عقيدة السياسة الخارجية لبايدن عالقة في القرن العشرين

بعكس الأجندة الداخلية الطموحة لجو بايدن، يقترح حلولاً تقليدية عفا عليها الزمن لأزمات العالم. الباحث والكاتب والأكاديمي الأميركي عزيز رنا يناقش العقيدة الخارجية لبايدن في مقالة نشرتها دورية "فورين بوليسي".

في الوقت الذي كانت تعمل فيه إسرائيل على إبعاد المزيد من العائلات الفلسطينية عن منازلها في القدس الشرقية وتفسح المجال أمام المستوطنين لإحتلال تلك المنازل، وتشنُ غارات جوية على قطاع غزة وتهدم المنازل وتقتل مئات الفلسطينيين، بينهم عشرات الأطفال، شهد الديموقراطيون في واشنطن ما أسماه أحد خبراء استطلاعات الرأي تحولاً “تكتونياً”. وكان الممثلون المنتخبون حديثاً، مثل النائبتين الديموقراطيتين كوري بوش وماري نيومان يصوّبون الانتباه للتواطؤ الأميركي مع تلك الممارسات الإسرائيلية. حتى أن أعضاء مجلس الشيوخ الأكثر تأييداً لإسرائيل تقليدياً، مثل بوب مينينديز وكريس كونز، وجهوا انتقادات غير عادية. فقد عبر مينينديز عن أنه “منزعج للغاية من التقارير الواردة عن الأعمال العسكرية الإسرائيلية”. فعلى مدى جيل كامل، وقف الديموقراطيون، بالإجماع تقريباً، وبدون أي شرط، خلف إسرائيل. الآن، وفجأة، حتى بعض الداعمين والأكثر تأييداً لإسرائيل كانوا مترددين.

من جانبه، أشار الرئيس جو بايدن في هذا السياق إلى أن “الفلسطينيين والإسرائيليين – على حد سواء – يستحقون العيش بأمن وأمان”. ولكن في كل منعطف، ظل بايدن وفياً لدعمه الطويل الأمد وغير المشكوك فيه لإسرائيل: فقد دافع عن العمليات العسكرية الإسرائيلية، قائلاً إن الغارات الجوية لم تكن “ردَّ فعل مبالغ فيه”؛ ورفض الدعوة علناً إلى وقف فوري لإطلاق النار؛ وتعهد بتجديد نظام الدفاع الجوى الإسرائيلي.

إعادة تدوير الأحكام السابقة

ورداً على ذلك، نشر أكثر من 500 من أعضاء حملة بايدن الإنتخابية رسالة تدعوه إلى بذل المزيد من الجهد لحماية الفلسطينيين ومحاسبة إسرائيل. وهذه علامة على اتجاه أوسع نطاقاً: حتى عندما تعامل بايدن مع القضايا المحلية من منطلق يساري، فإن النهج الذي يتبعه في السياسة الخارجية محاصر إلى حد كبير داخل إجماع عفا عليه الزمن. فرغم الأزمات العالمية والصراعات التي لا نهاية لها التي اجتاحت السياسة الأميركية على مدى العقدين الماضيين، يعمل بايدن على إعادة تدوير الأحكام السابقة الخاصة بالتحالفات والضرورات والاعتبارات الأمنية وسياسة السيطرة والهيمنة الشاملة، ليس فقط بما يخص إسرائيل ولكن أيضاً الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا، والقائمة تطول.

عندما يعلن بايدن أن “أميركا عادت” و”مستعدة لقيادة العالم”، فإنه يشير إلى تحول في اللهجة، وليس في الجوهر. فالرؤية الأميركية المانوية Manichean المعهودة منذ زمن طويل للعالم – مع حلفائها “الثابتين” والدول “المارقة” – لا تزال راسخة. والمشكلة أن هذه الرؤية هي التي تفاقم الأزمات ذاتها التي يتصور بايدن أن بإمكانه حلها الآن بمجرد العودة إلى البئر (المصدر).

