

اليوم، تجد المقاومة الفلسطينية نفسها أمام استحقاق تفاوضي استعاد نبضه بفعل تحولات إقليمية متسارعة، تسعى من خلالها الولايات المتحدة إلى استثمار اللحظة لاستكمال مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط، بما يضمن تحييد كل قوى المواجهة مع الهيمنة الأميركية والإسرائيلية.
هي لحظة قد لا تكون مثالية للفلسطينيين، لكنها تشكِّل نافذةً نادرةً يمكن من خلالها العمل على وقف الإبادة المستمرة، وتفكيك التطبيع الإقليمي مع فكرة استمرار النزيف الغزي وكأنه قدر محتوم.
في هذا السياق، لم تكن استراتيجية المقاومة التفاوضية جامدةً أو نهائية. لكنها أيضًا لم تسلَم من الإخفاق في بعض محطاتها. ومع الإدراك الواعي بأن البيئة الدولية والإقليمية ليست في صالحها، تجد المقاومة نفسها مطالَبةً دومًا بإعادة التقييم والتموضع، بما يضمن مراكمة الإنجاز، وعرقلة أهداف الاحتلال، وحماية ما تبقَّى من الحلم الوطني الفلسطيني على أرضه.
من أولوية تحرير الأسرى إلى وقف العدوان
منذ اللحظة الأولى لانطلاق “طوفان الأقصى”، شكَّل ملفُّ الأسرى الفلسطينيين أحدَ المحركات الرئيسية للعملية. فقد وضعت المقاومة هذا الهدف في صدارة أولوياتها، وطرحت منذ الأيام الأولى عرضًا واضحًا: “الكل مقابل الكل”؛ أي الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال كافة، مقابل إطلاق سراح جميع الجنود والمحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة.
غير أن مسار الأحداث على الأرض انقلب سريعًا، إذ كشف سلوك الاحتلال أن هدفه المركزي لم يكن استعادة الأسرى، بل تنفيذ خطة إبادة شاملة ضد قطاع غزة، بشراكة أميركية سافرة ودعم غربي مطلق، أطلق يد الجيش الإسرائيلي في تدمير كل ما يُمكن أن يتنفس على هذه الأرض، متجاوزًا بذلك كل الخطوط الحمر، من إنسانية وقانونية وأخلاقية.
أمام هذا التحول، أعادت المقاومة الفلسطينية تموضعها التفاوضي. فمع تعمُّق الكارثة، لم يعد ممكنًا حصر النقاش في صفقة تبادل أسرى كما ورد في “إطار باريس”، بل توسعت طاولة المفاوضات لتشمل الأساس الأهم: وقف العدوان ووقف الكارثة الإنسانية. وعلى الرغم من أن هذا المطلب قوبل في البداية برفض إسرائيلي وتعنت أميركي، فإن صمود غزة وتلاشي أوهام الحسم العسكري دفعا هذا المطلب إلى الواجهة بوصفه أولويةً واقعيةً لا يمكن تجاهلها.
لقد واجهت المقاومة معضلة مزدوجة: من جهة كان بنيامين نتنياهو يربط كل قراراته بحسابات شخصية وائتلافية، ومن جهة أخرى كانت الإدارة الأميركية تمضي في مسار هندسة إقليمية جديدة تقضي بتحييد قوى المواجهة ومنح “إسرائيل” اليد الطولى في المنطقة. وهو ما جعل أية مقاربة حقيقية لوقف الحرب تصطدم بعقبات استراتيجية تتجاوز الساحة الفلسطينية نفسها.
وبينما راهن الاحتلال على فعالية ضرباته الجوية وعمليات الاغتيال في إحداث انهيار داخلي لدى قيادة المقاومة – خصوصًا حماس – وتعويله على تحييد جبهات الإسناد وتبديد فكرة الحرب الإقليمية، جاءت النتائج على النقيض تمامًا، فقد حافظت المقاومة على تماسكها، واستمر أداؤها الميداني والتفاوضي في الإصرار على اتفاق عادل يضمن وقف العدوان ويعيد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية.
