برغم الأزمة الإقتصادية والمالية والنقدية الكارثية، لا بد من قول الأمور كما هي. عنصر الإستعصاء الكبير في السياسة هو قرار فتح معركة رئاسة الجمهورية بشكل مُبكّر. هناك فئة من السياسيين لا يهمها إذا إحترق البلد أو إختفى عن الخريطة. تراه فقط من زاوية تأمين مصالحها. رئاسة الجمهورية هي قدس الأقداس.
منذ إستقالة سعد الحريري في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إعتقد جبران باسيل، وربما هو محق تبعاً لمنظومة مصالحه، أن إنقلاب الحريري على التسوية الرئاسية التي أتت به وبميشال عون إلى الرئاستين الأولى والثالثة، إنما هو إنقلاب على فرصة لطالما راهن عليها لجعل هذه التسوية تستمر بمفعول مستقبلي يتجاوز ولاية ميشال عون، أي أن تكون كفيلة بتغطية وصول باسيل إلى رئاسة الجمهورية.
ما علاقة ذلك بما يجري حالياً في الشارع؟
الناس المحتجون محقون سواء أكانوا يتحركون بشكل منظم أو عفوي. أكانوا بالمئات، كما هم حالياً، أم يعبرون عن ملايين الغاضبين القابعين في منازلهم، لكن ذلك لا يمنع من محاولة التوغل أكثر في خلفيات ما يجري، مع تزاحم الإستحقاقات، وهذا يأخذنا إلى أن العناصر الداخلية والخارجية متداخلة وليس صحيحاً أي فصل بين هذه وتلك في معرض تفسير هذا الإنسداد السياسي الكبير.
ما هي الخيارات المتاحة رئاسياً من الآن وحتى خريف العام 2022؟
الخيار الأول هو الفراغ الرئاسي، سواء جرت الإنتخابات النيابية في موعدها في ربيع العام 2022 أو تم تمديد ولاية مجلس النواب الحالي، ذلك أن أياً من المرشحين لن يستطيع توفير لا نصاب الثلثين (86 نائباً) ولا النصف زائدا واحداً (65)، ويمكن لطريقة الإحتساب أن تتغير إذا ألغيت الإنتخابات الفرعية وإستمر الشغور في عشرة مقاعد إستقال أصحابها أو توفوا، وهذا هو الأكثر ترجيحاً حتى الآن.
الخيار الثاني هو إنتخاب جبران باسيل رئيساً للجمهورية. لنقل إنه ثمة إستحالة في بلوغ هذا الخيار الذي لا يمكن أن يتوفر له أكثر من 45 صوتاً في أحسن الأحوال، بينها أصوات نواب حزب الله وحتماً ليست بينها أصوات كتلة الرئيس نبيه بري الذي يعتزل السياسة ولا ينتخب باسيل رئيساً للجمهورية.
الخيار الثالث هو إنتخاب مرشح ماروني يختاره جبران باسيل ويحظى بموافقة بري وكتل نيابية أخرى، تكون وظيفته تأمين جسر إنتقالي إلى حين توافر ظروف رئاسية أفضل في مرحلة لاحقة، على أن تكون مهمته الأولى والأخيرة الحفاظ على إرث ميشال عون وترتيب أرضية السجادة الحمراء أمام باسيل في العام 2028!
الخيار الرابع هو وضع “فيتو” باسيلي على أي مرشح رئاسي لا يوافق عليه رئيس التيار الحر وميشال عون. يستهدف ذلك سمير جعجع وسليمان فرنجية بالدرجة الأولى، وحتماً رياض سلامة الذي لم يعد مرشحاً جدياً، بل صار همه توفير الخروج الآمن من منصبه الحالي إلى أقرب منفى أوروبي في أسرع وقت ممكن وليس بالضرورة حتى إنتهاء ولايته في العام 2023.
