يختصر الناس الولايات المتحدة بأميركا، ويخلعون إسم الكل على الجزء، لأن الجزء يرمز إلى الكل.
ويختصر المصريون القاهرة بمصر كلها، ويزاوجون بين مصر والقاهرة، ويصفونها بـ”أم الدنيا” مع أن القاهرة حديثة الوجود والعمران نسبياً.
والسوريون يسمون دمشق بالشام، مع أن بلاد الشام واسعة وشاسعة، وهنا أيضا يُختصر الكل بالجزء.
بيروت بالنسبة إلى لبنان، هي لبنان، وإذ لا يختصر اللبنانيون لبنانتيهم ببيروت قولاً ولفظاً، فإن سلوكياتهم وثقافاتهم تؤكد “بيروتيتهم”، وسيادة اللهجة البيروتية المدجنة، غزت واستولت على اللهجات المناطقية والطرفية بصورة شبه كلية.
هذه دلالة انتماء لبناني عام إلى بيروت.
الدلالة الثانية تكمن في اتساع الضواحي حول بيروت.
فالضواحي هي مسعى الإقتراب من المركز، لمن عجز عن ذلك سبيلاً، بل هي انتماء لبيروت ولو كان عن بُعد.
هكذا هي الضواحي حول بيروت، إذ تبدو الضواحي المنتشرة شرقاً وجنوباً وشمالاً، أشبه بأبناء وبنات يحيطون أمهم، وأمهم هي بيروت.
بيروت اختصرت في لحظة ذروتها الثقافية والإقتصادية والسياسية والجمالية، جميع العرب وجموعهم وأجمعهم، بأنظمتهم وسياساتهم، بحروبهم وانقلاباتهم، بمطابعهم وإعلامهم، وشعرائهم وأغانيهم ومقاهيهم
الدلالة الثالثة تتمثل في الليونة البيروتية، والقدرة على استيعاب الوافدين من الأطراف، فالمرونة البيروتية، لم يجذبها تصنيف الآتين من المناطق بين “المحلي” و”الغريب”، فلا غرباء في بيروت، وقد استوعبتهم المدينة في كل أزقتها وأحيائها: من الطريق الجديدة إلى المزرعة، ومن النويري إلى الخندق الغميق ورأس النبع، ومن البسطة إلى مار الياس والحمرا ورأس بيروت، إلى عين المريسة والجميزة والصيفي والأشرفية وغيرها.
هذه القابلية للإستيعاب، دفعت بالخليط اللبناني والمختلط، والمتعدد والمتنوع أن يعكس صورته في بيروت، وغدت بيروت صورة عن لبنان، بل واقعاً عن لبنان، بل لبنان هو نفسه في حضوره وشخصه وذاته.
مثل هذه القابلية غير متوافرة في الأطراف، فالأطراف أكثر انطواء على نفسها، والوافد إلى الأطراف يبقى غريباً مهما طال زمنه وأمده، فالمدن أكثر رحابة وانفتاحاً وتسامحاً، وفي لبنان ـ بالمعنى العام ـ مدينة واحدة هي بيروت.
ولذلك، بيروت، اختصرت لبنان بطوائفه ومذاهبه، بأحزابه واتجاهاته، بأطرافه ومناطقه، وبأريافه ومدنه.
بل إن بيروت، اختصرت في لحظة ذروتها الثقافية والإقتصادية والسياسية والجمالية، جميع العرب وجموعهم وأجمعهم، بأنظمتهم وسياساتهم، بحروبهم وانقلاباتهم، بمطابعهم وإعلامهم، وشعرائهم وأغانيهم ومقاهيهم، وقد كان الشاعر الكبير نزار قباني أجرأ العرب بفضيلة الإعتراف بالغيرة من بيروت وإلى حدود نحرها، حين أنشد قصيدته الشهيرة عن بيروت وقال:
يا ست الدنيا يا بيروت
نعترف أمام الله الواحد
إنا كنا منك نغار
وكان جمالك يؤذينا
نعترف الآن
بأنا لم ننصفكِ.. ولم نعذركِ.. ولم نفهمكِ
وأهديناك بدل الوردة سكينا.
ذاك اعتراف الفاضلين، مصحوب مع بكائية مشهودة.
ما يلاحظ منذ حين: شيوع دورات الحياة الطائفية والمذهبية المنفصلة عن بيروت الجامعة، وبروزعصبيات المناطقيات الحادة، وسطوع الخطاب الطائفي وخفوت الخطاب الوطني، وصعود الفيدراليات السلوكية المؤسسة لثقافات متصادمة، وتفشي الإنعزاليات الإقتصادية، تطرح سؤالاً مصيرياً حول مصير العاصمة اللبنانية، وحول إذا ما فتىء بالإمكان الحديث عن بيروتية لبنان وبيروت الجامعة لكل اللبنانيين.
مصير بيروت يعني مصير لبنان ومصير لبنان مرتبط بالإجابة على مصير بيروت.
هل يمكن الحفاظ على ما تبقى من رمزية بيروت؟ هل يمكن صون آخر مساحات الرحابة والإجتماع الوطني العام؟ هل يمكن أن تبقى بيروت متنوعة بأصولها؟ وأهم من كل ذلك: هل يمكن أن تبقى بيروت حاضنة للفروع الذين سرعان ما يتحولون إلى أصول؟
هل تبقى بيروت؟
هل تبقى بيروت ليبقى لبنان؟
سلام لبيروت.