نعت “الطائفي” المنغمس بمفهوم المحاصصة والسلطة، لم يكن كافياً، فقرر المؤتمنون على هذا البلد، إلصاق نعت “الفاسد” به، ليصبح لبنان، دولة ذات نظام طائفي فاسد. الا أن هذا النظام ـ والحق يُقال ـ كان عادلاً في عملية تقسيم الفساد على كل الأحزاب السياسية والطوائف التي تمثلها، كما بأساليب تغطية هذا الفساد، التي ازدادت ابتكاراً، سنة بعد سنة، حتى وصلنا الى الإنهيار المحتّم.
وعلى الرغم من أنها حقيقة مطلقة، تبقى محاربة الفساد شعاراً فقد بريقه لدى المواطنين، خصوصاً بعد انفجار 4 آب/أغسطس 2020. ومع اقتراب السنوية الأولى لهذا اليوم المشؤوم، حان الوقت لإعلان الحرب الفعلية على الفساد. يشير تقرير منظمة الشفافية الدولية للعام 2020 الى “تراجع لبنان بشكل ملحوظ على مؤشر الفساد، حيث انخفض خمس نقاط منذ العام 2012 وبذلك يحتل المرتبة 149 من بين 180 دولة. فعلى الرغم من الاحتجاجات الحاشدة ضد الفساد في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، لم تبدأ أي تحقيقات رئيسية، ولم يخضع أي مسؤول عام للمحاكمة”.
قد يتجادل اثنان حول الأخطاء التي ارتُكبت خلال ثورة 17 تشرين والتي قد تكون هي المسؤولة عن عدم تحقيق إنجازات، لكن كلما ارتُكبت الأخطاء، كلما كثُرت الدروس، والمهم هو عدم التشبث بمنهجية واحدة، أظهرت بوضوح أنها لا تؤدي إلى النتيجة المرجوة.
في نظرة سريعة على مهمة الإعلام المحلي والعربي، اتضح لنا خصوصاً بعد الثورة، أنه لا يشارك الأخبار فقط، إنما يصنعها، وبهذا يكون الإعلام من الوسائل البديهية الأولى التي من خلالها يمكن محاربة الفساد
من المؤكد أن محاربة الفساد لن تتم بين ليلةٍ وضحاها، والمؤكد أيضاً أنه لن يكون هناك طرف واحد مسؤول عن محاربته، فوضع الفساد في خبر كان، يحتاج الى تغيير فكري وثقافي جذري.
الإعلام ودوره في محاربة الفساد
الفشل الذي نشهده اليوم يطال كل المستويات، لكن من أجل الشروع بهذا “الإصلاح الفكري” المناهض للفساد، للإعلام دوره الريادي. فقد لعب الإعلام دوره في فترة ما بعد الثورة من جهة نبش الحقائق وتخصيص قدرات وجهود أكبر للصحافة الإستقصائية، من خلال تقديم أدلة وبراهين وحقائق. ولكن، يُتّهم الإعلام أيضاً بكونه منبر مخصص لحزب أو لطائفة أو لتموضع سياسي واضح. ومن خصائصه التماهي مع التغييرات السياسية بحسب المصالح المالية المفروضة. الحقيقة أنه وفي نظرة سريعة على مهمة الإعلام المحلي والعربي، اتضح لنا خصوصاً بعد الثورة، أنه لا يشارك الأخبار فقط، إنما يصنعها، وبهذا يكون الإعلام من الوسائل البديهية الأولى التي من خلالها يمكن محاربة الفساد.
كانت محاربة الفساد المحرك الأساسي للعديد من وسائل الإعلام اللبنانية، غداة ثورة 17 تشرين.. الا أن المعادلة أظهرت أنه على الرغم من أن كل وسيلة إعلامية رأت الفساد من خلال عدستها الطائفية والسياسية فقط؛ فإن مجموع هذه العدسات يعطي المواطن اللبناني “اليقظ” الدليل القاطع أن لا أحد مُستثنى من الفساد. هذه السردية الجديدة التي يجب أن يستند إليها الإعلام لبدء ثورة فكرية، بالإضافة الى تعزيز استخدام الأدلة العلمية في المواد الإخبارية والتي من شأنها رفع مستوى المصداقية والشفافية في نقل الأخبار.
نعم، على الإعلام الإستفادة من الإستحقاق النيابي المقبل لضمان تصويب الخيارات الإنتخابية في الإتجاه المناسب. ومن ضمن الشق الإعلامي أيضاً، فإن غالبية التقارير العربية التي صدرت مباشرةً بعد الثورة كانت مقتنعة بقدرة الشباب على إحداث تغيير ما في النظام اللبناني، وهذه الفئة أثبتت أيضاً أنها قادرة على خلق البديل، وساعدها الإعلام، بوسائله ووسائطه كافة، في تقديم السردية البديلة الشابة الرافضة للقمع، كما للفساد والطائفية.