الخيار الخامس هو إختيار مرشح رئاسي من خارج النادي السياسي الماروني. هنا يتبدى إسم قائد الجيش الحالي جوزف عون في طليعة هؤلاء المرشحين. هل يمكن أن يكون قائد الجيش هو المخرج الأنسب للجميع؟
بالنسبة إلى ميشال عون والثلاثي الماروني (باسيل وجعجع وفرنجية)، هم لا يريدون أن يسمعوا بإسم قائد الجيش. حجة هؤلاء فائض حرص على المؤسسة العسكرية أو ربما فائض حرص على الحريات السياسية. في الحالتين، من يقرر أن يكون جوزف عون رئيساً للجمهورية هو الخارج أولاً، وتحديداً الولايات المتحدة وإيران. بقية القوى الإقليمية والدولية قد تكون مؤثرة أو منعدمة التأثير لكن القرار هو بيد هاتين الدولتين. الفيتو لأي منهما من شأنه أن يقطع الطريق على أي مرشح. بالمقابل، أي تفاهم بين الإثنتين يوسع هوامش الأوفر حظاً.. رئاسياً.
هنا يصبح السؤال هو الآتي: هل أصبح الجيش اللبناني حالياً هو المدخل الوحيد لإستعادة الثقة الدولية والإقليمية وحتى المحلية بلبنان؟
إذا توافرت العناصر الخارجية وهي تتقدم بهذا الإتجاه، لا بد وأن يكون ممر قائد الجيش الإلزامي محلياً مثلث الأضلاع: “الثنائي الشيعي”، سعد الحريري، وميشال عون.
من يستمع إلى مداخلة رئيس الجمهورية في الإجتماع الإقتصادي ـ المالي والعسكري ـ الأمني الذي عقد برئاسته الإثنين الماضي في القصر الجمهوري، يستنتج أن معظمها كان موجهاً إلى جوزف عون. ثمة تقارير تلقتها مراجع رئاسية لبنانية تفيد بأن المؤسسات العسكرية والأمنية وتحديداً مخابرات الجيش وفرع المعلومات كانت لهما حصة وازنة في الشارع الملتهب وصولاً إلى ما يسمى “إثنين الغضب”!
بدا ميشال عون مستفزاً من كلام قائد الجيش الصباحي في اليرزة، قبيل إنعقاد الإجتماع العسكري ـ المالي في بعبدا بحضور جوزف عون. هذه هي المرة الأولى التي يقول فيها قائد الجيش كلاماً سياسياً عالي السقف منذ خروج الجيش السوري من لبنان في ربيع العام 2005.
كانت وظيفة “خطاب إثنين الغضب” الذي تم التمهيد له، إعلامياً وسياسياً، شد عصب المؤسسة العسكرية التي تواجه ظروفاً موضوعية غير مسبوقة، وتحديداً لجهة فقدان القيمة الحقيقية لرواتب الضباط والعسكريين، في ضوء الإنهيار النقدي والمالي وذلك مقابل زيادة المهام الملقاة على عاتقهم. زد على ذلك التضييق الذي تتعرض له المؤسسة العسكرية في مجالات عدة، مثل محاولة عدم صرف أموال وهبات تم إيداعها بالعملة الصعبة في مصرف لبنان، ومحاولة التدخل في الترقيات والتشكيلات، وهذه النقاط أشار إليها جوزف عون وصولاً إلى سؤاله الأول من نوعه إلى السياسيين: “إلى أين نحن ذاهبون، ماذا تنوون أن تفعلوا، لقد حذرنا أكثر من مرة من خطورة الوضع وإمكان انفجاره.. أتريدون جيشاً أم لا؟ أتريدون مؤسسة قوية صامدة أم لا”؟
أراد قائد الجيش أن يميّز خطاب المؤسسة العسكرية الذي يلقى مقبولية عند الحريري و”الثنائي”، فلا يندرج في سياق خطاب أهل السياسة الذين يريدون للجيش أن يكون رأس حربة السلطة في مواجهة الشارع (برغم إتهام البعض للجيش بالتحريك)، وبالفعل، كان لافتاً للإنتباه أن سلوك العسكريين على الأرض لم يتغير حرفاً واحداً بعد إجتماع القصر الجمهوري، برغم السقف العالي الذي رفعه رئيس الجمهورية (القائد الأعلى للقوات المسلحة) وصولاً إلى قوله “أنا ميشال عون ما حدا يجربني. بالعام 1990، رفضت أن أتنازل تحت ضغط المدفع والآن لن أتنازل تحت ضغط الدولار”.
