يا أخي وحبيبي طلال؛
لستَ بحاجة إلى مَنْ يكتب عنك. امتلأت الصُّحف والمواقع كلاماً عنك. قيل فيك الكثير، وهو قليل جدًّا، لأنّ الكلام عنك قاصر وضئيل. قالوا فيك، وهي أقوال صادقة، ولكنّك بقامة حضورك الزمني، لستَ بحاجة إلى مدح ولا إلى كلمات وداع. ونحن هنا لا نودّعك، لأنّك باقٍ معنا. “السفير” توقّفت عن الصدور. لكن قامتها من جذور الالتزام، لا تزال حيّة ترزق.
أودّ هنا، أن أُعلِمُك فقط أنّ لبنان اليوم، احتفل بك كأنّك ما زلت معنا. الحزن خافت ورصين. الإشادة بك بلا مبالغة ولا مُغالاة. قالوا عنك القليل. ولكن قليلهم صادق. وفيّ. يُشيد بفتى قَدِمَ من شمسطار وبلغ مرتبة الرّمز. مرتبة العطاء. مرتبة الالتزام. وحولَهُ العشرات وقرّاؤه بمئات الآلاف.
من كان يُصدق أنّ معجزة “السفير”، سيُكتب لها الحياة. اطمئن في عليائك. “السفير” معجزة. وُلدت، والظنّ آنذاك، أنّها قصيرة العُمر. وإذ، هي حيّة تُرزق، وبسرعة تحوّلت “السفير”، عن جدّ، إلى صوت الذين لا صوت لهم. تبوّأت مكانة لبنانية وعربية. ابن شمسطار، ویا أهلها، افرحوا به، ابن شمسطار، هو ابن عربيّ من المحيط إلى الخليج. “السفير” ملتقى العرب. كتّاباً، شُعراء، اقتصاداً، وسياسة، مع إقامة مميّزة ومُحاطة بودّ صافٍ. هي الإقامة في فلسطين.
كَمْ تغيّرت الأحوال؟ كَمْ أُصبنا بالأهوال؟ ثمَّ نُكبنا بالنكسات؟ كَمْ انقض علينا الخراب؟ كَمْ تسلّل العنف السلطويّ العربيّ وأقام قلاعاً كلاميّة، مضادّة للحرّية والكلمة والموقف؟
السلطات العربيّة مُشينة. حروب الأخوة الأعداء. جحيم. انهيار الأمّة. تفسّخ الجماعات. انتصار الاستبداد. غليان الحروب الأهليّة. التهديد ومن ثمَّ تنفيذ الغدر بالأقلام. أصابته مراراً بهدف قتله وإسكاته. كم هم أغبياء. طلال سلمان من عائلة الفينيق. يحترق ولا يموت. يُحاصر، يُهجّر. ينسفون “السفير” وعشرات التهديدات… ومع ذلك، هذا الفينيق الذي لا يموت، يُشبهه طلال سلمان.
هل أُبالغ؟ لا. افتحوا سجلّات الخالدين. من بطرس البستاني، و”نفير سوريا” إلى غابة الأقلام التي حبَّرت صفحات الجرائد في القاهرة. إلى الكتابات الفلسطينيّة، إلى عبد الرحمن الكواكبي. إلى الشُّعراء الخالدين. إلى عباقرة الفنّ والكتابة.. بحر من الأسماء الخالدة.
ورجاء، أن لا تنظروا إلى الزّبد الراهن. هو هباء. تعلّقوا بأولئك الذين أشعلوا الحرائق وأضاءوا نهضة تآمروا عليها واغتالوها.
وطلال سلمان ظلّ عاشقاً وعلى دِينِ فلسطين. اخترع لها مكانة خاصة. فلسطين مجلّة إلى جانب “السفير”. إيمانه بفلسطين لم يفتر. داوى جراحها بالأمل. ففلسطين، عنده، لا تموت.
نَمْ هانئاً يا صديقي. معك حق. فلسطين وحدها، على صليبها، وهي في قيامة دائمة. فلسطين حبيبتك قرأَتْكَ وقرأتها. شهادة لك. هي شهادة وفاء. إنّها تكتب أيامها بدمائها. هي وحدها، في هذه العتمة العربيّة الكالحة، حلم المستقبل.
“للسفير” الورقيّة نقول: وداعاً. “للسفير” المؤسّسة نقول، روح طلال فيها. في آخر لقاء معه، قبل شهور قليلة، تداولنا أفكاراً ومشاريع. كان يصغي ويصمت. سمعنا. ثمّ قال جملة واحدة: “عودوا إلى المحاسبة. لا بداية إلا بعد المساءلة”. اقتنعنا، ونأمل أن ننفّذ ذلك.
لطلال سلمان نقول؛
اطمئن على حبّ الأهل والناس وأبناء منطقتك. إنّهم يحبّونك. اطمئن إلى أنّ تراثك الخصب ولَّادة. وعائلتك الكبيرة جدًّا، تتطلّع إلى مَنْ سيكمل المسيرة معك، من بعدك.
أخيراً ، أشهد أنّ آلامك اللبنانية، كانت باهظة جدًّا .أهذا هو لبنانك. حرام: لبنان، كأنّه كان، وهو مرشّح لأن لا يكون. لن نقول أكثر كي لا نكسر أحلامك.
أخيراً أيضاً: عشتَ كل الحروب. حتى الحروب العربيّة – العربيّة المتسلسلة. نحن اليوم فتات على موائد اللئام.
أخيرا أخيراً ، لا تتعاملوا مع طلال، بصيغة الغائب.
ولعائلته الحميمة وعائلته الأكبر: “السفير” باقية بطريقة أخرى.
يا أخي طلال، لا أقول لك وداعاً، بل إلى اللقاء، حيت أنت حيًّا تُرزق.
(*) نص كان مقرراً إلقاءه في حفل تشييع الكاتب العربي الكبير وناشر “السفير” طلال سلمان في مسقط رأسه بلدة شمسطار.