برهان حياة ما عرفنا كيف نبت

في هذه المدينة الحزينة المعلقة بين الحياة والعبث يموت وسام متى أو يدفعنا لإعادة الفلفشة في تعريفات الموت، سريريّة ودماغيّة وعالم البرزخ، نحن الذي يصعب علينا تقديم البرهان، بغير الكتابة - التي هي مزاولة لفن الموت ومراوغة عليه في الأساس - على أننا أحياء. نحن الصاخبون في قبورنا يصعب علينا تقديم البرهان "الحي".
لكن وسام متّى كان برهان حياة لجميع من أدركه وعرفه، وكل من أدركه وعرفه أحبه.
وكل من أحبه لا يستطيع الآن تصديق الواقعة الموتية الحالّة به، إلا كإبداع غريب من عدسة وسام المصور، إبداع لم نعرف بعد، ولن نعرف ما كان الداعي اليه، وإن فهمنا أنه كان حتمية تنتظر وسام منذ البدء، وكل ضحكة كان ينقل عدواها لأصدقائه كانت هزءاً بهذا الحتم/الحتف.
وأول عهدي بوسام صورٌ وأحلامٌ وضحكٌ.
عندما نفذنا إعتصاماً على جسر متصرفية انطلياس في شتاء 1999 منددين بالحرب الأميركية الأطلسية على يوغوسلافيا، أخبرني رفيق الطفولة ومعظم المراحل الرفيق والزميل نبيل خوري، المشارك في تنظيم هذا الاعتصام الذي دعت اليه “شبيبة طانيوس شاهين” وقتها، وشاركت فيه الجالية اليوغوسلافية وحضر اليه جورج حاوي، بأن شاباً من كلية الحقوق في جل الديب (الجامعة اللبنانية) التقط بالأمس عددًا من الصور للاعتصام الذي انضم اليه. تعرفنا عليه، ووجدنا فيه نموذجاً مثالياً لشيوعي، لينيني، لم نعرف كيف نبت بهذا الوضوح، على ساحل المتن، دون أن يكون متحدرًا من عائلة شيوعية، ولا من مرحلة كان فيها الحزب الشيوعي قوياً في هذه النواحي.
لا أزال احتفظ بصورتين من عدسة وسام لهذا الاعتصام (الصورة أدناه إحداهما).
أحبّ وسام الحياة كثيراً، وكانت تليق به لعمرين إضافيين أزيد مما عاشه. العزاء الوحيد أنه عاش ما عاشه، بحماسة وإتقاد وحب ودأب. لكنه عزاء كئيب الآن، ومن سيذكره منا بعد عقود ما عساه يقول سوى أننا تركنا في تلك الأعوام العجاف شاباً من ساحل المتن من خيرة الشباب
والتصوير عند وسام برهان حياة وفعل كتابة، والكتابة عنده تسلسل شيق من الصور. البرهان صورة لا تجمد الحيّ، والبرهان بُرْهة. أما الشيوعية التي تبناها فهي شيوعية المصور. تصوير العالم، والاجلاء فيه لعالم آخر أكثر حرية ووفرة للجميع، جنينيٌّ لم يزل، وجنيني يبقى. طور وسام ابن بلدة الضبية شيوعيته بنفسه في سني المدرسة قبل أن يتصل بالشيوعيين وأشياع اليساريين في سني الجامعة. دخل المعترك الحزبي ولم يستهلكه هذا المعترك. تحول ولعه بالأشياء السوفياتية إلى حب لروسيا ما بعد السوفياتية أيضاً، واهتمام بإنشاء جسور واصلة ثقافياً بين بلاد الموسكوب وبين بلادنا العربية.
تحمس وسام منذ عامين أو ثلاثة لفكرة كتاب جماعي يقص فيه كل واحد حكايته المعاشة مع إسطنبول القسطنطينية. كل هذا ووسام طوّر معرفة بالحركات الإسلامية، مدهشة من حيث الدقة والدهاليز التي سلكها، معرفة واسعة وشيقة وعن كثب، تتضمن لقاءات لا تخطر على البال عقدها في أيام “حكم الاخوان” في مصر مع قيادات إخوانية وسلفية عديدة، وحبذا اليوم لو يصار إلى جمع نتاج وسام متى، تحديداً في هذا المضمار، والتفكير في أسلوب متماسك لاعادة نشره جنباً إلى جنب مع الكتابات لنقل “الروسية” اليه.
أحبّ وسام الحياة كثيراً، وكانت تليق به لعمرين إضافيين أزيد مما عاشه. العزاء الوحيد أنه عاش ما عاشه، بحماسة وإتقاد وحب ودأب.
لكنه عزاء كئيب الآن، ومن سيذكره منا بعد عقود ما عساه يقول سوى أننا تركنا في تلك الأعوام العجاف شاباً من ساحل المتن من خيرة الشباب وأطيبهم وألذهم وأمتعهم، شاباً سيولد في مكان ما من العالم لا ريب في ذلك، لأن به وأمثاله وأبداله إستمرار الخير والعشق في النوع البشري. سنراك حيثما تقول لنا العيون أنّك فيها. وردة يهرسها البكاء. ضحكة تبتلع كل الدموع. رفيقاً إنتقل الى العمل السري في سرّ الأسرار نفسه. برهان حياة عاش بُرهة ومات بُرهة.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "تسونامي" ترامبوي.. في الآتي من أيام وسنوات!
وسام سعادة

كاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  رسائل مؤتمر باريس: إنفجار القنبلة الإجتماعية لن يُوفّر أحداً