“بعد 9 سنوات من القتال الضاري، نجح نظام بشار الأسد، بمساعدة روسية وإيرانية، في السيطرة على معظم الأراضي السورية. بقيت محافظة إدلب الجيب المهم الأخير للمتمردين الذي يجعل من الصعب على الأسد، رسمياً على الأقل، إعلان انتهاء الحرب الأهلية، وإعلان نفسه، مهما يكن هشاً ومنهاراً، الحاكم السيد للدولة السورية.
بعد أشهر من المماطلة، استأنفت قوات الجيش السوري في كانون الأول/ ديسمبر المنصرم، القتال في المنطقة، ونجحت لأول مرة في السيطرة على محور M-5 الذي يربط دمشق بحلب، وكذلك على مناطق بين الساحل السوري ومحافظات في شرق سوريا، الحيوية من أجل سيطرة الحكم المركزي واقتصاده. في الأسابيع الأخيرة، كثف الجيش عملياته للسيطرة على بلدات مركزية في إدلب.
على ما يبدو، كانت مسألة وقت حتى يصطدم تطلُّع النظام السوري إلى احتلال إدلب من جديد بمصالح تركيا التي أرسلت قواتها، وفقاً لاتفاق سوتشي 2018، إلى نقاط مراقبة، وكحاجز فصل بين قوات الأسد وقوات المتمردين. ولأول مرة منذ نشوب الحرب، في 3 شباط/فبراير، في أعقاب ضرب الجيش السوري نقاط مراقبة تركية بالقرب من إدلب وتسببه بمقتل 7 جنود أتراك، وقعت مواجهات عسكرية بين الطرفين. ردت القوات التركية والمتمردون المدعومون منها بمهاجمة أهداف تابعة لجيش الأسد وتسببوا بمقتل عشرات الجنود السوريين، وحتى بإسقاط طوافتين تابعتين للجيش السوري.
على الرغم من إصرار الأسد على استعادة سيطرته على المنطقة وترسيخ مكانته، واعتباره وجود القوات التركية على الأراضي السورية خرقاً كبيراً للسيادة السورية، ثمة شك في أن يستطيع السماح لنفسه بفتح جبهة جديدة في مواجهة تركيا، ولا في مواجهة المزيد من الميليشيات المحلية للمتمردين.
تركيا تتضرر
بالإضافة إلى صراع تركيا المستمر ضد الأكراد في شمال شرق سوريا، تنشط تركيا في منطقة إدلب وتمنح دعمها للمتمردين من “الجيش الوطني السوري” الذين ينتمون، بين آخرين إلى فرع القاعدة سابقاً – “هيئة تحرير الشام”. تسيطر القوات التركية على 12 موقعاً مراقبة منتشرة في إدلب، كجزء من اتفاق سوتشي الذي، بحسب أنقرة، أوكل إليها نزع سلاح الميليشيات، وإلى أن يحدث ذلك، يتعين على روسيا وسوريا الامتناع من التحرك عسكرياً ضدها.
دخول الجيش السوري بدعم روسي إلى منطقة إدلب، جعل تركيا في وضع غير مريح، إذ يوجد عدد من نقاط مراقبتها حالياً في منطقة أصبحت تحت سيطرة النظام السوري. احتلال المحافظة أدى إلى تدفق موجة جديدة من مئات آلاف اللاجئين إلى أبواب تركيا. خطة تركيا الرامية إلى إقامة منطقة آمنة وسعيها لأن تنقل إليها جزءاً من اللاجئين المقيمين بأراضيها، يمكن أن تتضرر، وأيضاً تفوقها العسكري والسياسي، الناجم عن علاقتها بالمتمردين (مؤخراً، نُشرت تقارير عن إرسال تركيا قوات من المتمردين السوريين للمساهمة في القتال في ليبيا). المواجهات المتصاعدة بين الطرفين، وبينها مقتل 17 جندياً تركياً يمكن أن تتدهور إلى قتال مباشر بين الجيش التركي والجيش السوري، وإلى تفاقم التوتر بين تركيا وروسيا.
