سيكولوجية أطفال غزة ما بعد 7 أكتوبر

برغم ثمانية عقود من احتلال فلسطين، بينها سبعة عشر عامًا من حصار غزة والتي تخللتها سلسلة حروب متواصلة ضد القطاع، إلا أن ما تشهده غزة في هذه الأيام لا يُمكن للعقل البشري تحمّله لجهة حجم الدمار وعدد الشهداء واستباحة المدارس والمستشفيات وأماكن العبادة والتجمعات التي يفترض أن تكون آمنة.

على مرأى من العالم، تُتداول على مدار الساعة صور وفيديوهات للدمار والدماء وبقايا الأجساد والجثث الممزقة والمحترقة والمطمورة فيما تسقط أطنان من القنابل على رؤوس الآمنين.. وكأننا أمام أفلام رعب مركّبة وخدع سينمائية وإبداع في الماكياج السينمائي وعملية تزييف موفقة في رسم الجروح والقطع البشرية الممزقة!

يسألني أحد الطلاب مقاطعًا: بعد كل ما شهده الطفل الغزاوي من قتل وتدمير وتشريد.. كيف ستتأثر البنية النفسية لدى الأطفال هناك وخصوصًا أنهم يعايشون عمليات الإبادة.. الواحدة تلو الأخرى.

ولأن الاجابة على هذا السؤال ليست بالأمر السهل، أي كيف ستكون ملامح السيكولوجية المستقبلية لأطفال غزة ما بعد الحرب. زدْ على ذلك، أن التنبؤ بسيكولوجية مستقبلية يحتاج إلى المزيد من البحث من أجل عدم إهمال أي عامل من العوامل التي يُمكن أن تساعد في رصد ظاهرة من هذا القبيل.

صحيح أن لأطفال فلسطين باع طويل مع الموت والتهجير، إلاّ أن ما حدث للغزيين له خصوصيته، ولا سيما أننا أمام عملية إبادة بكل ما فيها من حيثيات وأحداث ستترك تأثيرها على الحجر والبشر معًا. وعليه، لو أردنا التكهن بتلك السيكولوجية الجديدة لا يمكننا أن نتغافل عن تاريخ الشعوب السابقة التي تعرضت للعنف من قبل عدو محتل، لأجل الإستعانة بتجاربها ومحاولة وضع فرضيات تحاول الإجابة على تساؤلاتنا تلمساً للآفاق المستقبلية للأجيال المقبلة.

ففي دراسة مقارنة أجرتها الأستاذة والباحثة في علم النفس في الجامعة اللبنانية نجوى يحفوفي على عدد من الطلاب اللبنانيين، وذلك بعد الحرب الإسرائيلية المدمرة على لبنان في تموز/يوليو 2006، شكّل عدوان تموز الحادث الصدمي الأول الذي ذكره معظم الطلاب من جميع الطوائف اللبنانية، ولكن بمعدل مرتفع بين أبناء الجنوب الذين طالتهم الحرب أكثر من غيرهم بشكل مباشر، إلا أنه وبحسب نتائج الدراسة نفسها، فإن خطاب الانتصار الذي تكرّس بعد الحرب خفّف من حدة الصدمة التي واجهها طلاب الجنوب تحديدًا بحسب الباحثة يحفوفي.

ولو خضنا في تحليل أدق لهذا الواقع، فإن مفهوم “الانتصار” قد تحوّل عند الجنوبيين إلى معتقد كغيره من المعتقدات التي سادت وكان أبرزها في قاموس هؤلاء “إن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”، وهي العبارة التي أطلقها السيد حسن نصرالله في “خطاب التحرير” من مدينة بنت جبيل في العام 2000.

وهنا فإن المعتقد الذي تتأثر به جماعة أو فردًا ما يساهم في تشكل الشخصية الإنسانية، الفردية والجماعية، كما يساعد في مواجهة الصعاب فيما بعد. وهذا لا يعني أننا خرجنا عن بديهيات العوامل الأخرى في تشّكل شخصية الفرد، مثل العوامل الجينية والأسرة النواتية والتفاعلات البشرية والمؤثرات الاقتصادية والمادية والفيزيائية والموقع الجغرافي الذي يعيش فيه هؤلاء إلخ..

