يقول رونين بيرغمان انه تحت قيادة رافائيل ايتان بدأت قواعد الإشتباك القديمة تتغير، فخلال المراحل الأولى لعملية القتل المتعمد، إكتشف العميل “رومينيغه” (شارك في إرسال المعلومات عن روتين الحياة اليومية للقائد الفلسطيني أبو حسن سلامة) أن عزمي الصغير، أحد القياديين المقربين من خليل الوزير (ابو جهاد)، يقود عمله من داخل مخيم للاجئين الفلسطينيين في مدينة صور الساحلية جنوبي لبنان وكان يلتقي بصورة منظمة مع احد مساعديه في مقهى قرب شاطىء البحر هناك.
في الخامس من أغسطس/ آب 1980، كان يفترض أن تتجه قوة كوماندوس على متن قوارب مطاطية نحو نقطة معينة على بعد حوالي كيلومتر واحد من شاطىء مدينة صور، يقوم بعدها فريق من هذه القوة بالسباحة تحت الماء الى الحائط المجاور للشاطىء ومن هناك يتولى قناصة من هذا الفريق اقتناص عزمي الصغير ومساعده في المقهى المجاور للشاطىء.
في الإجتماع الأخير مع القوة المغيرة، أمر إيتان رجاله بأن يزرعوا عبوة ناسفة قرب الحائط (قرب المقهى) قبل مغادرتهم وذلك لمنع أي محاولة لمطاردتهم، لكن آمي أيالون قائد قوة “فلوتيلا 13” إعترض على هذا الأمر وقال لإيتان “حضرة رئيس الأركان لن نترك عبوة ناسفة هناك لأنه من المحتمل أن يعبث بها أطفال يلعبون عند الشاطىء أو ربما تنفجر بثنائي رومانسي هناك”، غير أن إيتان أصر على الأمر من دون أن يعطي اية مبررات بل زاد على الأمر بالقول “عندما تقتلون عزمي الصغير ومساعده، رشوا برشاشاتكم الاوتوماتيكية كل من يتواجد في المنطقة للتأكد من أن أحداً لن يرد على النيران”. فرد عليه أيالون “أين المنطق في كل ذلك؟ من نرش برشاشاتنا؟ كل المدنيين؟ إن كان الأمر كذلك لماذا ترسلوننا من الأساس لقتل شخص ما؟ يمكنكم أن ترسلوا الطائرات الحربية وتسقطوا قنبلة تحمل طناً من المتفجرات وينتهي الأمر”.
ايتان:”ليس مهماً اي فلسطيني نقتل في لبنان. كلهم اما ارهابيون او سيصبحوا ارهابيين او سيولدوا ارهابيين”
لم يُنفذ أمر إيتان، ليس لإنسانية أيالون بل لأنه في اليوم الذي كان يفترض أن تنفذ العملية، ردّ الجيش “الإسرائيلي” على اطلاق صواريخ كاتيوشا من داخل الاراضي اللبنانية بقصف مخيم للاجئين الفلسطينيين في صور، وبسبب حالة الهلع التي سادت الناس هناك لم يذهب احد (بمن فيهم عزمي الصغير) الى المقهى الساحلي.
يضيف الكاتب ان النقاش بين ايتان وايالون مرده اشكالية خلقتها النشاطات الاستخبارية والحربية “الاسرائيلية” في لبنان. فعندما كان جهاز “الموساد” يستهدف نشطاء منظمة التحرير الفلسطينية في اوروبا كان عملاؤه يتبعون سياسة تجنب ايذاء المدنيين، وقد ادى ذلك الى الغاء العديد من العمليات لانه كان هناك احتمال سقوط مدنيين، ولكن طالما ان العمليات تجري في بلدان معادية وطالما ان المدنيين الابرياء هم من العرب فان الاصبع كانت سريعة بالضغط على الزناد بلا رادع، وزيادة على ذلك فان العمليات في اوروبا كانت تتطلب موافقة رئيس الوزراء، وهو مدني يقوم بحسابات سياسية، ولكن في الدول العربية كانت فقط بعض العمليات تحتاج الى موافقة من المستوى السياسي وفقط بعد ان تشبع نقاشاً داخل صفوف الجيش، وحتى حينها ايضا كانت الجهة المخولة اعطاء الموافقة هي وزير الدفاع وليس رئيس الوزراء، فالدخول الى الاراضي اللبنانية كان يعتبر من الاعمال الحربية المسموح بها خلال الحرب، وهكذا بات موضوع “الاضرار الجانبية” (قتل المدنيين) امراً غير ذي اهمية. وتحوّلت حالة الفوضى التي كانت سائدة في لبنان الغارق في حرب اهلية لتصبح عدوى تصيب ايضا “الاسرائيليين” الذين كانوا يذهبون الى لبنان للقتل “دفاعا عن مواطنيهم”، بحسب رافائيل ايتان الذي كان يشجع على ذلك.
