ميشال ن. أبو نجم20/05/2021
منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005، لجأ فريق سياسي متعدد الإنتماءات إلى اعتماد منطق "السيادة المقلوبة" رافعةً لخطابه السياسي، وتعبيراً عن الإنخراط في سياق مشروع دولي – إقليمي كان يسعى في ذلك الوقت إلى إسقاط النظام في سوريا ربطاً بالكثير من الرهانات والحسابات.
ارتكز منطق “السيادة المقلوبة” عند هذا الفريق اللبناني على بندين رئيسيين:
البند الأول، هو التمسك بمطلب إسقاط النظام السوري، واعتبار هذا الهدف مصلحة للبنان والمنطق “السيادي” التقليدي. انزلق هذا الخطاب إلى الربط بين سيادة لبنان كمشروع بحد ذاته لا يتخطى حدود المصلحة اللبنانية الصرف، وبين مشروع لا قدرة للبنانيين على التأثير فيه ولا بمجرياته ولا حتى على حمله وتحمل تداعياته، فضلاً عن أنه يورط أصحابه برهانات خطرة وبلعبة الأمم التي لم تستفد قوى لبنانية كثيرة من محاذير الغرق في رمالها المتحركة.
البند الثاني، هو الإنخراط في الرهانات السورية الداخلية، في تجديد للعبة الروليت التي قامت في التسعينيات الماضية على تحالف المنظومة التي حكمت بعد الطائف، مع الفريق السوري الذي كان يدير الملف اللبناني. وبترجمة أكثر وضوحاً، باتت “السيادة المقلوبة” مرتبطة بهوية الفريق السياسي والأمني السوري الذي تتحالف معه بعض القوى والشخصيات السياسية اللبنانية، وليس بما يطلبه أو يريده لبنان الدولة والكيان من سوريا.
انسحب هذا المسار على الحرب السورية وتداعياتها، بتوهم القدرة على التأثير في مجريات صراع كبير في دولة محورية وكبرى كسوريا. ومن شدة “بصيرة” الرؤى الإستراتيجية لفريق 14 آذار، كان الوهم يكبر ويتعاظم بسقوط سريع للنظام السوري متجاهلاً أبسط الحقائق الإجتماعية والسياسية والإستراتيجية المتحكمة بهذا الصراع. أعمى الوهم رؤية التحالفات الموضوعية التي بناها النظام السوري مع شرائح اجتماعية واسعة ونافذة، من طبقة التجار السُنة في دمشق وحلب إلى العشائر العربية في الشرق السوري، إلى جيش قوي ومتماسك، فضلاً عن القدرة على إدارة مخاوف الأقليات من الوحش التكفيري الذي أظهر قدرة كبيرة على الفتك والتمدد. كما أن أوهام الفريق اللبناني المذكور استبعد الحسابات الإستراتيجية لروسيا القاريّة الحبيسة خلف تمدد صواريخ حلف شمال الأطلسي إلى حدودها الغربية والصعود المتطرف في جنوبها، وبالتالي حتمية تدخلها لإنقاذ النظام وإنقاذ نفسها من التطويق الإستراتيجي الأميركي، من دون إغفال محورية الدور الإيراني في سوريا.
لا يمكن أن تكون نهاية هذه الرهانات إلا بالصورة المأساوية التي رأيناها بالقرب من نفق نهر الكلب، ولجوءاً إلى اللعبة المفضلة لدى الخاسر والفاشل، وهي لعبة الدم على الطريقة الميليشياوية
وتطبيقاً لخطاب الوهم و”السيادة المقلوبة”، تحول النزوح السوري الكثيف إلى مادة للتجارة بحسب مصالح الفريق الآذاري، وإلى محاولة استعماله ضد النظام السوري بما يعاكس المصلحة اللبنانية التي تقوم على عودة النازحين من دون الدخول في لعبة أكبر من أحجام القوى المتوهمة. هكذا شُرعت الأبواب أمام النازحين من دون أي خُطة أو أي إرادة لمقاربة هذا الملف بطريقة مختلفة، وهكذا تحولت أسطوانة “العنصرية” إلى نشازٍ يُعزف يومياً ضد أي قوة سياسية تطالب بتنظيم هذا النزوح ووقفه، من دون ربطه بالرهانات تجاه الصراع السوري. وبعد احتضان المنظمات التكفيرية ومدها بكل أنواع الغطاء السياسي والإعلامي، منذ اعتقال شادي المولوي في طرابلس إلى السكوت عن أحمد الأسير وصولاً إلى التهجم على الجيش في أحداث عرسال ووزير الدفاع آنذاك فايز غصن، باتت الورقة الوحيدة الصالحة للإستعمال في خطاب “السيادة المقلوبة”، هي رفض أي خطة عملية ومواجهة أي طرح يدعو إلى عودة النازحين إلى سوريا.
لقد قاسى لبنان كثيراً من ممارسات من تعاقبوا على حكم سوريا، في حريته وأمنه، كما عانت هي في المقابل ومن وجهة نظرها، من استعمال لبنان في مشاريع غربية وعربية تستهدف دمشق، على أن المصلحة اللبنانية، لا يمكن أن تُبنى على استدراج التدخل السوري وادعاء التأثير في مسارات سوريا السياسية، وتوهم الأحجام والقدرات.
وفي الوقت الذي تنقلب فيه المعادلات وتُفتح فيه طرق المصالحات بين القوى العربية الرئيسية وبين النظام في سوريا، وتسقط بالتالي رهانات قوى سياسية كثيرة في لبنان، كاشفةً بالتالي محدودية تأثيرها وقدرتها على استشراف المسارات، لا يمكن أن تكون نهاية هذه الرهانات إلا بالصورة المأساوية التي رأيناها بالقرب من نفق نهر الكلب، ولجوءاً إلى اللعبة المفضلة لدى الخاسر والفاشل، وهي لعبة الدم على الطريقة الميليشياوية.. والمؤسف أن لعبة الرهانات الخاطئة لم يدفع ثمنها فقط هؤلاء في الماضي غير البعيد.