إشهدوا.. سنشهد قريباً نزول الدين إلى الساحة

المشهد اللبناني ينضح بالكذب والتكاذب. يشترك "الشركاء" في تظهير الصورة الحقيقية، للنظام والكيان. بلغت السفاهة، أن بات رجال الدين، يسفرون عن انتماءاتهم السياسية، المعروفة أصلاً، ويتقدمون الصفوف الأولى، في خوض معارك دستورية، حقوقية، قضائية، سيادية، اقتصادية، مالية (وتحديداً مالية)، بألسنة الستة الكبار، المؤتمنين على خراب لبنان الآن، وتخريب لبنان المستقبل.

تهافت رجال الدين السياسيين متداول. كل طائفة لها مرجعيتها الدينية، المذهبية، التي تنطق كفراً، بإملاء واضح. فلا شذوذ على القاعدة ابداً. المرجعيات المذهبية كلها، مدينة، لـ”نبي” الطائفة السياسية. زعماؤنا، انبياء اذكياء، والاتباع مقيدون بسلاسل، لرنينها، سحر الاقناع، لجماهير موهوبة بالامتثال والطاعة.

المشهد الفضائحي، لم يستكمل عناصره بعد. هناك هجوم على محاولة غادة عون، ملاحقة ملف تهريب الاموال. كاد الهيكل السياسي أن يتزلزل. استنفرت العصبيات. سقط الحياء. قيلت الاشياء بوضوح: حاكموا غادة عون وعاقبوها. انها تجرأت على اقوى رجل في لبنان، حاكم المصرف المركزي، صاحب القلعة المحصنة والمغلقة، والقابض على كل شاردة وواردة مالية، اكانت لأهل السياسة وعائلات المال ام لطوائف لبنان.

هكذا، وبكل جرأة وقحة. من دون وخز ضمير ابداً. عادة، يُدان الصامت على الجرم. يسمي شيطانا أخرس. أما ان تبلغ المسألة تأليف جبهة من رجال الدين، وزعماء سياسيين، وقضاة مدنيين، من كل الطوائف، فهذا ما لم يحصل ابداً، لأي زعيم سياسي في لبنان. جرت العادة أن توالي الطوائف والمذاهب زعماءها فقط، وأحيانا مع حلفائهم. هذه المرة، حظي الحاكم الفعلي للبنان المال والسياسة، بشبه اجماع، اضافة إلى احتضان اميركي علني وواضح. انه في الأحضان. عدوا للمئة، قبل أن تصلوا إلى أي تحقيق. لرياض سلامة حصانة، وفي طليعتهم، رجال الدين.

سنشهد قريباً، نزول الدين إلى الساحة. كلهم بحاجة إلى الدين. الدين يفبرك اتباعاً في السياسة. الدين هو حاجة سياسية لكل الطوائف

ليس هذا الوارد اعلاه، هو موضوعنا، مع اننا أسرفنا في القول.

الموضوع: وظيفة المرجعيات الدينية في لبنان. هذا يا ناس، ليس جديداً. انه من عمر تبني الطائفية، التي رسمت خطواتها الأولى، عبقرية فرنسا وبريطانيا، منذ زمن القائمقاميتين.

لبنان، ولد طائفياً، قبل أن يصير دولة. ارهاصاته بدأت بعد احداث العنف الاهلي، بين النصارى والدروز. الحل الذي اقترح: نظام القائمقاميتين، مع توزع “عادل” للطوائف. فشل النظام بعد مذابح. تألفت لجنة دولية برعاية الباب العالي، مؤلفة من فرنسا وبريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا. الثقل لإثنتين: فرنسا منحازة للموارنة وبريطانيا للدروز. اقترحوا انشاء متصرفية، المتصرف فيها مسيحي عثماني، ومجلس الادارة نسخ نظام القائمقاميتين وساوى بين الطوائف: لكل طائفة عضوان فقط. موارنة وأورثوذكس وكاثوليك ودروز وسنة وشيعة.. المندوب الفرنسي لم يرض بهذه القسمة. يريد حصة أكبر للموارنة، وبعد ثلاث سنوات ونزولاً عند الحاح المندوب الفرنسي، أصبح المجلس مؤلفاً من اربعة اعضاء موارنة وثلاثة من الدروز واثنين للأرثوذكس وعضو لكل من الكاثوليك والسنة والشيعة.

