عندما يُقرر نبيه بري أن يكون وسيطاً بين ميشال عون وبين الحريري، بموافقة سيد بعبدا، فهذا يعني عملياً أن موقع رئاسة الجمهورية الساهر على إحترام الدستور، قد حاد عن وظيفته، بإقرار من رئيس الجمهورية نفسه الذي لم يعد أيضاً رمزاً لوحدة الوطن، كما يقول الدستور.
وعندما يُفوّض السيد حسن نصرالله حليفه في “الثنائي” أن يلعب دور الوساطة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، فهذا يعني أيضاً أنه قرر أن يتخذ مسافة متساوية بين “الرئيس الحليف ـ الجبل” وبين الرئيس المكلف الذي “لا بد منه”.
وعندما يضع الحريري كتاب الإعتذار في جيبه أكثر من مرة (ثلاث مرات على الأقل حتى الآن)، فهذا يعني أن الرجل يمضي في التكليف من غير قناعة وبالتالي ينتظر اللحظة المناسبة لإذاعة بيان الإعتذار ومن بعدها الإستقالة من مجلس النواب، في أكثر الإحتمالات ترجيحاً.
وعندما يقول رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل أمام أقرب المقربين إليه في فريقه الإستشاري في عطلة نهاية الأسبوع إن مبادرة بري ستفشل وأن الحريري “إنتهى سياسياً وخليجياً وسنياً”، فهذا يعني أن أصل التكليف ما زال مرفوضاً من قبله، فهل يمكن أن يذهب الرجل بشكل جدي إلى مربع التأليف أم أنه ينتظر كتاب الإعتذار ومن يسبق من إلى الإستقالة من مجلس النواب؟
عندما يقرر حزب الله أنه لا يريد أن يضغط على حليفه البرتقالي وأنه متمسك بالحريري.. فالمكتوب يُقرأ من عنوانه: عملياً صار البلد أمام مصير محتم ألا وهو الإرتطام الكبير وربما المدمر لكل البنيان اللبناني..
إنها مجرد طبخة بحص. لماذا؟
عندما إنتهت جلسة مناقشة رسالة رئيس الجمهورية في مجلس النواب، قبل عشرة أيام، إقترب باسيل من بري عاتباً. قال بري لباسيل: مسؤوليتك 80% والحريري 20%، فرد باسيل أن الثمانين بالمئة للحريري والعشرين من نصيبي، قبل أن يتكفل معاونه السياسي النائب علي حسن خليل بإستكمال البحث مع سعد الحريري الذي طلب مهلة 48 ساعة للسفر ومن ثم يعود إلى بيروت ومع باسيل الذي قدّم تصوره لاحقاً على الشكل الآتي:
حكومة من 24 وزيراً لا أحد يملك فيها الثلث المعطل ولا تمثيل سياسياً فيها (برغم التحفظ على تسمية الحريري من نادي السياسيين). ثمانية من حصة رئيس الجمهورية بينهم ستة مسيحيين وأرمني (الطاشناق) ودرزي (طلال ارسلان)؛ ثمانية وزراء لكل من حزب الله وحركة أمل (خمسة شيعة) وثلاثة مسيحيين (إثنان للمردة والثالث للحزب القومي)؛ خمسة وزراء سنة يسميهم الحريري ومعه وزير درزي يسميه وليد جنبلاط.
وفق هذه الصيغة، شدد باسيل على قضيتين لا بد من حسمهما:
الأولى، التفاهم النهائي على الحقائب، وسبق ذلك تمرير صيغتين لتوزيع الحقائب سلمهما باسيل إلى البطريرك الماروني بشارة الراعي، تتقاطعان عند تمسك رئيس الجمهورية (باسيل ضمناً) بوزارة الداخلية (صيغة تتضمن الداخلية والطاقة وثانية تتضمن الداخلية والعدل بدل الطاقة). يعني ذلك إعادة النظر في موضوع الحقائب السيادية لمصلحة جعل الدفاع من نصيب رئيس الحكومة المكلف، طالما أن حقيبة الخارجية معقودة النصاب للطائفة الدرزية وفق الإتفاق الأصلي غداة تكليف الحريري مباشرة.
