على الرغم من تميز حالة نهر النيل ودوله الثلاث الرئيسية، مصر والسودان وإثيوبيا، من حيث درجات نموهم الاقتصادى والزراعى، ومعدلات توليد الكهرباء المتدنية، ومعدلات التنمية الشاملة، إلا أن هناك بعض الحالات الأخرى التى قد توفر دروسا تفيد فى المفاوضات الجارية أو المتوقعة حول مستقبل تشغيل وإدارة سد النهضة الإثيوبى.
تمثل حالة نهر كولورادو، والذى يمر فى ولايات أمريكية هى كولورادو ووايومنج ويوتاه ونيفادا وأريزونا وكاليفورنيا، إضافة إلى دولة المكسيك المجاورة، حالة ناجحة لإدارة وتشغيل واستغلال مياه النهر من خلال بناء سد هوفر العملاق فى ثلاثينيات القرن الماضى، وسلسلة سدود وخزانات أخرى صغيرة بما خدم معها مصالح أكثر من 80 مليون نسمة من سكان الولايات الأمريكية وسكان شمال المكسيك فى الوقت ذاته.
***
يسهم نهر كولورادو، المعروف عنه المرور السريع بأودية ضيقة، فى توفير مصدر مياه حيوى للمناطق الزراعية فى أراضى الصحراء الجنوبية الغربية للولايات المتحدة، ويتم التحكم فى النهر وروافده عن طريق نظام ممتد من السدود والخزانات والبحيرات الصناعية، كما أن السريان الكبير للمياه والميل الشديد لمجرى النهر يستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية.
66% من سكان إثيوبيا يعيشون من دون كهرباء وهى من أعلى النسب فى العالم»، ويتوقع أن يوفر سد النهضة 6.45 جيجاوات من الكهرباء، وهو ما سيوفر الكهرباء لملايين المواطنين الإثيوبيين
وقبل 6 أعوام، دعت الولايات المتحدة لزيارتها مفاوضى أطراف أزمة سد النهضة الثلاثة من وزراء الرى فى مصر وإثيوبيا والسودان. ونظمت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما ورشة عمل لفرق التفاوض عقدتها فى ولاية نيفادا، ونظمت لهم زيارة إلى «سد هوفر» وهو أكبر السدود فى الولايات المتحدة.
وهدفت واشنطن من وراء ذلك إظهار أهمية التعاون من خلال نموذج حى وناجح فى استغلال مياه النهر من قبل عدة أطراف (ولايات) لكل منها مصالح مختلفة لدى الولايات الأخرى، وكذلك إطلاع الأطراف المختلفة، وبصورة مباشرة، على كيفية التعاون بينهم فى مشاركة فوائد النهر من خلال بناء الثقة بين الأطراف، وإظهار الاهتمام الأمريكى بالقضية.
***
لم يكن ممكنا توقع سلوك نهر كولورادو، ففى عام كان يفيض بمياهه ويغرق كل ما جاوره من قرى وتجمعات وأراض زراعية، وفى أعوام أخرى كان يتلاعب بالصخور فى طريقه، مدمرا ما يواجه مساره المتجدد وغير المستقر.
وبالنسبة للمهندسين الأمريكيين، كان الحل واضحا، بناء سد كبير متعدد الأغراض لن يسيطر على الفيضانات فحسب، بل سيسخر النهر لأغراض الرى وتوليد الطاقة الكهرومائية. وأعربت 6 من الولايات السبع الواقعة على مسار النهر (كولورادو ووايومنج ويوتا ونيو مكسيكو وأريزونا ونيفادا) عن مخاوفها من أن ولاية كاليفورنيا ستحصل على حصة الأسد من المياه. لكن سمحت المفاوضات بالاتفاق بين الولايات السبع لتقسيم حصص المياه والكهرباء التى يمكن استهلاكها سنويا.
نتج عن بناء سد هوفر توليد الطاقة الكهربائية الرخيصة، وهو ما سمح للمنطقة بالنمو، وتمددت قرية لاس فيجاس الواقعة على مسافة 30 ميلا من السد، وتحولت لمدينة ضخمة بعد الانتهاء من بناء السد.