ومع تغيُّر المزاج الدولي، واحتدام المشهد الداخلي الإسرائيلي بفعل تعقيدات ملف الأسرى، بدأت موازين التفاوض تميل إلى صالح المسار الذي طرحته المقاومة منذ البداية. إذ بات واضحًا أن استعادة الجنود المحتجزين لن تتحقق إلا عبر صفقة ترتبط جوهريًّا بوقف الحرب، ما أخذ يلقى استجابةً متزايدةً داخل المؤسستين السياسية والعسكرية في “إسرائيل”، لا سيما مع تراجع جدوى استمرار الحرب أمام استحقاقات داخلية وانتخابية ضاغطة.
شكَّل ردُّ المقاومة الأخير على “عرض ويتكوف” المعدَّل تحوّلًا في نمط تعاطيها مع التفاوض. فقد فاجأت الوسطاء بقبولها مبدئيًّا إطلاق سراح ثمانية أسرى إسرائيليين في اليوم الأول، وهو رقم كبير نسبيًّا في ظل غياب ضمانات لتنفيذ بقية البنود. لكن هذا القبول لم يكن مجانًا، بل مشروطًا بتعديلات جوهرية أولها، أن يكون الاتفاق بمثابة مدخل عملي لإنهاء الحرب، على أن تتضمن مخرجاته إعلانًا صريحًا من الرئيس الأميركي دونالد ترامب
كيف أدارت المقاومة معركتها تفاوضيًّا؟
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تنخرط المقاومة الفلسطينية في مسار تفاوضي عشوائي أو انفعالي. بل تعاملت مع العملية التفاوضية بوصفها جبهةً قائمةً بذاتها، تُدار بعناية، وتستند إلى تجارب تاريخية عميقة.
فإلى جانب تجربة “صفقة شاليط” التي خاضتها حركة “حماس”، درست المقاومة ملفات التفاوض السابقة، سواءٌ على المستوى الفلسطيني، بما في ذلك إخفاقات اتفاق “أوسلو”، أو على المستوى الإقليمي، وعلى رأسها تجارب “حزب الله” في لبنان.
على ضوء ذلك، رسمت المقاومةُ ملامح استراتيجية تفاوضية متكاملة يمكن رصدها على النحو التالي:
- الشراكة الوطنية في صناعة القرار:
منذ اللحظة الأولى لانطلاق المسار التفاوضي، حرصت المقاومة – وتحديدًا حركة “حماس”– على عرض كل المقترحات والعروض المقدَّمة للنقاش الوطني الواسع، وبخاصةً مع فصائل المقاومة العاملة في غزة. وقد ظهر أبرز نماذج هذا التنسيق في اجتماعات الدوحة في خلال مفاوضات يناير/كانون الثاني 2025، بمشاركة طيف واسع من الفصائل، بما في ذلك فصائل منضوية في إطار منظمة التحرير. كما برز هذا أيضًا في الإجماع الفصائلي على الرد على ما يُسمى “إطار (ستيف) ويتكوف” الأخير.
- التماسك أمام التصعيد الميداني:
اعتمدت المقاومة “العقل البارد”، وامتنعت عن ربط مسار المفاوضات بالتطورات الميدانية، على الرغم من قسوة المجازر وعمليات الاغتيال. إذ لم تنجرَّ إلى تعليق التفاوض أو الانسحاب منه، عادَّةً أن الضغوط الميدانية جزء من تكتيك الاحتلال لإفساد المسار، وأن الردَّ يجب أن يكون بالإصرار على مطلب وقف العدوان لا بالانكفاء أمامه.
- الصبر الاستراتيجي والتمسك بالثوابت:
تمسكت المقاومة بخطوطها الحمراء، ورفضت التنازل عنها على الرغم من طول أمد التفاوض. وقد نجحت عبر هذا النفس الطويل في فرض مطالب سبق للاحتلال أن رفضها بالكامل، ما عزَّز من موقعها التفاوضي وجعل مرونتها في بعض الملفات مشروطة لا مجانية.