وفي هذا الإطار، فإن مفهوم المعتقد المقصود هنا هو ما تُعوّل عليه مدرسة العلاج النفسي السلوكي المعرفي للكشف عن طبيعة المؤثرات التي تنبني على أساسها شخصية الفرد من أجل حل المعضلات أو الاضطرابات النفسية، وإزالة أو تصحيح المركبات المعتقدية الخاطئة أو المشوهة وتعزيز الجيد منها وتوظيفه في مسيرة العلاج.

والمعتقد في هذه المدرسة هو مجموعة أحكام عن أنفسنا والآخرين والعالم من حولنا، نستخدمها ونُردّدها في حياتنا اليومية، وهي أنماط من الأفكار والسلوكيات تُحدّد افتراضاتنا وتوقعاتنا المختلفة وعادة ما تتآزر هذه المعتقدات المُشكّلة ويتأثر بها الفرد في مسيرة حياته ومن ثم يتلبسها، وغالباً ما تبدأ بالتشكل في مرحلة الطفولة لتتطور مع مرور الزمن عن طريق التجارب المهمة وتبقى في الدور السفلي للعقل البشري، وعندما يطرأ حدث ما، فإن العقل سيلجأ إلى هذا الدور بوصفه حاملا للحقيقة الثابتة وتغدو معتقدات أساسية كونها تساهم في تفسير العالم لنا. وقد تكون هذه المعتقدات إيجابية أو سلبية إذ أن منظور الفرد هو من يؤثر فيها، إلا أن لها دور كبير في تشكل شخصيتنا وسلوكنا وأحكامنا كما أشرنا سابقا وخاصة في الأوقات الحرجة من حياة الإنسان ومنها الحروب والأزمات على أنواعها بحيث تشعر الإنسان بأمان وطمأنينة وتحميه من الشرور المتربصة في سيرورة حياته؛ بكونها أعمدة متينة: عندما ترى نفسك شخصاً قوياً وبخير فسوف يتوجه تركيزك إلى إيجاد دلائل تثبت صحة ذلك وبذلك ستشعر بالقوة وتقنع نفسك بأن المعتقد المخزن في الدور السفلي من العقل صحيح مع الشعور بالأمل والاطمئنان.

بناء على هذه الإحاطة النظرية، فإن أطفال غزة ترعرعوا على المعتقدات التي أورثهم إياها الكبار مثل القول أمامهم إنهم ينتمون إلى “الشعب العظيم الجبار” و”أنهم أصحاب القضية” و”أصحاب أرض الرباط والجهاد” و”القبلة الأولى للمسلمين” و”أرض النبوات والإسراء والمعراج”.. وأن النصر والتحرير حليفهم، والاعتقاد بأن كل من تقتلهم إسرائيل هم “شهداء الجنة”، و”فداء للقدس” إلخ.. كل تلك المقولات التي يسمعها ويُردّدها الكبار والتي ينشأ عليها الطفل ويتبناها تُمثّل معتقدات – دفاعات نفسية – تقوي عزيمتهم في مواجهة التحديات التي تعترضهم.

إقرأ على موقع 180  توماس فريدمان: إنتخابات 2020 هل تزرع بذور الحرب الأهلية؟

خلاصة القول إن سيكولوجية الطفل لا تُبنى من فراغ ومن لا شيء ولا وفق قواعد تربوية ومُثل اجتماعية أو دينية فقط، وإنما هي إدراك واستنباط معتقدات تحتاج إلى مدة زمنية معينة تكون غنية بالتجارب والأحداث المهمة، كما يجري في فلسطين اليوم، حتى يُبنى على الشيء مقتضاه.

Print Friendly, PDF & Email
سلوى الحاج

أخصائية نفسية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  عن رجل يمكن أن.. أحبه