كان دونالد ترامب يعتزم وضع اللمسات الأخيرة على الإنسحاب الكامل من أفغانستان بحلول العام 2021. ورث بايدن هذا الجدول الزمني، إلى جانب إجماع على أنه يجب على الولايات المتحدة الإبتعاد عن أفغانستان والتركيز على منافستها مع الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية

نقطتا تحول لبايدن.. خارجياً

وبسبب الارتياح الشديد لخروج دونالد ترامب، يميل المعلقون لوصف السياسة الخارجية لإدارة بايدن على أنها بداية جديدة. فعلى وجه الخصوص، اثنتان فقط من تحركات بايدن في السياسة الخارجية جرى تقديمها على أنها نقاط تحول:

الأولى كانت عندما أعلن أنه سيسحب 2500 جندي من أفغانستان في نيسان/ أبريل الماضي. فقد فسر محللون هذا القرار على أنه انفصال تاريخي عن الالتزامات الأميركية. (حتى الوسطيين تراجعوا عن تأييدهم لهكذا خيار بحجة أن الإنسحاب “المتهور” المفترض قد يؤدي إلى فيتنام ثانية). والحقيقة أن هذه الخطوة ليست إنكاراً لمنطق الحرب التي لا نهاية لها، ولا تراجعاً عن السياسات المبنية وفق منطق التفوق الأميركي. بايدن يفعل ما قال إنه سيفعله من الأمور المهمة، ويسعى إلى تحقيق رغبة طويلة الأمد لطالما شكلت الأساس بالنسبة للحكومة الفيدرالية الأميركية، وهي تحويل الموارد إلى صراعات ومنافسات جديدة، وهي الإستراتيجية التي أيدها وأجازها الرؤساء الثلاثة السابقون جميعاً (دونالد ترامب، باراك أوباما، وجورج دبليو بوش).

لقد توقفت الولايات المتحدة عن اعتبار أفغانستان أولوية إستراتيجية، كما كانت قبل أن يغزو جورج دبليو بوش العراق. فقد أصبحت أفغانستان – مُذاك – مسرحاً هامشياً متزايداً للقتال في “الحرب على الإرهاب” مركزها الشرق الأوسط. وبحلول عام 2011، كانت إدارة باراك أوباما قد أعلنت عن خطة انسحاب من أفغانستان، ولكن تاريخ هذا الإنسحاب جرى تغييره مراراً وتكراراً، وترك أوباما مهمة الخفض النهائي للقوات إلى خليفته. وكان دونالد ترامب يعتزم وضع اللمسات الأخيرة على الإنسحاب الكامل بحلول العام 2021. ورث بايدن هذا الجدول الزمني، إلى جانب إجماع على أنه يجب على الولايات المتحدة الإبتعاد عن أفغانستان والتركيز على منافستها مع الصين وروسيا وعلى صراعاتها مع القوى الأخرى، مثل إيران وكوريا الشمالية.

نقطة التحول الثانية المزعومة لبايدن حدثت حتى قبل توليه منصبه. فطوال حملته الانتخابية، أعرب بايدن عن دعمه للتعددية. وتشمل أحجار الزاوية في هذا النهج حلف “الناتو”، وشراكات الولايات المتحدة مع دول الاتحاد الأوروبي، وعلاقات أساسية رئيسية في آسيا وأوقيانيا، مثل تلك التي تربط واشنطن بأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، فضلاً عن الإنضمام من جديد لاتفاقية باريس للمناخ.

وبمجرد توليه منصبه، وفي أول خطاب رئاسي تناول فيه السياسة الخارجية، وألقاه من وزارة الخارجية – لما للمكان من رمزية هامة – أعلن بايدن إلتزامه بـ”الدبلوماسية المتجذرة في القيم الديموقراطية العزيزة”. المعلقون المهتمون بالأمور المهمة الخاصة بالحكومة الفدرالية والدبلوماسيون السابقون رحبوا بالخطاب، واعتبروه بمثابة “بلسم لأولئك الذين أصابهم اليأس” في عهد ترامب و”إعادة ضبط أساسية” تجسد “الوضوح الأخلاقي”.

