لم تكن مصادفة عقد قمتين متضادتين بتوقيت متقارب فى الإقليم، أولاهما التئمت فى جدة حول الرئيس الأمريكى «جو بايدن» والأخرى جرت وقائعها فى طهران حول الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين».
فى قمة جدة أراد «بايدن» أولا وقبل كل شىء تأكيد الحضور الاستراتيجى الأمريكى فى حسابات الإقليم المضطرب، وأن بلاده لن تترك فراغا بالانسحاب منه تملؤه روسيا والصين وإيران ــ على ما أعلن بنفسه.
كان ذلك التصريح بنصه وحمولاته تعبيرا عن الصراع الدولى الحالى حول النظام الدولى ومستقبله.
بقوة الحقائق تبخرت تماما أية رهانات استراتيجية أمريكية سابقة تحدثت عن الانسحاب من صداع الشرق الأوسط وأزماته لتركيز قواها فى الشرق الأسيوى حيث الصراع على المستقبل مع التنين الصينى.
لم يكن ممكنا اضطلاع إسرائيل بمهمة ملء الفراغ الاستراتيجى فى الإقليم على ما كان مخططا إثر أى انسحاب عسكرى أمريكى.
كان ذلك وهما كبيرا تكشفت حقائقه تحت ضغط الحوادث المتدافعة.
رغم تناقضاته وأزماته لم يكن ممكنا إنكار الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط فى تحديد أوزان الدول بأى نظام دولى جديد يولد من تحت أنقاض الحرب الأوكرانية.
بنظر مماثل لأهمية الشرق الأوسط فى المساجلات الاستراتيجية الجارية يدرك الرئيس الروسى «بوتين» أن مصير الصراع على مستقبل العالم قد يتقرر فى الشرق الأوسط.
فى قمة طهران حاول أن يوجه رسائل مضادة.
القمتان المتزامنتان يمثلان معا مساجلة استراتيجية فى حسابات القوة والنفوذ، أمريكا تقول إنها باقية فى الإقليم وروسيا ترد أنها هنا شاءت أمريكا أو لم تشاء
إذا كانت القمة الأولى ضمت إلى الرئيس الأمريكى قادة دول الخليج الست وثلاث دول عربية أخرى الأردن والعراق ومصر التى تمثل لوحدها ثلث العالم العربى، فإن القمة الثانية ضمت إلى الرئيس الروسى قوتين إقليميتين كبيرتين. تركيا وإيران.
قمة جدة لخصت أهداف «بايدن» من زيارته الشرق أوسطية بعد عام ونصف العام من تنصيبه رئيسا، أولها محاولة تخفيف وطأة أزمة النفط، وقد نجح بدرجة ما فى إحداث اختراق، لكنه لم يكن كبيرا بالقدر الذى توقعه، حتى أن بعض الصحف الغربية قالت إنه قد عاد إلى واشنطن خالى الوفاض!
حسب ولى العهد السعودى «محمد بن سلمان» فإن بلاده قررت زيادة قدرتها الإنتاجية إلى (13) مليون برميل يوميا، وبعد ذلك لن يكون لديها أية قدرة إضافية.
لم تكن هناك مصلحة للسعودية فى التماشى إلى النهاية مع ما تطلبه واشنطن فى رفع أسقف إنتاجها من النفط، ولا الخروج عن صيغة «أوبك بلس» وإنهاء أدوارها القيادية فى سوق النفط العالمى بالشراكة مع روسيا.
ولا كانت هناك فرصة جدية فى بناء تحالف أمنى وعسكرى يضم دولا عربية إلى إسرائيل، كما دعا «بايدن» أثناء زيارته إلى تل أبيب.
حصاد زيارته تحت الفحص الآن على نطاق واسع، إلى أى حد نجح فى ترميم صورته، التى تدهورت إلى حد ينذر بخسارة حزبه الديمقراطى انتخابات التجديد النصفى لمجلسى الكونجرس؟.. وبأى قدر أخفق فى تحقيق دمج إسرائيل فى الإقليم، أو أن يسند إليها القيادة الفعلية لما أطلق عليه «الناتو الشرق أوسطى»؟
لم تطرح الفكرة على قمة جدة.
كان ذلك إخفاقا معلنا.
دفع السعودية إلى فتح أجوائها أمام رحلات الطيران الإسرائيلية.
كانت تلك الخطوة تطبيعا مؤكدا، لكنها أقل بكثير مما طلبه من تطبيع كامل الآن وفورا باسم «إدماج إسرائيل» لا التطبيع معها فقط.
وصف «بايدن» نفسه فى تل أبيب بأنه صهيونى رغم أنه ليس يهوديا، لم يتمسك بحل الدولتين واعتبرها فكرة مؤجلة حتى تتهيأ الظروف لها، لكنه عاد فى رام الله وجدة إلى تبنيها، دون أن يكون جادا أو مصدقا.
فى قمة طهران تجاوزت رسائل «بوتين» جدول الأعمال وما صدر عنها من مواقف وتباينات.
بحكم جدول الأعمال المسبق استغرقت القمة الأزمة السورية دون أن تغفل الأزمة الأوكرانية وفرص التوصل إلى تسوية للملف النووى الإيرانى.
تبدت فيها مساجلات معلنة حول شرعية العملية العسكرية التركية المرتقبة فى شمال سوريا حيث تتمركز قوات «سوريا الديمقراطية»، التى يسيطر عليها أكراد سوريون يناصرون حزب العمال الكردستانى، الذى تعتبره أنقرة تنظيما إرهابيا.