النظام الطائفي سابق على الكيان. النظام قسَّم البلاد على النفوس وجعل النصوص تشبهها. القضاء والإدارة والشؤون المالية والامنية والوظائف العامة موزعة حصصاً بين المذاهب. توحد الجبل جغرافيا وتفتت شعبياً. فـ: “شكراً فرنسا”. مؤسسات الحكم رهينة الطوائف والمذاهب والصراعات الدينية. علمانية فرنسا تخصها وحدها. والأهم، أن كل طائفة احتمت بدولة. فلبنان، وقبل أن يوجد، مرتهن لقوى خارجية. علماً، أن الحل، لم يستفتَ فيه اللبنانيون ابداً. اعتمدوا على الزعامات الاقطاعية والمرجعيات المذهبية.

هذا هو لبنانكم أيها اللبنانيون. أنتم اعتلال طائفي، لوطن لا يمكن أن يكون معافى. الطائفية، علة وجود لبنان.

قليل من التفكير: لماذا نحن على ما نحن عليه؟ ولماذا، بعد مئة عام من نشأة الكيان، نعود إلى طلب المعونة من الخارج؟ علماً، أن الخارج مقيم في لبنان وله تأثيره. أكثر بما لا يقاس من كل التيارات السياسية المذهبية. لا أحد اقوى من فرنسا يومذاك. احتلته وانتدبت عليه واستولدته كما ارادت، بالاتفاق مع المرجعية المارونية. من أقوى من اميركا اليوم؟ لا أحد؟ من أقوى من جمال عبد الناصر سابقا؟ لا أحد. من كان اقوى من حافظ الاسد حديثاً؟ لا أحد. من اقوى من إيران راهناً؟ لا أحد. من هو اللبناني القوي؟ ابحثوا عنه جيداً. لن تجدوه، برغم “فائض القوة لدى البعض”.

سنشهد قريباً، نزول الدين إلى الساحة. كلهم بحاجة إلى الدين. الدين يفبرك اتباعاً في السياسة. الدين هو حاجة سياسية لكل الطوائف. هنا، لا بد من سؤال: دلونا على من يخدم الدين الجميل. لا أحد. لكنكم تعرفون جيداً كيف يستخدم الدين في السياسة وتشبيحاتها، نهباً وسلباً وغلبة، ودفاعاً منيعاً عن الظلم والسرقة المكشوفة، بلا شعور بالذنب او العيب.

لبنان لا يحيا الا في حضن الطوائف، ولا يشقى ويتفسَّخ الا في احضانها. أي مواجهة تدفع المتدينين إلى الخصام حتى النفس الاخير. لبنان نموذجاً. العراق ايضاً. سوريا كذلك. السودان ايضاً وايضاً، وهلم جراً

السياسيون في لبنان، ذوو الثقل الطائفي، وضعوا ايديهم على الدين. هم ليسوا بحاجة إلى نصوص. يهمهم فقط أن ينقاد الإنسان بالغريزة التي تولد معه، عندما يسقط من رحم امه.

أي انسان عادي وعاقل، لا بد أن يقول في هذا المقام “حرام. والله حرام. يلزم انقاذ الدين من اتباعه”. الدين في لبنان، استقل عن أصله الروحي. استطاب الاقامة في الابراج العالية، والمجالس الملية. لا تبحثوا عن الروح. لقد هُجِّرت او هاجرت.

إقرأ على موقع 180  ماذا جرى بين أديب و"الخليلين"؟

حقيقة، الانسان وجد قبل الدين بأزمنة. والاديان لازمت الانسان في ما بعد. هناك ديانات انقرضت، وديانات تبدلت، وديانات انقسمت، وديانات تمذهبت، وتسيست وتحاربت. التاريخ الديني لا يشبه أصله ونصه ومنبعه. نصوص الدين مستقلة عن واقعه. عجيب ما ارتكبه رجال الدين، في كل الديانات. كان الدين وسيلة لا غير. فقد عصمته عندما قادته السياسة. وهذا ليس حكراً على دين. فالأديان والسياسة سواسية، أكانت توحيدية، او من عصور ما قبل التوحيد.

لا دين في لبنان إلا بعد أن يتبرأ من السياسة، وهذا مستحيل. لبنان لا يحيا الا في حضن الطوائف، ولا يشقى ويتفسَّخ الا في احضانها. أي مواجهة تدفع المتدينين إلى الخصام حتى النفس الاخير. لبنان نموذجاً. العراق ايضاً. سوريا كذلك. السودان ايضاً وايضاً، وهلم جراً.