الحظر المتكرر لصدور بيان عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن القصف الإسرائيلي على قطاع لغزة يوضح بأن دعم الولايات المتحدة للتعددية يقتصر فقط على تلك المجالات التي يكون فيها بقية العالم مستعداً للاصطفاف مع الامتيازات الأميركية

مواجهة روسيا والصين

ولكن هذه الإلتزامات بالإمكان فهمها على نحو أفضل على أنها جزء من قواعد اللعبة البالية للتنافس بين القوى العظمى. يعمل بايدن على تعزيز التحالفات التقليدية من أجل إحتواء روسيا والصين بل ومواجهتهما.

إقرأ على موقع 180  ماذا عن الحرب الغربية ضد غزة ولبنان؟

ومع ذلك، يمكن فهم هذه الإلتزامات بشكل أفضل على أنها جزء من قواعد اللعبة القديمة للتنافس بين القوى العظمى. يعمل بايدن على تعزيز التحالفات التقليدية من أجل احتواء، وحتى مواجهة، روسيا والصين.

فعلى الرغم من أنه وعد بـ”إعادة تقويم” العلاقات مع الأنظمة الاستبدادية مثل المملكة العربية السعودية، إلا أنه واصل الجزء الأكبر من مبيعات صفقات الأسلحة التي تفاوض عليها ترامب مع مثل هذه الدول، وهو خيار بالكاد يشير إلى نهج جديد قائم على القيم. كما أن الحظر المتكرر لصدور بيان عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن القصف الإسرائيلي على قطاع لغزة يوضح بأن دعم الولايات المتحدة للتعددية يقتصر فقط على تلك المجالات التي يكون فيها بقية العالم مستعداً للاصطفاف مع الامتيازات الأميركية.

كل هذا يشير إلى خواء الإدعاءات بأن بايدن يشرف على اتجاه جديد في السياسة الخارجية. ومن المؤكد أن الأصوات التقدمية ضغطت على بايدن على جبهتي السياستين الداخلية والخارجية على حد سواء. وقد ربطت هذه المجموعات – من “حركة حياة السود مهمة” و”الإشتراكيون الديموقراطيون في أميركا” إلى “تحالف العدالة العالمية الشعبي” و”حركة شروق الشمس” – أجنداتها في الداخل والخارج. وشجب النشطاء “من أجل العدالة وضد العنصرية” سلطة الدولة البوليسية وسياسة التمييز العنصري التي تُمارس ليس فقط في المدن الأميركية بل وفي الخارج أيضاً. كما وجهوا انتقادات واضحة وصريحة ضد إسرائيل. وفي الواقع فان النشطاء الذين ركزوا على قضايا مثل تغير المناخ وكبح جماح قوة الشركات يقدرون بشكل خاص البعد العالمي لهذه التحديات.

ولكن، وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية قد نالت الثناء من شخصيات يسارية مثل النائب جمال بومان وروبرت رايش، على ما أنجزته في الاقتصاد وفي التصدي لسياسة التمييز العرقي، إلا أن الأمر يختلف كثيراً عندما يتعلق بالسياسة الخارجية. هنا، يتمسك بايدن بموقفه ضد ضغط النشطاء.

في “جلباب” المؤسسة

ببساطة، فإن قيادة الحزب الديموقراطي كما هي موجودة حالياً لا تبدي اهتماماً كبيراً بإعادة التفكير في السياسة الخارجية، ناهيك عن تغيير افتراضات تتعلق بهذه السياسة وبشكل جذري. ويرجع السبب في ذلك ذلك جزئياً إلى أن بايدن قد أحاط نفسه بشخصيات مؤسسية (تابعة للمؤسسات السابقة).

فوزير خارجيته، أنتوني بلينكن، كان قد خدم في وزارتي خارجية كل من الرئيسين بيل كلينتون وباراك أوباما. وفي عهد بوش (الإبن)، تولى منصب المدير الديموقراطي للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وهي اللجنة التي أشرفت على قرار موافقة الكونغرس على حرب العراق.

