بعض النصوص، ما لم تُكتب في أوانها، انقلبت كلمات متقطّعة. كلُّ قلمٍ مكتومٍ عن الغناء الشّريف، كُتب على حبره الإفلات الدّائمُ من النوتة. كلُّ قلبٍ “بارد” في التّعاطي مع الأحداث المقدسية الأخيرة هو إمّا ضعيف، وإمّا ميّت، ومن الجميل أن تكون القدس معيار التّحديد في ذلك. القدس، ما لم ينتهِ دورها المعياريّ، لم تنتهِ قضيتها. وهيَ لن تنتهي في كلّ الأحوال.
ثمّة جِراحٌ يجب أن تلتهب. التهابها ضَمَدْ. تورّمها دليلُ عافية. جراحُنا شئنا أم أبينا ضمّدها حيّ الشّيخ جرّاح. المشهدُ بَعثْ. ويكفي البعث ليهزأ من صورة الأرواح اليائسة. كثرة اليأس ولّادة، تماماً كما كثرة الخيبات. اليأس عند حدّ معيّن يُضحي وجهاً آخر للسخرية، وكثير من السّخرية قِطنٌ أُعطي خصال السّيف. يحزُّ القلوب “المستقويّة” حدّ الضّعف.
المشهد قوّة غير زائفة لمن يريد التّصديق. والقوّة خير. السعي إليها أفضل فعل أخلاقيّ فاضحٍ لشرور الضّعف الواضح، أو لشرور الضّعف المتستّر خلف ثياب القوة المستعارة. المشهد ذروة الأخلاق. يأتي الصهاينة ليعتقلوا الشاب المقدسيّ فيضحك. يقتادونه بقوّة إلى العربة حنقاً، فيزيدهم حزّاً: أجلسوني عند المقعد الأمامي. أحب الجلوس في الأمام. ويضحك. تلتقط الكاميرات الكثير من الضحك. الصّور الأخيرة من الأقصى نفخٌ في الصُّور. وإذا نُفخ في الصور نفخة واحدة، وقعت الواقعة. إنها القيامة. قُمنا، ونريد أن نصدِّق أنها فاتحةٌ لآخر الطريق. تريد أرواحنا بصدقٍ أن تُصدّق الأقصوصة.
الانتفاضة على الأرض رأسٌ لجبل “الجليد”. قلوبنا، بعد صفقاتٍ صفيقة، كانت جبلاً من جليدٍ لم يُسلب صفة الإحراق. رأسه غير ظاهر. الدليل إليه أرواحٌ باردة. اليوم الجليد بركان. الدليل إليه قلوبٌ مشتعلة. رأس البركان انتفاضةٌ على الأرض. فيما الجبل هنا، في الأرواح. الانتفاضة في دواخلنا أعمق. وانتفاضة “الدواخل” يُعوّل الكثير عليها. تريد أرواحنا بصدقٍ أن تُصدّق ذلك.
الانتفاضة إشعال. نحنُ لا نخاف الموت. نخافُ الانطفاء. الانطفاءُ شلل. والشّلل بؤس متجدِّد. تجدُّده مستديم.
إنها القدس يا أصحاب الضّمائر. ثقبنا الأسود على أرضنا الخضراء. جاذبية الأرواح النّابضة، كاتمةُ الأضواء الزّائفة، والأسطورة التي يجب أن نزيدها أسطرةً حتّى تؤبّد، وتتأبّد معها مسألة العدالة. واليوم، باسم القدس قد أذّن التاريخ: حيّ على العدالة
يُعلن ترامب صفقة القرن. يظنّ أن العالم سينتفض. يخيب ونخيب. تتتالى الخيبات. يتعمّق الانحطاط. الرّوح في انطفاء. كان الدين يحرّك الروح لأجل الحياة، ويصوّبها ناح البوصلة. هكذا كانت الحكاية الجامعة. كان الدين معنى، كانت القدس جسر عبور. كان يا مكان في سالف الوقت والزمان.. حتّى تآكلنا. تشظّينا. ولم تخلص الحتّوتة.