على صعيد الشباب
يوماً بعد يوم، يظهر مدى تضرر الشباب اللبناني من الوضع الفاسد في لبنان، فقد زادت نسبة هجرة الشباب حتى أكثر من 40% حتى مطلع سنة 2020، ونسبة البطالة تلامس الـ 65%. في هذا الإطار، تشير تقارير مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، الى أن المتضرِّرين من الفـساد هـم الأكثر استعداداً لتقـديم أفكار وآراء جديدة تُحفّز التغيير الإيجابي. كانت الثورة إحدى الوسائل للتعبير عن رفض الواقع الذي فُرض على شباب وشابات لبنان وعدم السماح لهذا الواقع أن يحدّ من أحلام هؤلاء وطموحاتهم.
وهنا تكمن قدرة وذكاء وابتكار الشباب اللبناني على خلق البديل الفعلي على الأرض وفرض التغيير المنشود. لقد حاول الشباب اللبناني خلال ثورة 17 تشرين خلق سيناريو مختلف لمجريات الأحداث في لبنان، الا أنه بالرغم من محدودية إنجازات الثورة، يبقى للشباب فرصة أكبر لتحقيق أهدافهم وإنزال أصواتهم في صناديق الإقتراع المنتظرة، ففي حين لم يتمكن الشباب اللبناني من اختيار ظروفه، إلا أنه يستطيع، وهذا حقه، أن يختار كيفية مواجهتها والرد عليها.
ان قيادة الشباب لتغييرٍ ما، لن تكون مفيدة للشباب فقط، إنما لكل الفئات العمرية والمجتمعات المحلية على اختلافها، لما تحمله من ابتكار وذكاء، ممزوج بالشغف والمقاومة.
الإنتخابات النيابية المقبلة تضع كل لبناني ولبنانية على مفترق طرق، فلماذا لا يكون معيار محاربة الفساد والفاسدين بوصلتنا لتحديد الخيار الصحيح؟
على صعيد الدولة ومؤسساتها
هنا المعركة الأصعب. إن تراجع لبنان على مؤشر مدركات الفساد بين 2012 و2020، ليس الا انعكاساً للواقع الذي نعيشه. بالمقارنة، وفقًا لدراسة صادرة عن البنك الدولي، قدّمت جورجيا نتائج أفضل في مكافحة الفساد وفعالية الحكومة والتنظيم خلال 2019، حيث احتلت المرتبة الأولى بين الدول الـ14 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ولكن لم تكن هكذا الحال عندنا. قد يتشابه واقع جورجيا 2002 ولبنان 2021: بلدان بموارد محدودة وفساد فاحش. بلدان شهدا ثورة شعبية: “ثورة الزهور” في جورجيا 2003، وثورة 17 تشرين في لبنان 2019، الا أن “ثورة الزهور” أنتجت خطة ملموسة لمكافحة الفساد، واعطت الحكومات المتعاقبة تلك الأجندة الإصلاحية الأولوية المطلقة، حيث تم ادخال المكننة في الإجراءات المالية الحكومية، وتطوير القطاع المصرفي، واعتماد أساليب جديدة في الرقابة المالية. نتيجةً لذلك، احتلت جورجيا في الـ 2014 المرتبة 11 من بين 197 دولة في مؤشر مخاطر الرشوة، متقدمةً على فرنسا، هولندا، سويسرا ودول أخرى.
لنذهب إلى مثلٍ آخر، فقد أقرّت بلغاريا قانون مكافحة الفساد منذ عام 1997، حيث أصبحت الحرب ضد الفساد أولوية الحكومات والشعب. ولكن الملفت للإنتباه في التجربة البلغارية، هو دور المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والمنظمات الاقتصادية في تشغيل عجلة الإصلاح بالتعاون مع الحكومة التي كانت مصرّة على طيّ صفحة الفساد جذرياً. بالعودة الى واقعنا الطائفي الفاسد، قد نعوّل على قدرة المجتمع المدني في التأثير، بالإضافة الى سلطة القضاء الذي يعوّل على نزاهته، ولكن الثقة بإرادة الحكومة بالإصلاح، معدومة تماماً، وذلك لأسباب نعلمها جميعنا.
بالرغم من توافق كل الأطراف السياسية على ضرورة “كشف الفساد” واتخاذ خطوات إصلاحية، الا أن الواقع يشي بعكس ذلك. ففي لمحة سريعة على الحكومات المتعاقبة منذ 10 سنوات، لم يتم تعيين وزير لشؤون مكافحة الفساد الا في حكومة سعد الحريري الثانية (2016-2019) ولكن من دون تحقيق أي إنجاز يُذكر، فهل اليوم مكافحة الفساد هي فعلاً أولوية في لبنان وأولوية أي حكومة مقبلة؟
إنتخابياً أيضاً، كيف سيُطبّق المواطن اللبناني ما تعلّمه من الدروس الصعبة التي يمرّ بها؟ وهل سيستطيع ترجمة التغيير الذي يتوق إليه في صناديق الإقتراع؟
الإنتخابات النيابية المقبلة تضع كل لبناني ولبنانية على مفترق طرق، فلماذا لا يكون معيار محاربة الفساد والفاسدين بوصلتنا لتحديد الخيار الصحيح؟