ويقول ديفيد شايك، نائب قائد وحدة “فلوتيلا 13” إن ايتان كان يردد “ليس مهماً اي فلسطيني نقتل في لبنان. كلهم اما ارهابيون او سيصبحوا ارهابيين او سيولدوا ارهابيين”. ويضيف انه في احدى العمليات رافقهم ايتان في زورق سريع. سأله احد الضباط كيف يمكننا ان نميز الارهابيين فكان جواب ايتان “ان لم يكونوا حاملين بالونات عيد الميلاد فهم ارهابيون”.
ويستذكر ضابط آخر في قوة الكوماندوس البحرية أنه بعد احدى الغارات التي نفذتها القوة، قال الناطق باسم الجيش “الاسرائيلي” ان العملية ادت الى مقتل ثلاثين ارهابياً ولكن في الحقيقة فان القوة المغيرة قصفت بالخطأ شاحنة تقل نساء واطفالاً!
موشيه دايان: كان الكتائبيون متوحشين بصورة استثنائية وعصابة من القتلة الفاسدين يذكرونني بشلعة من الكلاب الشرسة، فقد كانوا يزينون احزمتهم بآذان اناس قتلوهم، كاوسمة بشعة للحرب وكانوا يفاخرون بالمجازر التي ارتكبوها ضد مخيم تل الزعتر
يتابع بيرغمان انه بالاضافة الى العمليات الدموية التي كانت تنفذها وحدات الكوماندوس البحري، فان وزير الدفاع عزرا وايزمان اعطى ايتان سلطة رفع وتيرة النشاطات الاستخبارية في لبنان بصورة ملحوظة وبالاخص نشاطات الوحدة 504 في جهاز “امان”. وفي اواخر السبعينيات الماضية كان لبنان يعيش حالة وحشية مخيفة كل شيء كان مباحاً فيها، ففي عدة مناسبات كان عملاء الوحدة 504 يقتلون من دون اذن مسبق او حتى من دون معرفة رؤسائهم، وعلى سبيل المثال في ديسمبر/ كانون الاول عام 1978 فان عميلا كان يعرف باسم محمد عبدالله اشتبه برجل رآه وهو يبث رسالة الى اسرائيل “وفي الليلة نفسها توفي هذا الرجل لاسباب طبيعية بعد ان ابتلع مخدته”، بحسب رواية يائير رافيد الذي كان امرا للوحدة 504 في المنطقة الشمالية.
وفي حالة اخرى في يوليو/ تموز عام 1979 هدّد عميل سوري كان يعرف باسم قاسم هرش بان يفشي اسماء العملاء “الاسرائيليين”. يقول رافيد “دعونا الى جلسة محاكمة خاصة، كنت فيها انا القاضي والمدعي العام ومحامي الدفاع، واصدرت الحكم بالاجماع بقتل المتهم من دون الحق بالاستئناف ونفذ الحكم احد عملاء الوحدة وكان يعرف باسم “البرازيلي” وذلك باطلاق النار على هرش. وقد احضر عملاء الوحدة جثة هرش الى اسرائيل حيث جرى دفنها في مقبرة مخصصة لقتلى العدو”.
ينتقل بيرغمان في روايته لتلك الفترة للحديث عن علاقة الاستخبارات “الاسرائيلية” بحزب الكتائب اللبنانية فيقول ان الاستخبارات انشأت حضوراً دائماً لها في لبنان وذلك لتحقيق هدفين الاول هو جمع ما امكن من معلومات عن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات والثاني هو زعزعة الاستقرار في مناطق وجود منظمة التحرير الفلسطينية. وبدعم غير محدود من رئيس الوزراء مناحيم بيغن، اقامت الاستخبارات علاقات تحالف سري مع حزب الكتائب اللبنانية و”هو ميليشيا مسيحية مارونية لبنانية تشكل عدوا لدودا للفلسطينيين، وكان لدى المسيحيين مصادرهم الخاصة وشاركوا كل ما كانوا يجمعونه من معلومات مع الاستخبارات “الاسرائيلية”، وبذريعة حماية حزب الكتائب كان بامكان “الموساد” اقامة قاعدة له على مقربة من بيروت وفرت لضباط الجيش “الاسرائيلي” الفرصة لعمليات استطلاع على طول لبنان وعرضه لجمع المعلومات الاستخبارية عن منظمة التحرير الفلسطينية والقوات السورية”.