الروح في انطفاء، يُحييها الشعر قليلاً. الشِّعرُ تعويضٌ نفسيٌّ جماعيّ، وعامل بقاء واستمرارية. الخطابة كذلك. الكنايات والاستعارات محاولاتٌ للتأبيد. الأناشيد والأغاني و”دقّ الماني” تعويدٌ على الرقص لأجل الحياة. لا بُدّ من كلّ ذلك. نحبُّ الحياة. لا نريد الانطفاء. رغباتنا كثيرة، لكن أين عربة السّير؟ موجودة. “كلّ حاجة فيها سليمة، بس لوحديها”. لَيعترض أحدهم على كلمة “سليمة”. حسناً. بعضها سليم. سليمة من باب الطّبطبة. لا بدّ من الطّبطبة وضحكات الكهربا. هي الأخرى ضرورة بقاء، فنحنُ نحبُّ الحياة، ولا نريد الانطفاء!
يُعلن ترامب صفقة القرن. يُفّرّغ مصطلح “المقاومة” من مضمونه في أحيانٍ كثيرة. يُفرّغه الفارغون وبعض المنافقين، وكلّ من يتخذ المقاومة غاية لا وسيلة. فرّغ يُفرّغ تفريغاً. حتّى استفرغ بعضهم المفهوم فأحاله “تطبيعاً مقاوماً”. لم يقولوها بالحرف الواحد، لكن قصدوها. تلك حيلتهم الشّرعية. الكلُّ في الحيل الشرعية أستاذ. يقاومون بالتطبيع. مفكّرون عظماء. مستفرغون عظماء. مسالمون وفقاً لقواعد “الكوم سي كوم سا”. حضاريّون. والمشهد كلّه يُقفّى على وزن سلام. بالسلام الكافرِ “نحيا”. ولا نريدُ الانطفاء!
يُقفّى المشهد المقابل على وزن لا تُصالح. ثمّ تختلط المشاهد المقفّاة، تُرمى حبال الرّفض كلّها بعنفوان، ثم تُشدّ بطريقة عكسية من كلّ جهة! والكلّ منهم يغني: لا تُصالح ولو منحوك الذهب. يغنّون وهُم “عِكس عْكاس” (بصوت ومهزلة عادل الإمام). يشدّون ويبقى غالباً المشهد واحداً، نغني: لا تصالح، ونشدّ والله أكبر فوق شدّ المُهتدي، ونبقى مكاننا ولا يصنع الفارق سوى قلّة تعاند على طريقتها نزعات الانطفاء!
يختلط المشهد بالخيبات والأصوات. يمنعنا الضجيجُ من الإنصات لصوت الحقّ. فيأتي الأخير هدّاراً على شكل دبكةٍ مقدسية، ليخرس لساننا الببغائيّ، ويخفت الضجيج، ولا ينطق إلا صوت الحقّ الصادر من الداخل، لا المسموع كرجعٍ للصّدى. لا ينطق الآن إلا صوت الإنسانيّة المحض. حتى أولئك الصامتون خوفاً وعاراً، في داخلهم شيء من حماسٍة يتمنون أن تنطق. شذرات من إنسانية يخافون ان تفضحهم لو نطقوا. وكم فضحت بعضهم. تحمّسوا ونطقَوا، فغُسّلوا حتى أخمص أقدامهم بصفة النفاق.
إنها القدس يا أصحاب الضّمائر. ثقبنا الأسود على أرضنا الخضراء. جاذبية الأرواح النّابضة، كاتمةُ الأضواء الزّائفة، والأسطورة التي يجب أن نزيدها أسطرةً حتّى تؤبّد، وتتأبّد معها مسألة العدالة. واليوم، باسم القدس قد أذّن التاريخ: حيّ على العدالة!