تونس: الحرب الدستورية تستعر.. و”ثورة الياسمين” حزينة

لا تزال الحرب الدستورية الباردة بين الرئيس التونسي، قيس سعيد، ورئيس الحكومة، هشام المشيشي، دائرة ومستعرة، فسلاح الأول الدستور والقانون بينما يتسلح الثاني بدعم الأغلبية البرلمانية المكونة من حركة النهضة وحزب "قلب تونس" و"إئتلاف الكرامة".

خرج الخلاف إلى العلن بين الرئاستين ليقسّم التونسيين من جديد، بمجرد رفض سعيد أداء الوزراء الجدد اليمين الدستورية ومباشرتهم لمسؤولياتهم بسبب وجود شبهات فساد تحوم حولهم.

وعلى إمتداد الأسابيع الماضية، تحولت الساحة السياسية إلى ميدان نزال بين سعيد والمشيشي. وإن لم تضع بينهما الحرب أوزارها بعد، فإنها كشفت عن جوانب مخفية في شخصية المشيشي الذي اختاره سعيد لترؤس الحكومة وقدّمه على أنه “الشخصية الأقدر”.

إختار قيس سعيد في شهر تموز/ يوليو 2020، اثر استقالة حكومة إلياس الفخفاخ، مستشاره السابق ووزير الداخلية آنذاك هشام المشيشي لتشكيل الحكومة الجديدة. واجه هذا الخيار رفضاً بادئ الأمر من قبل عدة فاعلين سياسيين، في مقدمتهم حركة النهضة صاحبة الـ54 مقعداً في البرلمان. يومها قال زعيم الحركة، راشد الغنوشي، تعليقاً على اختيار المشيشي، إن “البلاد بحاجة إلى رجل إقتصاد لا إلى رجل قانون، وتحتاج الخبرة وليس مجرد نظريات”، فيما اتهمت قيادات “قلب تونس” الرئيس التونسي بالانقلاب على الدستور، وتعيين شخصية من خارج الأحزاب الفائزة بأعلى عدد مقاعد في البرلمان.

إلا أن الأحزاب المقربة من سعيد تفاءلت بهذا الاختيار، باعتبار أن المشيشي شغل منصب المستشار الأول للشؤون القانونية لدى الرئيس التونسي، وهو من رجاله المقربين. واعتبر هؤلاء أن المشيشي سيلعب دوراً في تعزيز وتقوية موقع رئيس الجمهورية ولن يرضخ لحركة النهضة ومن يتحالف معها، الأمر الذي من شأنه أن يحبط مساعي عزل الرئيس وإقصائه سياسياً.

ولم تكد تمر ساعات على التكليف، حتى عقدت الصفقة بين “النهضة” و”قلب تونس” و”إئتلاف الكرامة” وهشام المشيشي، ليضع الأخير الحجر الأول في حائط القطيعة مع سعيد. بداية، عقد المشيشي صفقة التصويت في البرلمان لمنحه الثقة، في مقابل توزيع الحقائب الوزارية بما يرضي الأحزاب الداعمة، حتى أنه تولى في ما بعد، تنفيذاً لهذه الصفقة، إقالة الوزراء الذين اقترحهم سعيد (الثقافة والداخلية والهيئات الدستورية وحقوق الانسان) ولو لم يقيّده الدستور في ما يخص وزيري الدفاع والخارجية باعتبارهما من حصة الرئيس في الحكومة، لكانا أيضاً من المقالين منذ مدة.

وانطلق المشيشي، في شهر كانون الثاني/يناير الماضي، في مشاورات لإجراء تعديل (تحوير) وزاري “في إطار ضخ دماء جديدة في الحكومة” على حد قوله. خطوة وصفها مراقبون بأنها عملية تطهير للحكومة من أي بصمة لقيس سعيد واستبعاد المستقلين في سياق تعويضهم بأسماء تقدمها أحزاب الإئتلاف الحاكم. وسارع المشيشي الى استشارة القوى البرلمانية الداعمة له، فيما تجاهل سعيد، ما دفع الرئيس إلى دعوته صراحة لاستشارته. أما الشرارة القادحة في هذا الخلاف، فتمثلت في تعمد المشيشي تقديم قائمة الأحد عشر وزيراً المقترحين إلى البرلمان للحصول على الثقة متجاهلاً رأي الرئيس قيس سعيد فيهم، والمبني على تقارير الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد المتعلقة بوجود شبهات فساد وتضارب مصالح تشمل ستة وزراء من المقترحين.

وحصل الوزراء المقترحون، في 26 كانون الثاني/يناير الماضي، على ثقة ما يقارب ثلثي نواب البرلمان، وتشكل حول المشيشي حزام داعم واسع كرسالة لخصومه بأن الأغلبية البرلمانية في صفه وستدعمه في جميع فصول حربه. ولأن سعيد لم يغفر لـ”النهضة” وحلفائها إسقاط حكومة إلياس الفخفاخ للسبب ذاته وهو تضارب المصالح، فإنه تمسك بهذا السبب ليرفض أداء الوزراء اليمين الدستورية ومباشرتهم لعملهم.