تركيا غير معنية بتصعيد عسكري، يمكن أن يقوّض مكانتها في سوريا، ويعرّض بالتاكيد علاقتها بروسيا للخطر. لذا، تسعى أنقرة لحل الأزمة بوسائل دبلوماسية، ويمكن تفسير اللهجة الهجومية التركية بأنها إشارة إلى روسيا كي تسعى لوقف إطلاق النار
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رد على التطورات بخطاب هجومي، حتى أنه وجّه إنذاراً نهائياً إلى الجيش السوري – إمّا الانسحاب من إدلب حتى نهاية شباط/فبراير، أو المخاطرة بالتعرض لعملية عسكرية تركية في المنطقة، وزيادة قواتها. مع ذلك، من الواضح أن تركيا غير معنية بتصعيد عسكري، يمكن أن يقوّض مكانتها في سوريا، ويعرّض بالتاكيد علاقتها بروسيا للخطر. لذا، تسعى أنقرة لحل الأزمة بوسائل دبلوماسية، ويمكن تفسير اللهجة الهجومية التركية بأنها إشارة إلى روسيا كي تسعى لوقف إطلاق النار.
إيران..
بخلاف باقي جبهات القتال في سوريا، التي قامت إيران بدور فاعل ومركزي فيها، حتى مؤخراً لم تتدخل مباشرة بالقتال في إدلب؛ يجري ذكر طهران في الأساس بسبب تأييدها لنظام الأسد، ليس أكثر من ذلك. لكن بدءاً من كانون الثاني/يناير، نُشرت تقارير عن زيادة إيران قواتها في المنطقة، ومن ضمنها وحدات تابعة لحزب الله وميليشيات شيعية أُخرى (أفغانية مثلاً).
هناك عدة أسباب لهذه التطورات:
أولاً، على خلفية اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني، قبل شهر تقريباً، إيران معنية بتمرير رسالة بأن “الأعمال تسير كالمعتاد” وهي مستمرة في تأييدها لبشار الأسد، وكذلك لتكذيب التقديرات عن نيتها تقليص قواتها وتدخّلها في سوريا. ومن المحتمل أنه جرى دعوة إيران إلى التدخل بطلب سوري مباشر، في ضوء صعوبة إنهاء القتال.
ثانياً، من المحتمل أن إيران معنية لأن تنقل، جزئياً وبالتدريج، انتشار قواتها إلى مناطق في شمال سوريا، مثل إدلب، لتقليص احتمال إصابتها نتيجة الهجمات الإسرائيلية.
ثالثاً، من المحتمل أن التدخل الإيراني في إدلب يستند إلى افتراض أنه في نهاية العملية في المنطقة، سيتوجه النظام السوري إلى تطهير المنطقة في شرق سوريا، وبذلك سيسرع في انسحاب القوات الأميركية من هناك – كما يظهر من كلام علي أكبر ولايتي، مستشار علي خامنئي، المرشد الأعلى في إيران، في 30 كانون الثاني/يناير.
روسيا.. تناور بحذر
كما حدث في ساحات أُخرى للقتال في سوريا، أيضاً مع تجدد القتال في إدلب، روسيا، الحليفة الأساسية لنظام الأسد، تمنح قوات الجيش السوري مساعدة عسكرية ولوجستية واسعة، وفي الوقت عينه، تقود اتصالات دبلوماسية لحل الأزمة. موسكو، التي تعلم أن أنقرة لا تقدر أو لا تريد التوصل إلى نزع سلاح الميليشيات في إدلب أو هجرة عناصرها إلى دول أُخرى، بدأت بممارسة ضغط عسكري مقصود. المصلحة الروسية هي إنهاء الحرب في سوريا، وتقليص النفقات ونقل السيطرة الكاملة في الدولة إلى الأسد. علاوة على ذلك، لروسيا مصلحة في استعادة النظام السوري السيطرة على إدلب بسبب قربها من مدينة اللاذقية، حيث توجد القاعدة الجوية الروسية في حميميم التي تعرضت أكثر من مرة لنيران قوات المتمردين في المنطقة.
إدلب هي اختبار مهم لمستقبل العلاقات بين الدولتين التركية والروسية. هذه الساحة مهمة أيضاً في سياق المعركة التي تخوضها روسيا في مواجهة الولايات المتحدة، لذلك موسكو مضطرة إلى المناورة بحذر بين حلفائها
حتى الآن، المحادثات الدبلوماسية المتواصلة بين موسكو وأنقرة، كما اتفاقات الماضي، فشلت في الدفع قدماً بحل، وبالإضافة إلى ذلك، سُمع تبادل غير عادي للاتهامات بين الطرفين. على الرغم من ذلك، في نظر روسيا، لا تزال تركيا حليفة مهمة لمواصلة عملية أستانة التي تهدف إلى التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا، وإدلب هي اختبار مهم لمستقبل العلاقات بين الدولتين التركية والروسية. هذه الساحة مهمة أيضاً في سياق المعركة التي تخوضها روسيا في مواجهة الولايات المتحدة، لذلك موسكو مضطرة إلى المناورة بحذر بين حلفائها.