الثانية، وضع آلية لتسمية الوزيرين المسيحيين إنطلاقاً من معادلة مفادها أنه لا يحق لرئيس الحكومة المكلف تسمية وزراء مسيحيين. في هذا السياق، جاء الطرح البرتقالي القائل بأن يبادر كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف إلى تسمية ثلاثة أو أربعة أسماء لكل من الحقيبتين المسيحيتين المتبقيتين، على أن يختار رئيس مجلس النواب إسماً بالقرعة من أصل السلة التي يتم إختيار إسمين منها.
وقع الحريري في إشكالية إلتزامه بالعودة خلال 48 ساعة ولم يعد، برغم أن باسيل كان ينتظر جواب الحريري، بناء على وعد بري. زاد الطين بلة أن الحريري كان قد وعد قبل ذلك البطريرك الماروني بشارة الراعي بتقديم تشكيلة خلال فترة زمنية محددة إنقضت ولم ينفذ إلتزامه. زدْ على ذلك أن الحريري بدا منتشياً بنتيجة الجلسة النيابية، بينما كان الحري به أن يستثمر النتيجة سياسياً، أقله بإرجاء قرار سفره، من أجل الإيحاء بجدية كل كلمة قالها في مداخلته النيابية.
أكثر من ذلك، حتى عندما ذهب الحريري إلى جلسة الأونيسكو، كان كتاب الإعتذار في جيبه، برغم إلتزامه أمام الفرنسيين (باتريك دوريل) والمصريين (وزير الخارجية سامح شكري) بعدم الإعتذار، إلا بالتشاور معهما، إلا أنه بات يحسب الأمور بطريقة مختلفة ربطاً بالإستحقاقات المقبلة وأولها الإنتخابات النيابية مع كل ما سيسبقها من مخاض مؤلم هو أشبه ما يكون بالمحرقة، ناهيك عن حكم إعدام سعودي (سياسي) غير قابل للأخذ والرد.
عندما إنتهى اللقاء بين بري والحريري، كان لا بد من إستكمال المبادرة بلقاء مطول في أحد مكاتب القصر الجمهوري جمع جبران باسيل بكل من الخليليلن (حسين خليل وعلي حسن خليل) ووفيق صفا، إلا أن اللقاء فشل في إحداث خرق في جدار الإستعصاء الحكومي. من جهة، وافق باسيل على حل مرضٍ للجميع في موضوع توزيع الحقائب، لكنه تمسك بالرفض لأي تسمية حريرية للوزيرين المسيحيين، وفي المقابل، بدا الحريري متشدداً في موضوع عدم التنازل عن التسمية، آخذاً على باسيل أنه قبل بأن يسمي حسان دياب وزراء مسيحيين ويرفض أن يعطيه هذا الحق، ثم أن الحكومة إذا كانت محكومة بمعادلة الثلاث ثمانات (8 8 8)، فلماذا يُراد له أن يقبل فقط بتسمية خمسة وزراء؟ أبلغ الحريري رؤساء الحكومات السابقين أنه لن يقبل بأن يكون مجرد صندوق بريد لتلقي الأسماء ويرفض بسياسة القضم التي يعتمدها ميشال عون وجبران باسيل وأن تنازله عن عدد الوزراء يفتح شهية باسيل السياسية للحصول على تنازلات أكبر، لذلك، قرر أيضاً إشتراط أن يكون القبول بثمانية وزراء لرئيس الجمهورية مرهوناً بحصول حكومته على ثقة التيار الوطني الحر وإلا فلتكن حصة رئيس الجمهورية تسمية ثلاثة وزراء.
عادت عملياً الأمور إلى ما دون النقطة الصفر.
هل سقطت مبادرة بري؟ وهل أصبح الحريري قاب قوسين وأدنى من الإعتذار؟
حمى الله لبنان.. للبحث صلة.