أما جيك سوليفان، مستشار بايدن للأمن القومي، فقد عمل في البيت الأبيض في عهد أوباما، وعمل كذلك في حملة هيلاري كلينتون لعام 2016. الرجلان (بلينكن وسوليفان) لعبا دوراً مركزياً في تشكيل نهج ديموقراطي معيب أساسه التدخل في الشرق الأوسط. وفي حين مارس بيرني ساندرز تأثيراً حقيقياً في القضايا المحلية، ورحب بايدن بموظفي حملة إليزابيث وارين في إدارته – بما في ذلك العديد من النساء والملونين – إلا أن هذا التغيير في الحرس المنزلي ليس له مرادف في جانب السياسة الخارجية.

المصالح الأميركية لا تخدمها الشراكات الجيوسياسية القائمة، ولا الأرخبيل المترامي الأطراف من القواعد العسكرية، ولا السعي المستمر للسيطرة المسلحة

هناك مجموعة كبيرة من الخبراء في العلاقات الإقليمية والخارجية من ذوي الميول اليسارية. هؤلاء يكتبون لمجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) أو لصحيفة “نيويورك تايمز”، لكنهم يظلون مُلتزمين في الإطار الأكاديمي لأن الوظائف في السياسة الخارجية تتطلب العمل في دوائر وسطية. والواقع أن الضغوط الكبيرة من أجل تعيين هؤلاء القلائل الذين حققوا مهنيتهم وجدارتهم وتميزهم – أمثال مات دوس، مستشار ساندرز – قد فشلت إلى حد كبير. كل هذا يُنتج مستوى يمكن التنبؤ به من التفكير الجماعي.

نموذج مضى

إن غياب الأصوات التقدمية في السياسة الخارجية داخل الإدارة الأميركية يدل على وجود مشكلة أعمق تواجه البلاد، وهو أمر ملحوظ بشكل واضح جداً في نهج بايدن القائم على التمسك بالمسار الأميركي المعهود في التعامل مع إسرائيل. ومثلما يُنظر اليوم إلى الافتراضات المحلية السابقة، التي كانت تركز على التقشف والسجن الجماعي على أنها افتراضات مفلسة، يجب أن تواجه الحكمة التقليدية للسياسة الخارجية مصيراً مشابهاً. الإرهاق الشعبي ساعد في صعود ترامب سدة الرئاسة. وإذا ما سعى بايدن إلى إحداث تحولات تكتيكية، أو ركّز على أولويات جديدة، مثل تغيُر المناخ، فقد يساهم في إحداث بعض الديناميات. ومع ذلك، فإن هذا وحده لن يعطل الإجماع القديم في الآراء.

وهذا يثير التساؤل حول لماذا رأينا المزيد من التحرك على الجبهة الداخلية، وما هي احتمالية التغيير في السياسة الخارجية؟

في مجال السياسة الخارجية، يمكن للنقاش حول العنف الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية أن يفرض تصفية حساب/ أو إعادة حساب للطريقة التي تدير بها الولايات المتحدة العالم. وسواء غيّرت إدارة بايدن نهجها أم لم تغيره فإن سلوك إسرائيل والممارسات التي تقوم بها تجتذب النُقَّاد – من داخل الحكومة وخارجها – الذين يشككون وبشكل متزايد في الالتزام الذي كان مقدساً في ما مضى بالأولوية الأميركية العالمية.

في النهاية، المصالح الأميركية لا تخدمها الشراكات الجيوسياسية القائمة، ولا الأرخبيل المترامي الأطراف من القواعد العسكرية، ولا السعي المستمر للسيطرة المسلحة. ولكن مراجعة المبادئ الأساسية للأولويات الأميركية ستتطلب تحولات ديموقراطية شبيهة بما بدأنا نراه على الجبهة المحلية. وما لم يتم تعيين مفكرين جُدّد في مؤسسة السياسة الخارجية للحزب الديموقراطي، فإن بايدن ومن سيخلفه سوف يروّجون حتماً للنموذج الذي كانت تعتمده القيادة الأميركية في القرن العشرين وهو نموذج غير مناسب لتحديات القرن الحادي والعشرين العالمية.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  تعثر الإتفاق النووي.. إلى أين؟