هذا ما يجري تمامًا اليوم على السّاحة التربوية في لبنان، فمع الارتفاع الكبير في عدّاد الإصابات بالكورونا مع عودة البلاد إلى الحياة شبه الطبيعية والتفلت الحاصل في الشوارع والتهافت على التجمعات الكبيرة سواء العائلية في المنازل أو في المحال التجارية، وعد وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال أنّ المدارس ستعود إلى التعليم المدمج خلال شهر نيسان/ أبريل الحالي، على أن يرتبط التاريخ النهائي بانطلاق المرحلة الثانية من التلقيح ورفع الأساتذة من المرحلة الثالثة إلى المرحلة الثانية كي يأخذوا اللقاح خلال أسبوع العودة الأول.
لا أعرف إذا كان ما قاله وزير التربية يصلح كمشهد في المسرحية التي ذكرتها أولًا أم هي أخطاء إعلامية مغفورة، إذا مشت الأمور على ما يرام وبدأت فعليًا عملية تلقيح الحقل التعليمي بدءاً من أول نيسان/ أبريل، من قال إنّهم يستطيعون العودة إلى الأعمال العادية دون الوقوع في خطر الإصابة؟
اللقاح لا يعطي الفعالية التامة من لحظة إخراج الإبرة من جسم الشخص، بل يحتاج أقلّه لـ 15 يومًا بعد الجرعة الأولى لتحصيل المناعة الأولية ومن ثمّ هناك فترة انتظار تقدّر بحوالي الـ 12 أسبوعًا (3 أشهر) ومن بعدها تأتي الجرعة الثانية التي تحتاج أيضًا لـ 15 يومًا لتحقيق المناعة التامة ومن بعدها يمكن للشخص أن يدخل المجتمع بحذر أيضًا لا بتفلت تام، لأنّ من حوله لم يحصلوا على اللقاح بعد وقد يكونوا من حاملي الفيروس، وهو سيصاب حتى لو كان ملقحًا ولكن بعوارض خفيفة جدًا مع إنخفاض نسبة العدوى بشكل كبير.
وعليه، هذه العودة الآمنة إلى المدارس ليست آمنة على الإطلاق من الناحية الوبائية، ولكن عند مقاربة التربية لا بدّ من البحث بشكل معمّق في الأمور التعليمية من جهة والمادية من جهة ثانية.
يمكن مقاربة الأمور بشكل لا مركزي أقلّه لهذا العام، فالامتحانات الرسمية التقليدية أصبحت بعيدة كلّ البعد وخاصة مع الواقع الوبائي المسيطر حيث لا إشارات تنذر بنهاية قريبة لما نحن فيه في القريب العاجل، بالإضافة إلى التكاليف الكبيرة للامتحانات والمشاكل اللوجستية التي سترافقها
التعليم عن بعد في لبنان، في الوضع الحالي، ليس على ما يرام كي نقول أنّه يمكن اعتماده كلّيًا في المرحلة الآنية لحين هدوء العاصفة الفيروسية وذلك لعدّة اعتبارات أهمّها:
- الوضع الاقتصادي والاجتماعي الضاغط على الأهل والأساتذة على السّواء الذي لا يسمح لهم بأيّ حال من الأحوال بشراء الأجهزة المناسبة لممارسة هذا النوع من التعليم، فتجد على سبيل المثال عائلة فيها عدد من الأولاد كلّهم يستعملون جهازًا واحدًا للدراسة، والحال ذاتها بالنسبة للأساتذة الذين يستهلكون اليوم أجهزتهم الخاصة دون مقابل، ولو تعطّل الجهاز هم مهددون بالإيقاف عن العمل في حال كانوا يعملون في التعليم الخاص أو بالتفتيش في حالة التعليم الرسمي، وهذا خارج كلّ منطق وعقل.
- لا زلنا حتى اليوم، أي بعد مرور أكثر من سنة على إطلاق وزير التربية لعملية التعليم عن بعد بعيدين كلّ البعد عن العمليّة التعليميّة، فلا إعداد حقيقيا للأساتذة أو التلامذة على هذه الطريقة ولا استخدام جيدا للمنصات إلّا ما ندر من مدارس خاصة لديها موازنات خاصة لا يمكن تعميم تجربتها على الوضع اللبناني كلّه.
- البنية التحتية المهترئة في لبنان بشكل لا يوصف، فلا الكهرباء مؤمنة بشكل لا ينقطع ولا الانترنت أيضًا وهذه الخدمات متفاوتة بشكل كبير بين المناطق ما يضرب المبدأ الأساسي من العملية التعليمية أي تكافؤ الفرص، فالتلميذ في المنطقة المحرومة لا يتعلّم مثل الموجود في العاصمة بيروت، والموجود في ضواحي العاصمة أيضًا أو ما يعرف بأحزمة البؤس لا يجد نفس نوعية التعليم أيضًا.