مليون نازح سوري
تحت سحاب غبار القتال في إدلب، يوجد الضحايا الحقيقيون لصراع المصالح الإقليمية والدولية. إنهم سكان إدلب الذين كان عددهم في بداية المعركة الحالية نحو 3 ملايين نسمة. تقدّر الموجة الأخيرة للنازحين منذ كانون الأول/ديسمبر 2019، بحسب أرقام الأمم المتحدة بنحو 900 ألف شخص، بينهم نصف مليون طفل. هذا هو النزوح الثاني او الثالث لجزء منهم، لأنهم فروا أو طُردوا من مناطق أُخرى في سوريا إلى معقل المتمردين الأخير. نازحو إدلب مضطرون إلى الانتقال إلى خيم بالقرب من حدود تركيا، ويواجهون نقصاً في المواد الغذائية، ومياه الشرب والخدمات الصحية، وأيضاً يعانون جرّاء أحوال الطقس القاسية في المنطقة، بينها عواصف ثلجية. إلى جانب الأشرطة التي تصور سعادة السكان التي يحرص النظام على نشرها بعد تحرير المناطق، سُمعت مؤخراً تقارير تتحدث عن إحراق سكان منازلهم قبل مغادرتها كي يضمنوا لأنفسهم عدم عودتهم إلى السكن في المستقبل، عاجلاً أو آجلاً، في منطقة ستكون تحت سيطرة نظام الأسد.
دلالات “لعبة الشطرنج”
“لعبة الشطرنج” في إدلب تؤكد تعقيد الحرب في سوريا، في ضوء كثرة اللاعبين المتورطين فيها، وتكشف في الأساس المصالح التي تتغير بحسب الظروف، وانتهازية إيران وتركيا وروسيا. حتى مؤخراً سوريا وروسيا عاشا بسلام مع الغياب الإيراني من المعركة، على خلفية الاهتمام بتقليص التدخل الإيراني واعتماد نظام الأسد عليه. لكن الآن، ومع مراوحة المعركة العسكرية وازدياد الحاجة إلى كبح تركيا – فُتح الباب أمام تدخل إيران.
لاعب مركزي غاب حتى الآن عن المنطقة هو الولايات المتحدة، التي لا مصلحة لها بالتدخل مباشرة في ما يحدث في غرب سوريا، وبصورة غير مباشرة مساعدة تنظيمات جهادية سلفية. لكن واشنطن تدرك ما ينطوي عليه التوتر الناشىء بين تركيا وروسيا، وانعكاساته السلبية المحتملة على دينامية القتال في منطقة إدلب، وعلى الولايات المتحدة، وفي الأساس، على قواتها التي لا تزال منتشرة وتعمل إلى جانب الأكراد في شرق سوريا.
أعاد القتال في إدلب تركيا إلى موقفها في بداية الحرب الأهلية في سوريا، الذي يعتبر نظام الأسد غير شرعي ويجب الإطاحة به من منصب الرئاسة. وهذا إدراك مشترك بين تركيا والولايات المتحدة.
خلاصة إسرائيلية
من المحتمل أنه على إسرائيل أيضاً إعادة فحص سياستها التي تقبل نظام الأسد المسؤول عن قتل نحو نصف مليون شخص، والذي يسمح بالتمركز الإيراني في الدولة السورية. في الوقت عينه، كلما تورطت تركيا أكثر في التدخل العسكري في سوريا، كلما اضطرت إلى زيادة عمليات قواتها ووجودها في المجالين الجوي والبحري في شرقي البحر المتوسط. بناء على ذلك، يجب على إسرائيل أن تفحص إمكانات إنشاء آلية تنسيق لمنع وقوع احتكاك بين القوات (Deconfliction) بالتشارك مع الولايات المتحدة”. (نقلا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية: http://bit.ly/2uyMBZ1 )