وينقل بيرغمان عن اوزي دايان شقيق موشيه دايان الذي كان حينها قائدا لوحدة “سييريت ميتكال” قول الأخير له “كان الكتائبيون متوحشين بصورة استثنائية وعصابة من القتلة الفاسدين يذكرونني بشلعة من الكلاب الشرسة، فقد كانوا يزينون احزمتهم بآذان اناس قتلوهم، كاوسمة بشعة للحرب وكانوا يفاخرون بالمجازر التي ارتكبوها ضد مخيم تل الزعتر في اغسطس/ آب عام 1976″، وينقل عن احد مسؤولي حزب الكتائب قوله “ان رمي الف فلسطيني في البحر يعتبر تلويثاً للبحر ولكن رمي خمسة ملايين فلسطيني في البحر يعتبر حلاً”!
روبير حاتم: “لا احد دخل الى هذا المقر (الكرنتينا) للاستجواب وخرج حياً. كنا نطلق الرصاص على رؤوسهم وندفن جثثهم في حفر مليئة بالكلس. هؤلاء كانوا سوريين وفلسطينيين وشيعة واولاد العاهرة ضباط في الجيش اللبناني وكل من كان يحاول قتلنا كنا نقتله اولاً”
ويتابع بيرغمان قائلا ان وحشية الكتائبيين لم تقتصر على الفلسطينيين، فزعيم السفاحين لديهم والذين تلقى تدريبه في “اسرائيل” وهو روبير حاتم قال انه هو شخصيا قتل او شهد على مقتل حوالي ثلاثة الاف شخص، وكان الكتائبيون يتخذون من مسلخ للابقار في منطقة الكرنتينا في بيروت مقراً لهم حيث يحتفظون بالسجناء، وينقل عن حاتم قوله “لا احد دخل الى هذا المقر للاستجواب وخرج حياً. كنا نطلق الرصاص على رؤوسهم وندفن جثثهم في حفر مليئة بالكلس. هؤلاء كانوا سوريين وفلسطينيين وشيعة واولاد العاهرة ضباط في الجيش اللبناني وكل من كان يحاول قتلنا كنا نقتله اولاً”.
وينقل الكاتب رونين بيرغمان عن الكتائبي روبير حاتم قوله ان ضباط “الموساد” اقروا بقتل سجناء بمن فيهم أربعة دبلوماسيين إيرانيين (خطفوا عام 1982 عند احد الحواجز شمالي بيروت) تم تعذيبهم بضراوة قبل قتلهم ودفنهم في الحفر الكلسية. وينقل بيرغمان عن ضابط “الموساد” روفين ميرهاف الذي كان مسؤول التنسيق مع حزب الكتائب قوله “في بداية العلاقة معهم كنت اتناول حبوب منع الغثيان كي استطيع الاستمرار بعملي لان عدو عدوي هو صديقي، وقد ساعدونا كثيرا في مواجهاتنا مع منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن مع مرور الايام توصلت الى استنتاج ان الربط مع اناس مثل هؤلاء لا بد ان يقود الى كارثة”. ويقول بيرغمان ان ميرهاف ترك “الموساد” احتجاجاً على استمرار العلاقة مع حزب الكتائب اللبنانية ولكن التحالف الاستراتيجي معهم استمر وتعمق.
وينقل الكاتب عن موردخاي تسيبوري، الذي خدم تحت امرة رئيس الوزراء مناحيم بيغن في منظمة “إرغون” الصهيونية المتطرفة قبل العام 1948 والذي اصبح ضابطاً رفيعاً في الجيش ونائب وزير الدفاع في حكومة بيغن “كان بيغن يرى نفسه منقذا للمضطهدين ولم يكن على معرفة عميقة بتاريخ العلاقات في الشرق الاوسط وكان مقتنعا ان الكتائبيين هم اقلية اقرب الى المسيحية الاوروبية وان منظمة التحرير كانت تريد تصفيتهم تماما”. ويقول الكاتب ان تسيبوري كان الوحيد في ادارة بيغن الذي وقف في وجه الجيش و”الموساد” وحاول عبثا اقناعهم واقناع بيغن “يجب ان لا نتحول الى رعاة للكتائبيين وان لا نتورط في صراعاتهم، فالحبور الذي كانت تؤمنه الولائم الفاخرة لضباط الجيش “الإسرائيلي” في جونية، افسدت بصورة كبيرة الحكم الصائب الذي كان يمكن للجيش ان يتخذه في هذا الموضوع”.
ويختم الكاتب هذا الفصل قائلا انه “على الرغم من كل الجثث التي ابتلعتها حفر الكلس التي انشأها الكتائبي روبير حاتم، فان مختلف ميليشيات منظمة التحرير تمكنت من تقوية مواقعها في جنوب لبنان، وكانوا يطلقون القذائف والصواريخ على المستوطنات الشمالية، وكان الجيش “الإسرائيلي” يرد بقصف المناطق الواقعة تحت سيطرة الفلسطينيين بالمدفعية او بالغارات الجوية وطوال العام 1979 غرق الطرفان بما بدا وكأنه مسير لا نهاية له من الضربة مقابل الضربة”.