- ترتيب الأولويات وتوزيع المرونة:
أدارت المقاومة التفاوضَ بوعي مدروس، إذ أبقت على قدر من المرونة في بعض الجوانب –مثل أعداد الأسرى وتفاصيل مراحل التبادل– مقابل تمسُّك قاطع بعناوين غير قابلة للتفاوض، على رأسها: الوقف الكامل لإطلاق النار، عودة النازحين إلى مساكنهم، انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، وضمان دخول المساعدات.
- إشراك الخبراء والمختصين:
لم تحصر المقاومةُ عملية دراسة العروض في الهيئات القيادية، بل استعانت بخبراء قانونيين ولجان تحليل فني، للتدقيق في الصياغات والنصوص، وتفادي الوقوع في فخاخ لغوية أو قانونية. وقد أُخضعت جميع النصوص للفحص باللغتين العربية والإنجليزية قبل الرد عليها.
- موقف حاسم أمام مناورات الاحتلال:
قدَّمت المقاومةُ مواقف قطعية وواضحة، ورفضت الانخراط في أية صياغات فضفاضة أو ملتبسة، وبخاصةً في ملفات حساسة مثل وقف إطلاق النار وعودة المهجَّرين والتفاصيل الدقيقة لصفقة التبادل وخرائط الانسحاب.
- مناعة أمام الترهيب الدولي:
واجهت المقاومةُ ضغوطًا دولية مكثَّفة، لا سيما من قبل إدارة دونالد ترامب، التي سعت إلى فرض مقاربات استسلامية عبر التهديد والابتزاز العلني، إلا أن المقاومة رفضت الانزلاق نحو تسويات مفخخة.
- اقتران الفعل الميداني بالمسار التفاوضي:
حرصت المقاومة على أن تُظهِر للاحتلال قدرةً ميدانيةً متماسكة، تُرسل عبرها رسائل قوة. فكانت الكمائن المحكَمة في مناطق التماس، وضربات النخبة، تُدار بتزامن محسوب مع تطورات المفاوضات، لإسقاط رهانات الضغط العسكري وانتزاع التنازلات.
- استخدام ذكي للحرب النفسية:
خاطبت المقاومةُ الجبهة الداخلية الإسرائيلية بذكاء، خصوصًا أهالي الأسرى، وعملت على تحريكهم في اللحظات التي يشهد فيها التفاوض جمودًا أو تصعيدًا، لتوليد ضغط شعبي داخلي على الحكومة لدفعها نحو صفقة تبادل.
- رصد وتحليل البيئة الدولية:
لم تغفل المقاومةُ متغيرات الرأي العام العالمي، وتحولات مواقف القوى الفاعلة، بل أولتها اهتمامًا في عملية صياغة المواقف والردود، ما ساعدها على التحرك بمرونة مدروسة ضمن مساحة المناورة المتاحة دوليًّا.
البحث عن اختراق في جدار الإبادة
مع تصاعُد المؤشرات على توجه إدارة دونالد ترامب، نحو ترسيخ واقع جديد في الإقليم، تتكشف أكثر فأكثر ملامح المطامع الاستراتيجية التي يتحرك رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، من خلالها. لا تقتصر تلك المطامع على استمرار العدوان، بل تمتد إلى محاولات تغيير بنية المنطقة، جغرافيًّا وسياسيًّا، بما يشمل العبث بحدود تُصنِّفها “إسرائيل” مصادر خطر وجودي.