مسار التخلي عن المشيشي أو الإبقاء عليه يبقى رهن التسويات والتوافقات بين القوى البرلمانية الداعمة له مع قيس سعيد

وتواترت إثر ذلك التصريحات الداعية له للعدول عن هذا الرأي، واستعان الائتلاف الحاكم بخبراء القانون في بادئ الأمر لإحراج الرئيس “أستاذ القانون الدستوري”، وانتهت التصريحات بتهديد واضح لسعيد بسحب الثقة وإعفائه من مهامه ليكون أول رئيس “مخلوع دستورياً” في تونس الديمقراطية. واعتبرت “النهضة” من خلال تصريحات قياداتها وفي مقدمتهم زعيمها راشد الغنوشي، أن ما أقدم عليه الرئيس سعيد هو تهديد صريح للانتقال الديمقراطي وتجاوز لصلاحياته “الشرفية والصورية”. ودعا حزب “قلب تونس” بوضوح إلى توجيه لائحة لوم للرئيس بسبب الخرق الجسيم للدستور وإعفائه من مهامه. وبرغم أن “قلب تونس” يعلم استحالة تنفيذ هذا الإجراء الذي يتطلب وجود محكمة دستورية تؤكد وقوع خرق جسيم للدستور من قبل الرئيس، إلا أن قياداته روّجت لهذا الخيار المستحيل في إطار ممارسة الضغط على سعيد الذي رد عبر حلفائه بلائحة لسحب الثقة من رئيس البرلمان وزعيم “النهضة” راشد الغنوشي.

وبما أن الحرب الكلامية مع الرئيس لم تعد تجدي نفعاً، اتجه المشيشي إلى جمع خبراء القانون الدستوري طالباً منهم فتوى قانونية تسمح لوزرائه بمباشرة عملهم من دون أداء اليمين الدستورية، وفي مرحلة ثانية توجه رئيس الحكومة إلى المحكمة الإدارية التي ردت بعدم اختصاصها في البت في نزاعات رأسي السلطة التنفيذية، وكذلك كان رد الهيئة المؤقتة لدستورية القوانين. وباءت كل مجهودات المشيشي بالفشل ليلجأ إلى تعيين من تبقى من طاقمه الحكومي وزراء بالنيابة على رأس الوزارات الشاغرة وأبقى على نفسه وزيراً للداخلية بالنيابة.

إقرأ على موقع 180  أوروبا إلى "الهاوية".. بقيادة فرنسا وألمانيا!

خمسة أسابيع والأزمة على حالها، لا حلحلة في موقف الرئيس ولا تعديل باستثناء التصعيد الكلامي من جهته، ورسالة، على طريقة ملوك الأمويين، بعث بها إلى المشيشي يلقنه عبرها درساً في القانون الدستوري والإداري وبعضاً من مبادئ الحكم الرشيد. وتعالت بالتوازي مع ذلك أصوات حلفائه من حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب (معارضة برلمانية) تدعو رئيس الحكومة للإستقالة.

يدافع سعيد عن هامش الفعل السياسي الضيق الذي يسمح له به الدستور، ويسعى منذ انطلاق الأزمة إلى الحفاظ على موقعه كخصم وحكم وحيد في المعركة. ولم يتأخر كثيراً حتى قدم إجابة عن سؤال خامر الكثيرين عن مآلات هذه الأزمة وكيف سيستثمرها الرئيس لصالحه. جاء هذا الرد في 9 آذار/مارس الحالي، عند دعوة الرئيس لحليفيه في البرلمان حزبي الشعب والتيار وتقديمه تصوراً لحوار وطني لا يقوم على التسويات السياسية حول أزمة الحكم وإنما على أجندة اقتصادية واجتماعية قائمة على “مشروع وطني سيادي” ومطالب سياسية تتلخص في تعديل النظام السياسي بإلغاء النظام البرلماني وتعويضه بنظام رئاسي مضبوط بضمانات دستورية تكبح جماح التفرد بالسلطة وترسخ مبدأ المساءلة.

قطعاً، لا تستسيغ “النهضة” وحلفاؤها، مشروع الرئيس وطرحه ولا ترغب في التعاطي معه، لكن اشتداد الأزمة السياسية وتحملها جانباً هاماً من المسؤولية في ذلك أمام الرأي العام علاوة عن تصاعد شعبية الحزب الدستوري الحر المبنية على معاداته لحركة النهضة وتحجيم دورها، قد يدفعها للقبول بحوار سعيد وتصوراته على مضض. أما بالنسبة الى المشيشي، الذي يواجه أزمة اقتصادية خانقة لم تشهد البلاد نظيراً لها منذ إندلاع ثورة الياسمين في العام 2010 وحراكاً اجتماعياً عجز عن تطويقه بسياسة الحديد والنار، فإن مسار التخلي عنه أو الإبقاء عليه يبقى رهن التسويات والتوافقات بين القوى البرلمانية الداعمة له مع سعيد.

هل تتجدد الثورة التونسية في ضوء الإحباطات المتراكمة أم أن موسم الثورات مؤجل؟

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  في تونس.. السلطة المِقصَلة تتهدد المجتمع المدني