إستهداف مدنيين بعنوان “ضرب أهداف عسكرية”. هنا فتح السيد نصرالله باباً لمعادلة ردعية جديدة، تنسجم في جزء كبير منها مع قواعد تفاهم نيسان/ أبريل 1996، وذلك عندما كانت المقاومة في لبنان تستهدف المستوطنات مقابل إستهداف أية أهداف مدنية في لبنان. قال نصرالله: سنعود إلى المعادلة القديمة. مدينة مقابل مدينة، مستعمرة مقابل قرية لبنانية، تضربون أهدافاً مدنية في لبنان بحجة ضرب أهداف عسكرية، نضرب أهدافاً عسكرية إسرائيلية بين المدنيين.
ولعل الإشارة الأبرز في خطاب نصرالله هي إشارة “لعبة الأيام القتالية”، وهو المصطلح الذي يكثر الإعلام العبري من إستخدامه في الآونة الأخيرة، وذلك في معرض التمهيد لإستهداف ما في لبنان هذه المرة وليس في سوريا، على أن تكون إسرائيل جاهزة لخوض أيام قتالية، أي أقل من حرب وأكثر من معركة في مكان واحد. قال نصرالله للإسرائيليين “هذه لعبة خطيرة”. السبب أن “لا أحد يضمن أن لا تجر إلى حرب خطيرة”، وهذه الجملة تبعها تذكير للإسرائيليين، بأن جبهتهم الداخلية ستواجه للمرة الأولى منذ نشوء الكيان الإسرائيلي وقائع ميدانية جديدة لا مثيل لها في كل تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وهو كان بذلك يفتح الباب أمام سيناريوهات تتصل بالترسانة الصاروخية ومدياتها، ولا سيما منها الصواريخ الدقيقة التي لم تختبر إسرائيل فاعليتها في أي من حروبها مع حزب الله، ولكن تعرف أنها قد إختبرت في حرب اليمن وفي ساحات أخرى.
كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله واضحاً بقوله إن حزب الله لا يريد حرباً ولا يريد مواجهة وهو يقيس الأمور بميزان من الدقة والحكمة، وهو ليس منعزلاً عن المنطقة التي تشهد حراكاً في الأسابيع التي تلت فوز جو بايدن، يكاد يصح القول فيه إنه حراك إستثنائي، من اليمن وإحتمالات وقف الحرب إلى إيران وإحتمالات وفرص التفاهم النووي مرورا بسوريا والعراق وأفغانستان.
قال نصرالله للإسرائيليين نحن لن نترك دماء شهدائنا. هذه الجملة مفتاحية عند الإسرائيليين، فحزب الله قرر أن يرد على إستهداف أحد مقاتليه (علي كامل محسن جواد) في سوريا في 20 تموز/ يوليو 2020. حاول الإسرائيليون توفير سلم للحزب طوال سبعة شهور، من أجل النزول عن شجرة الإلتزام الذي قطعه أمينه العام بالثأر لجواد وفق معادلة “الدم مقابل الدم”، لكن جواب حزب الله لم يتغير: الرد آتٍ وحتمي. هنا تبدو المعادلة بالغة الدقة والحساسية. ليس خافياً على أحد أن حزب الله، لأسباب كثيرة، لا يريد الحرب، ولكنه في الوقت نفسه، يتصرف على أساس أن الحرب ممكنة، ولذلك، يوجه الرسائل تلو الرسائل للإسرائيليين: لسنا من أنصار الحرب لكن إن فرضتموها علينا، سنخوضها ونترك النتائج تتحدث عن نفسها، اي نحن لا نريدها ولكننا جاهزون لها ضمن شروط وصياغات ومسارات محددة.
لذلك، يستبطن المشهد الحالي أحد السياقين اللذين لا ثالث لهما: الأقصى ويتمثل بخوض “الأيام القتالية”، الأدنى ويتمثل بالردع الذي يحول دون الوصول إلى “الأيام القتالية”.