أهم مخرجات قمة طهران تفعيل صيغة «أستانا» بين الدول الثلاث من جديد.
بدا ذلك تطورا لافتا فى توقيته ورسائله، فهو يعنى بالضبط التأكيد على «تحالف الضرورة» الذى جمعها فى تعقيدات الأزمة السورية.
وهو يمثل رسالة عكسية إلى واشنطن أن إيران «العدوة» مستعدة أن تمضى مع موسكو إلى النهاية فى لعبة كسر العظام، وأن تركيا «الحليفة» تضع قدما مع الولايات المتحدة بحكم عضويتها فى حلف «الناتو» وقدما أخرى فى روسيا بحكم المصالح والاستراتيجيات المتداخلة خاصة فى الأزمة السورية.
روسيا أكدت وزنها الإقليمى المؤثر، أنها موجودة فعلا فى قلب تفاعلاته.
إيران أكدت حضورها فى معادلات الشرق الأوسط، وأنه ليس ملعبا خاليا أمام الولايات المتحدة تفعل فيه ما يخطر لها.
وتركيا نجحت فى تأكيد تمركزها الإقليمى وفق نظرتها لأمنها القومى.
بما هو معروف فإن هاجسها الأمنى الرئيسى ما تطلق عليه «الإرهاب الكردى»، وقد عطلت انضمام السويد وفنلندا إلى حلف «الناتو» بذريعة دورهما السلبى فى هذا الملف وعدم الالتفات إلى اعتبارات الأمن القومى التركى.
الأهم تأكيدها من جديد على ضرورات بناء توازن بحسابات القوة بين القطبين الأمريكى والروسى، والمضى فى تقديم نفسها وسيطا مقبولا فى ملف الحرب الأوكرانية.
باليقين فإنها تحتاج تفهما روسيا وإيرانيا يساعدها فى تخفيض كلفة عملياتها العسكرية المرتقبة بالشمال السورى ضد التمركزات الكردية.
بذات القدر أكدت إيران باستضافتها لتلك القمة أنه لا يمكن حذفها من معادلات الإقليم، إنها قوة رئيسية فيه، تمتلك القدرة الفنية على إنتاج قنبلة نووية فى مدى منظور لكنها لا تريد ذلك ــ حسب تصريحات رسمية متواترة.
كان ذلك نوعا من الرد على التصريحات التى أطلقها «بايدن» فى تل أبيب وجدة، ببيانين منفصلين أمريكى ــ إسرائيلى، وأمريكى ــ سعودى، من أنه لن يسمح لإيران حيازة سلاح نووى.
رغم أن قمة طهران لم تتطرق إلى السؤال الإسرائيلى، إلا أن رسالتها المضمرة تعكس رفضا نهائيا لفكرة الحلف العسكرى.
بدا أن هناك تحريضا أمريكيا وإسرائيليا على التصعيد العسكرى قابله ميل عربى إلى التهدئة وتأهب فى قمة طهران لإعادة دمج سوريا فى إقليمها، سوريا لا إسرائيل
القمتان المتزامنتان يمثلان معا مساجلة استراتيجية فى حسابات القوة والنفوذ، أمريكا تقول إنها باقية فى الإقليم وروسيا ترد أنها هنا شاءت أمريكا أو لم تشاء.
كان لافتا فى جدة الاسم الذى أطلق عليها «قمة الأمن والتنمية».
لم يكن هناك حضورا للأمن بأى معنى يتجاوز الأمن الإسرائيلى ولا حديثا جديا عن التنمية بأى معنى جدى آخر.
لم تكن السعودية تريد أن تنخرط فى «الناتو الشرق أوسطى» خشية أن يؤثر بالسلب على أية أدوار عربية تتطلع إليها إذا ما توصلت إلى تفاهمات متماسكة مع إيران، ولا كانت مصر مستعدة أن تتورط فيه، ويستحيل تماما أن تقدم العراق على تلك الخطوة بالنظر إلى ظروفه الحالية.
كان مستلفتا فى قمة جدة أن أحدا لم يعلن عن أى قدر من الدعم لفكرة «الناتو» الشرق أوسطى، خشية العواقب الوخيمة التى قد تلحق به.
يحسب للشعب الفلسطينى وملاحم التضحية الملهمة التى يخوضها دفاعا عن عروبة القدس وحرمة المسجد الأقصى الفضل الأول فى تعطيل فكرة الحلف مؤقتا، فالإسرائيليون سوف يعودون إليها مرة بعد أخرى كلما أتيحت الفرصة أمامهم.
بين قمتى جدة وطهران طرح السؤال الإيرانى نفسه، وكان مستلفتا ميل السعودية إلى إبداء انفتاح ملحوظ على الحوار مع إيران وتجنب أى تصعيد عسكرى يدفع إليه الإسرائيليون.
بصياغة أخرى بدا أن هناك تحريضا أمريكيا وإسرائيليا على التصعيد العسكرى قابله ميل عربى إلى التهدئة وتأهب فى قمة طهران لإعادة دمج سوريا فى إقليمها، سوريا لا إسرائيل.
كان ذلك أفضل مخرجات قمتى جدة وطهران فيما العالم يترقب قلقا مستقبل النظام الدولى، الذى قد يتقرر مصيره هنا.
(*) بالتزامن مع “الشروق“