في هذا السياق، تتضح بشكل لا لبس فيه النوايا الإسرائيلية لإكمال مشروع تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة، ضمن مقاربة تستبطن التطبيع مع إبقاء الإبادة جارية كأمر واقع. أمام هذا المشهد، لم يعد ممكنًا الاكتفاء بالمطالبة بإنهاء العدوان، بل باتت الحاجة مُلحَّةً للتفكير خارج الصندوق: كيف يُمكن تفكيك الحرب، لا الانتظار للوصول إلى اتفاق لوقفها؟
إن إدراك المقاومة الفلسطينية أن الموانع التي تحُول دون الوصول إلى اتفاق واضح لوقف الحرب ليست موانع أمنية أو ميدانية، بل سياسية واستراتيجية، دفعها إلى مراجعة أدواتها التفاوضية. فبدلًا من الإصرار فقط على إنهاء العدوان كشرط مسبق، بدأت تفكر في مسارات أكثر تعقيدًا، قد تؤدي عمليًّا إلى النتيجة ذاتها، ولو عبر بوابات غير تقليدية.
في هذا السياق، شكَّل ردُّ المقاومة الأخير على “عرض ويتكوف” المعدَّل تحوّلًا في نمط تعاطيها مع التفاوض. فقد فاجأت الوسطاء – وحتى الإسرائيليين – بقبولها مبدئيًّا إطلاق سراح ثمانية أسرى إسرائيليين في اليوم الأول، وهو رقم كبير نسبيًّا في ظل غياب ضمانات لتنفيذ بقية البنود. لكن هذا القبول لم يكن مجانًا، بل مشروطًا بتعديلات جوهرية:
- أولها، أن يكون الاتفاق بمثابة مدخل عملي لإنهاء الحرب، على أن تتضمن مخرجاته إعلانًا صريحًا من الرئيس الأميركي.
- ثانيها، العودة إلى البروتوكول الإنساني الذي نص عليه اتفاق يناير/كانون الثاني 2025.
- ثالثها، تثبيت انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى حدود ما قبل استئناف العدوان في مارس/آذار 2025، عندما انقلب نتنياهو على التهدئة.
الاستجابة لهذه المطالب قد تعني –عمليًّا– تفكيك أهم ما حققته “إسرائيل” في خلال عدوانها على غزة، ولا سيما سيطرتها العسكرية على نحو 70% من مساحة القطاع بفعل عملية “عربات جدعون”. كما ستَخلق فترةُ الهدوء الناتجة عن هذه الخطوة فرصةً ثمينةً أمام المقاومة لإعادة ترتيب الوقائع على الأرض بما يُصعِّب على الاحتلال تكرار عدوانه أو تحقيق أهدافه في حال قرّر التصعيد مجددًا.
اليوم التالي فلسطينياً
في قلب هذا السيناريو، تبرز ضرورة استثمار هذه الهدنة لبلورة ترتيبات “اليوم التالي” وفق توافق وطني فلسطيني، ينسجم مع الخطة المصرية لإعادة الإعمار، ويشمل تشكيل لجنة إدارة انتقالية من شخصيات مهنية تُشرِف على إعادة تأهيل ما تبقَّى من القطاع.
بموازاة ذلك، ثمة حاجة مُلحَّة لتحرُّك فاعل من المؤسسات الدولية، لا لإزالة آثار العدوان الكارثية فحسب، بل لضمان عودة الأهالي إلى مناطقهم الأصلية، ووأد فكرة إفراغ القطاع من سكانه تحت وقع الدمار والتجويع.
إذا ما ترافق ذلك مع انطلاق المسار التفاوضي المنوط به أن يُفضي إلى اتفاق دائم، فإن الضغط الدولي على “إسرائيل” لمنعها من استئناف العدوان بعد انتهاء فترة الستين يومًا سيأخذ طابعًا أكثر فاعلية، وقد يشكِّل بوابةً لإنهاء هذه المرحلة الدموية.
لكن على الرغم من هذا الأفق، لا يُمكن التغاضي عن اندفاعة الاحتلال المفتوحة في ساحات أخرى. فحرِّية الحركة العسكرية التي يمارسها في جنوبي لبنان وسوريا، وتلك التي يُهيِّئ لها تجاه إيران، تعني أن سيف العدوان سيظل مُصلتاً. إلا أن تقييد مفاعيله وتخفيض كلفته على المدنيين، وضبط حدود اشتباكه مع المقاومة، تبقى أهدافًا قابلةً للتحقق عبر مسار طويل من التراكم السياسي والميداني.