ويقع السد فى منطقة أخاديد صخرية ترتفع فى بعض المناطق لأكثر من 500 متر، واضطر المهندسون لترويض الطبيعة وقطع الصخور واستهلاك أكثر من 4.5 مليون متر مكعب من الأسمنت لمقاومة عوامل الطبيعة.
وبسبب شدة الحرارة فى المنطقة، لم يشيد المهندسون مبنى السد كقطعة خرسانية واحدة، بل شيدوا مجموعة من الأعمدة المتجاورة فصلت بينها لفترات قصيرة أنابيب مياه، وتم ربط الأعمدة كجدار واحد صلب مع التخلص من مياه الأنابيب.
على الرغم من التوتر فى علاقات واشنطن بإثيوبيا وفرض عقوبات أمريكية على أديس أبابا بسبب سجلات التطهير العرقى وملفات حقوق الإنسان، تعد إثيوبيا حليفا قويا لواشنطن فى منطقة القرن الأفريقى وشرق أفريقيا
ويُعد سد هوفر عملاقا بكل المعايير، وهو خرسانى على شكل قوس يقع بين أخاديد عملاقة على جانبى نهر كولورادو الذى يفصل بين ولايتى نيفادا وأريزونا، ونتج عن بناء السد العملاق، تكوين أكبر خزان مياه عذبة بالولايات المتحدة، ويعرف باسم بحيرة ميد التى يبلغ طولها 180 كيلومترا وعرضها 162 مترا، أى تغطى مساحة تبلغ حوالى 248 ميلا مربعا، وقادرة على الاحتفاظ بنحو 28.9 مليون فدان من المياه، وتوفر البحيرة مياه الرى والشرب لسكان ولايات أريزونا ونيفادا ومناطق واسعة من ولاية كاليفورنيا، وشمال المكسيك.
***
لم تكن واشنطن بعيدة عن أزمة سد النهضة خلال حكم إدارات الرؤساء السابقين؛ باراك أوباما أو دونالد ترامب. وكانت الحكومة المصرية قد عوّلت على إدارة الرئيس ترامب لثنى إثيوبيا عن التحرك فرديا فى عملية بدء ملء خزانات السد، لكن هذه الجهود المصرية لم تحقق هدفها، ولم تنجح ضغوط القاهرة إلا فى إصدار بيانات رسمية أمريكية متكررة تنادى بضرورة التوصل لاتفاق بين الأطراف المعنية قبل بدء أى عملية لملء خزانات السد، وضرورة التنسيق فيما يتعلق بتشغيله.
وعلى الرغم من التوتر فى علاقات واشنطن بإثيوبيا وفرض عقوبات أمريكية على أديس أبابا بسبب سجلات التطهير العرقى وملفات حقوق الإنسان، تعد إثيوبيا حليفا قويا لواشنطن فى منطقة القرن الأفريقى وشرق أفريقيا لما تلعبه من دور هام «فى مواجهة تنظيم القاعدة والجماعات التابعة له فى منطقة القرن الأفريقى» كما يشير تقرير لخدمة أبحاث الكونجرس.
وتعد الصورة الذهنية لإثيوبيا فى الولايات المتحدة إيجابية طبقا للدراسة التى أشارت إلى أن «آبى أحمد يعد الزعيم الأصغر فى القارة الأفريقية، إذ يبلغ عمره 43 عاما، وتشغل النساء نصف عدد مناصب مجلس وزرائه».
وتعتمد إثيوبيا فى الترويج لموقفها فى واشنطن على البعد الإنسانى الذى تدعمه تقارير رسمية صادرة عن البنك الدولى، والتى تشير إلى حاجة إثيوبيا الماسة للطاقة الكهربائية.
ويقول أحد هذه التقارير إن «66% من سكان إثيوبيا يعيشون من دون كهرباء وهى من أعلى النسب فى العالم»، ويتوقع أن يوفر سد النهضة 6.45 جيجاوات من الكهرباء، وهو ما سيوفر الكهرباء لملايين المواطنين الإثيوبيين.
***
من هنا لا يتخطى الموقف الرسمى الأمريكى التعبير عن تفهم واشنطن لمخاوف دول المصب، والتعبير عن استعدادها لتقديم المساعدة للدول الثلاثة، مع إيمانها بأن هناك فرصة لحل دبلوماسى عن طريق التفاوض المباشر وتحت مظلة الاتحاد الأفريقى.
(*) بالتزامن مع “الشروق“