الكل يحاول أن يركب موجة وجع الناس ولا سيما القوات اللبنانية في الشارع المسيحي. للقوات موالها. هذا ما تشي به خلوة الثلاث ساعات بين السفير السعودي وليد البخاري ورئيس حزب القوات سمير جعجع. الأصل هو حزب الله عند السعوديين. إضعافه يؤدي إلى إضعاف منظومته، أي عون وباسيل. طُرحت سيناريوهات عديدة بينها إستقالة نواب القوات اللبنانية. هذا الخيار الذي وضعته القوات على الطاولة منذ مطلع الصيف الماضي، لكنه سقط بمجرد عدم إنضمام سعد الحريري ووليد جنبلاط إليه، عشية وصول إيمانويل ماكرون إلى بيروت في زيارته الأولى في السادس من آب/ أغسطس، غداة إنفجار مرفأ بيروت في الرابع منه.
الثابت أن القوات لن تستقيل وحدها، لأنه في حالة كهذه ليس مستبعداً الذهاب إلى إنتخابات رئاسية “بمن حضر” نيابياً، لكن المعادلة التي تدفع السعودية بإتجاهها حتماً تقوم على الآتي: يُقدم سعد الحريري إعتذاره عن التكليف الحكومي في حالة واحدة. أن يقترن الإعتذار بالإستقالة الفورية لنواب “المستقبل” من مجلس النواب (20 نائباً بينهم تمام سلام)، ومعهم كتلة “القوات” (15 نائباً) وكتلة اللقاء الديموقراطي (7 نواب) وكتلة نجيب ميقاتي (3 نواب)، بالإضافة إلى نهاد المشنوق.
عندها يصبح عدد المستقيلين بحدود الـ55 نائباً، ما يؤدي إلى قلب جدول الأعمال السياسي رأساً على عقب وصولاً إلى الذهاب نحو إنتخابات نيابية مبكرة، تواكبها بكركي بنزع الميثاقية عن السلطة التشريعية، الأمر الذي يحتم من وجهة نظر هؤلاء “قطع الطريق على أية محاولة لتمديد ولاية المجلس النيابي الحالي، حتى يكون هو من ينتخب رئيس الجمهورية المقبل، كما يريد جبران باسيل”.
هل يمتلك ميشال عون سيناريو مختلفاً؟
ورقة الإستقالة يستطيع ميشال عون إستخدامها قبل لجوء الآخرين إلى إستخدام ورقة الإنتخابات النيابية المبكرة، فهل يمكن أن يلجأ إليها الآن أم مطلع العام المقبل أم أنها غير موجودة نهائياً في قاموسه السياسي؟
ماذا بعد؟
لهذه الطبقة السياسية أن تضع عقلها في رأسها وأن تبادر إلى تقديم تنازلات متبادلة فتولد حكومة لا أحد يمتلك فيها الثلث المعطل، تشكل مدخلاً لإستقطاب ثقة خارجية وداخلية ولو بحدها الأدنى، وممراً لإستقطاب دعم مالي خارجي عبر صندوق النقد وصناديق ومؤسسات إستثمارية أخرى.
هل هناك من يضع هذا الخيار في صلب جدول أعماله؟
لا أحد حتى الآن.. للبحث صلة.