للدين قيمة كبرى عندما ينحاز إلى ذاته وقيمه والى الانسان. وهو في الأصل كذلك. للطائفية، رتبة العصابات. تجسيد للعنصرية. الطائفية تُبعد المؤمنين عن الدين وأولوياته الروحية والسامية. الدين يُبنى في الاصل على ركائز روحية ومادية. امر لا يُستهان به. بعد ولادته، يدربونه على الشقاوة والتسلط والنقيض. يصير الدين عندها، ضد الحضارة والتقدم. يصير انتهازياً. ينقلب ذات اليمين وذات اليسار. وهو مع وضد في الوقت نفسه، ويتآخى مع كل اشكال الظلم والفساد والطغيان.  وعندما يلجأ إلى العنف، فالذبح على الهوية عرفناه في لبنان، ثم عرفناه مع الطالبان ومع “القاعدة” ومع “داعش”، ومن قبل عرفناه مع البرابرة الصليبيين. إنه، عندما يصادر، يصير ركيزة اساسية لتبرير الارهاب وتحشيده.

المسيحية، في بداياتها، كانت ضحية الاضطهادات. نمت على دماء الشهداء وتراثهم الروحي، ومحبة ليسوع المسيح. بعد ذلك، اقرأوا ماذا حدث. استقووا فأرهبوا. “الا ارفعوا راية الايمان، فهذا هو الدور الذي اوكلته لكم الألوهة. إن المسيح بجزيل عطفه قد اعد لشعبه على يدكم، نعمة القضاء على الأوثان. صادروا كل ما ترونه. ضموه إلى ملكيتكم فتتعاظم ارباحكم. حرضوا الامراء على معاقبة الاشخاص بشدة وسلموهم للموت، حتى ولو كان اخاك او ابنك او امرأتك التي تنام في حضنها”.

لا بد من نصيحة. “حلُّوا عن رجال الدين في لبنان”. لقد بان الخيط الابيض من الخيط الاسود. لن يتغيروا ابداً. هم كذلك. وهل قرأتم ما يقوله النص الديني بحق هؤلاء. انه يلعنهم

هل هناك أبشع من ذلك؟

بلى! هناك مرجعيات دينية نفطية. شاهدوا محطات التلفزة العربية. إذاً لا بد من تحرير الدين من السياسة ومن الدولة ومن النفط، والا نقع في محظور المصالح. الشيخ محمد شلتوت في مصر، وهو الامام الاكبر في الازهر، أفتى بأن الصلح مع اسرائيل حرام. جيد جداً. في سبعينيات القرن الماضي، افتى الشيخان عبد الحليم محمود ومحمد متولي شعراوي بأن الصلح مع اسرائيل حلال. أين الدين هنا؟ دين هذا ام دين ذاك؟ طبعاً انه ليس دين الكتاب ابدا. لذلك، توغلت السياسة وأوغلت في الثقافة. حتى لبنان أقدم على طرد صادق جلال العظم، وعبد الله القصيمي، بناء على ضغط من المرجعيات المذهبية. في مصر، تجرأوا على طه حسين، وعلي عبد الرازق وعلي ابن عربي (صاحب الفتوحات المكية) وعلى عبد الرحمن الشرقاوي وعلى “اولاد حارتنا” لنجيب محفوظ وعلى لويس عوض.. ولا تزال مصادرة الكتاب حتى اللحظة.

لذا لا بد من تحرير الدين من القابضين عليه. هؤلاء اهل سياسة لا أهل دين.

وإذا عدنا إلى عندنا في لبنان، فلا بد من توجيه اشارات قاسية لكل رجل دين لا يقف مع المظلومين من الشعب اللبناني. وعنوان وقوفهم التخلي عن كل القيادات التي قادت لبنان إلى خرابه.

هذا المقطع الاخير في هذا النص، تافه ولا قيمة له ابداً. فلنعترف. عندنا رجال دين كثر، وليس عندنا دين. يستثنى من ذلك عدد من المؤمنين عن جد، والممارسين عن جد، والطيبين عن جد، والذين يؤلمهم أن يكون الدين الذي يجسدونه في ايمانهم وسلوكهم، هو الصفوة الممتازة، قيماً وأخلاقاً وانسانية. هؤلاء، الصامتون الآن، هم الأولياء والقديسون، عند من يعبدون.. وابواب النعيم امامهم.

أخيراً، لا بد من نصيحة. “حلُّوا عن رجال الدين في لبنان”.

لقد بان الخيط الابيض من الخيط الاسود. لن يتغيروا ابداً. هم كذلك. وهل قرأتم ما يقوله النص الديني بحق هؤلاء. انه يلعنهم.

كفى إذا، حلوا عن رجال الدين. اتركوهم في غيهم. لقد بانوا على حقيقتهم، وبدا العار يكلل هاماتهم “الجليلة”. وهؤلاء، في كل دين يهيمون.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  من غسان إلى نايلة تويني.. من يقتدي بمن؟