رحل السيد.. وكثيرة هي الألقاب التي حملتها سيدي، ولكنني لن أجد لقباً يعبر عنك ويلتصق بك، لأخاطبك به كلقب السيد.
رحل سيد المنابر بغير منازع، وسيد الكلمات والمواقف. رحل السيد بنسبه المتصل بالإمام الحسن المجتبى(ع)، حفيد النبي المصطفى(ص).
رحل سيد المقاومة. حاضنها وحاميها وحصنها المنيع. من تحت عباءته الطاهرة خرج المجاهدون ليزرعوا ربوع الوطن انتصارات، ومن صلابة مواقفه استمدوا القوة التي حرروا بها الأرض.
رحل سيد القضية، قضية العرب أجمعين.. قضية المسلمين كافة.. قضية الأحرار في كل أصقاع الأرض.. قضية فلسطين، حملها السيد في قلبه وفي وجدانه، دافع عنها فوق كل المنابر، وكانت حاضرة في كل لقاءاته، وتمنى أن يرى القدس محررة قبل أن يوافيه الأجل.
رحل سيد المساجد، من مسجد النبعة إلى مسجد الإمام الرضا(ع)، وانتهاءً بمسجد الإمامين الحسنين(ع)، زارعاً حيثما وقف أملاً جديداً، وحباً كبيراً، وحياة لا تشبه أي حياة.
رحل سيد الخطاب، الخطاب الملتزم المقاوم.. الخطاب الفكري العقلاني.. الخطاب الإنساني الشاعري الحساس.. الخطاب الوحدوي الذي لم يلغِ أحداً ولم يستثنِ أحداً.. الخطاب الموجه لكل ذي عقل وضمير وقلب.
كنت من الناس، وللناس، ومع الناس وستبقى في قلوب الناس. قنديل محبة، وشعلة خير وسلام. في حياتك لم تيأس ولم تفقد الأمل في الآخرين، وكان نهجك إشعال جذوة الإنسانية، وزرع بذور المحبة داخلنا، حتى نستطيع أن نتعايش، ويتقبل كل منا الآخر
رحل سيد المجالس الحسينية، بعد أن جعلنا ننفتح على آفاق الثورة الحسينية الحقيقية، ثورة العقل على كل الموروثات البالية.. ثورة الفكر على التزمت والانغلاق.. ثورة الانسان على الظلم والطغيان.. ثورة المستضعفين على المستكبرين.. ثورة الحق على الباطل، والايمان على الكفر.
رحل سيد الفتاوى، فمع كل فتوى جديدة كنا نبقى لأيام وأسابيع وأشهر نناقش ونحلل ونتساءل كيف ولماذا؟ كيف خرج علينا السيد بهكذا فتوى، ولماذا هذا التوقيت، وهل الساحة الاسلامية مستعدة لتلقي مثل هذه الآراء المنفتحة والفتاوى الجديدة؟
رحل سيد الحوار، الحوار بين المسلم والمسيحي.. بين الشيعي والسني.. بين الشرقي والغربي.. بين الانسان وأخيه الإنسان أينما كانا ولأي دين أو طائفة انتمى.
رحل سيد العمل الاجتماعي والانساني، لقد كان أباً لكل الأيتام.. لكل الفقراء.. لكل المعوقين.. ولكل صاحب حاجة، وها هي المؤسسات الاجتماعية الانسانية، المنتشرة على مساحة الوطن تتشح بالسواد، وتعزي النفس بفقد المؤسس والراعي.
رحل سيد السبعين من أعوام الجهاد والوعظ والارشاد والحوار، لبناء جيل واعٍ مفكر منفتح على الآخر، وعلى العالم بأسره.. جيل لا يعرف التشدد ولا الانغلاق.. جيل يحاور ويحاور ويحاور، بصدر رحب وعقل منفتح، وقلب محب.
رحل السيد، فوحد الجميع برحيله.. والكل سار في موكب عزائه.. وها نحن نعود اليوم لنكرر: لقد رحل السيد.. فماذا بعد؟
(*) لمناسبة الذكرى الحادية عشرة لرحيل سماحة السيد محمد حسين فضل الله