بالتالي نحن أمام معضلة كبيرة وحقيقية، فلا العودة الآمنة هي آمنة فعلًا ولا التعليم عن بعد يحقّق الهدف المرجو منه، إذًا ما الحلّ أو كيف الخروج من هذه الأزمة المركبة من دون المخاطرة بإضاعة سنة دراسية ثانية على التلامذة والطلاب؟
أولًا، يجب التوقف عن سياسة الرؤوس المتعدّدة في وزارة التربية في لبنان، والتي أدّت إلى ضرب أهم عنصرين في العملية التعليمية: المعلّم والمتعلّم، فلماذا لا يكون هناك ناطق أو ناطقة رسمية باسم الوزارة في مثل هذه الحالة الطارئة التي نعيش وطبعًا لا ضرورة هنا للتوظيف بل يمكن الاستعانة بأحد الموظفين الموجودين أصلًا في الملاك، لماذا على الجسم التعليمي أن ينتظر المقابلات التلفزيونية أو الإذاعية للوزير أو المدير العام لمعرفة ماذا عليه أن يفعل غدًا، هل هكذا يكون التواصل الصحيح؟
ثانيًا، يمكن مقاربة الأمور بشكل لا مركزي أقلّه لهذا العام، فالامتحانات الرسمية التقليدية أصبحت بعيدة كلّ البعد وخاصة مع الواقع الوبائي المسيطر حيث لا إشارات تنذر بنهاية قريبة لما نحن فيه في القريب العاجل، بالإضافة إلى التكاليف الكبيرة للامتحانات والمشاكل اللوجستية التي سترافقها لناحية انتقال التلامذة والأساتذة على الطرقات لمسافات طويلة وربما عدم توفر المحروقات في المناطق البعيدة عن العاصمة وثمن القرطاسية اللازمة المدفوعة طبعًا بحسب سعر السوق السوداء للدولار والأهم الوضع النفسي للهيئة التعليمية كلّها غير الملائم أبدًا لهكذا ضغط إضافي وأخيرًا التفاوت الكبير لناحية تحقّق الأهداف التعليمية بسبب عدم تكافؤ الفرص في عملية التعليم عن بعد، كما ذكرنا آنفًا.
في هذا الوطن لم يبقَ شيء إلّا وقد ضُرِبَ ودُمّر، ونحن علينا مسؤولية كبيرة لا تتجزأ ألا وهي الحفاظ على ما بقي من أسس. أسس ترى في الإنسان القداسة لا في أيّ مقام أو منصب آخر. لبنان اليوم بحاجة للمسؤولية لا للمسؤولين
وعليه يمكن اقتراح الآتي في ظلّ العقم التشريعي الذي نعانيه أيضًا، فحتى الآن لم يقرّ قانون التعليم عن بعد ولا زالت الشهادة بحاجة للامتحان المكتوب:
- الانطلاق من الأهداف التعليمية التي تحققت فعليًا خلال الجزء الأول من العام الدراسي واستكمال ما يمكن استكماله عبر التعليم عن بعد بطريقة مخففة دون ضغط كبير لتوفير الجهود على المعلّمين والتلامذة وكي تكون كلّ المدارس اللبنانية الخاصة والرسمية على حدّ سواء، وهذا أمر يمكن تنفيذه بسهولة عبر إشراك المركز التربوي للبحوث الذي يسال بشكل دائم عن الأهداف المحققة في كلّ المدارس.
- بعد وضع الخط النهائي للأهداف الذي يراعي الأوضاع في لبنان، لا في الصين، في مختلف المواد التعليمية تُجرى امتحانات حضورية بشكل يراعي الضوابط الصحية في المدارس (لا تحضر كلّ الصفوف دفعة واحدة، بل على أيام وأجزاء وهذا ما جرى فعلًا في بعض المدارس الخاصة والرسمية في بداية العام الدراسي) على أن توضع هذه الامتحانات تحت إشراف مباشر لوزارة التربية عبر ذراعها المتمثلة بجهاز الإرشاد والتوجيه فلا سهولة مفرطة ولا صعوبة كبيرة.
- قيام الأجهزة المعنية في وزارة التربية بالتعاون مع الجهاز التعليمي بوضع دروس نموذجية لكلّ الصفوف في مختلف المراحل التعليمية، محضرة وجاهزة للتعليم وإتاحتها على الموقع الالكتروني للأساتذة والطلاب وذلك لتحفيف المعاناة الكبيرة التي تواجه اليوم من قبل هذين الطرفين في التحضير والمتابعة، وهذا الأمر سينعكس إيجابًا أيضًا في تخفيف الضغط وردم جزء من الهوة الموجودة لأسباب مادية واجتماعية، فلا يمكن الطلب من أشخاص تتفاوت أحوالهم المادية اليوم القيام بنفس الأعمال وبنفس الجودة.
أخيرًا، في هذا الوطن لم يبقَ شيء إلّا وقد ضُرِبَ ودُمّر، ونحن علينا مسؤولية كبيرة لا تتجزأ ألا وهي الحفاظ على ما بقي من أسس. أسس ترى في الإنسان القداسة لا في أيّ مقام أو منصب آخر.
لبنان اليوم بحاجة للمسؤولية لا للمسؤولين.