جرت العادة أن يهدد الإسرائيلي بتدمير لبنان وبيروت، لكن هذه المرة، قرر مغادرة الخطابية: إذا كنتم لا تسمعون ولا تقرأون، تعالوا وشاهدوا ما نحضّره لكم في الميدان. مسار إنطلق منذ نهاية الصيف الماضي مع مناورة “السهم الفتاك”، وهي الأكبر منذ سنوات، وصولاً إلى المناورتين العسكريتين المتتاليتين؛
الأولى، الأسبوع الماضي، وأسمتها قيادة جيش الإحتلال “مناورة الأذرع المتعددة”، وتخللتها تدريبات برية في المناطق الشمالية القريبة من الحدود مع لبنان وسوريا، وذلك في معرض محاكاة الجغرافية اللبنانية (جنوب لبنان) والسورية (جنوب سوريا).
الثانية، بدأت الأحد الماضي وإنتهت اليوم (الثلاثاء)، وهي عبارة عن مناورة جوية قتالية، كان الإعلان عنها مفاجئاً وأطلق جيش الإحتلال عليها تسمية “وردة الجليل” وهدفها “فحص جاهزية وتعزيز قدرات سلاح الجو في مواجهة أي سيناريو قتالي على الجبهة الشمالية”، على حد تعبير أفيخاي أدرعي الناطق بإسم جيش الإحتلال الإسرائيلي.
وكان لافتاً للإنتباه ما قام به الجيش الإسرائيلي للمرة الأولى، “بمحاكاة هجوم تتعرض له إحدى طائراته من لبنان وصولاً إلى تطور الموقف إلى حرب ضد حزب الله، حيث ثبت أن بإمكان سلاح الجو مهاجمة 3000 هدف يومياً داخل لبنان”، على حد تعبير موقع “والا” الإسرائيلي، وفي ذلك إشارة إلى أن إحتمال حيازة حزب الله على صواريخ أرض ـ جو تغيّر معادلة الجو، بات موجوداً في حسابات الجيش الإسرائيلي، لا سيما في ضوء ما شهدته سماء لبنان وفلسطين المحتلة في الأشهر الأخيرة على صعيد “حرب المُسيرات”، بكل أبعادها (مُسيرة مقابل مُسيرة، صاروخ مقابل مُسيرة، أي سلاح الدفاع الجوي، تقنيات التسيير والإستكشاف إلخ..).
كل وظيفة هذه المناورات هي محاولة ردع حزب الله. الرد كان واضحاً: إستنفار كبير في كل مناطق إنتشار حزب الله في لبنان وسوريا. المعادلة لم تتغير: الدم مقابل الدم. مشكلة الإسرائيلي هي ما يكاد يفصح عنه علناً: لا تحرجوننا. نحن محكومون بالرد. السبب هو الخشية من تكريس قواعد إشتباك جديدة، تجعل يد حزب الله هي العليا في الميدان، أي أن إسرائيل بمجرد قبولها بتكريس “الرد التناسبي” تكون قد قررت أن تقيّد نفسها، بعكس ما يلمح إليه رئيس الأركان الإسرائيلي من تغير وتبدل يبيح إستهداف المدنيين في لبنان بعنوان ضرب أهداف عسكرية (هنا المقصود إسرائيلياً ترسانة الصواريخ الدقيقة).
ما قاله الأمين العام لحزب الله في الدقائق العشر الأخيرة من خطابه هو ما لم يكن الإسرائيلي يريد سماعه. هذا يعني أن إحتمالات الحرب موجودة في حسابات الجميع. الجهوزية لا تستثني أحداً. ثمة حسابات أخرى، أبرزها حاجة إسرائيل إلى ضوء أخضر أميركي غير متوفر حالياً. ثمة معطيات إسرائيلية تتصل بكورونا والوضع الإقتصادي وفصل الشتاء والجبهة الداخلية والإنتخابات الإسرائيلية المقررة في شهر آذار/ مارس المقبل. معطيات لا تصب في خانة خيار الحرب. بالمقابل، لا يمكن تجاهل ما يجري في الإقليم من تطورات، ولا سيما في الملف النووي.