ولّت الأيام التي كانت فيها طهران عدواً معلناً لحركة طالبان أواخر التسعينيات الماضية. لم تتردد إيران آنذاك في التعبير عن رغبتها في قلب ذلك النظام “التكفيري” حتى لو تطلب الأمر تسهيل بعض العمليات الحربية في إطار الغزو الأميركي الغربي لأفغانستان في 2001.
عشرون عاماً مرت تغيرت خلالها استراتيحيات كثيرة جعلت من إيران عدواً مطلقاً للولايات المتحدة الأميركية. ولا ضير الآن في الاستثمار بـ”النصر” الذي حققته حركة طالبان على أنه هزيمة أميركية كاملة الأوصاف تعزز سرديات المقاومة والممانعة ومناهضة أقوى قوة في العالم.
ففي بيان لوزارة الخارجية الإيرانية، الإثنين الماضي، ورد ترحيب بالانتقال السلمي للسلطة في كابول، ودعوة الى تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم مختلف الأطياف الأفغانية. ووصفت صحيفة “كيهان” المتعلقين بالطائرات الاميركية المغادرة لمطار كابول بـ”العملاء والمجرمين والمشاركين في الارهاب الأميركي”. ويأتي ذلك على خلفية مشهد تعثر عودة العمل بالاتفاق النووي وصعود المتشددين الى السلطة في إيران مع انتخاب ابراهيم رئيسي رئيساً لأربع سنوات.
ومع ذلك يسود الحذر لعدة اسباب أبرزها خشية إيران من تجدد الحرب الأهلية الأفغانية، فيسود اضطراب على حدود مشتركة طولها 921 كلم وتصل إلى 2000 كلم إذا اضيفت إليها الحدود الإيرانية مع باكستان المنخرطة هي الأخرى في المسألة الأفغانية حتى أذنيها. وأي حرب أهلية ستكون سلبية للغاية في ظروف تهجير جماعي وخطر كورونا والأزمة الاقتصادية التي تعانيها ايران.
في المقابل، يوجد في ربوع ايران حالياً نحو 3 ملايين لاجئ افغاني سيصعب التصرف معهم لأن معظمهم ضد طالبان ولا يرغبون في التقارب مع الحركة على حسابهم. إضافة إلى قضية الاقلية الشيعية في افغانستان (الهزارة) وكيف ستتصرف حركة طالبان معها هذه المرة بعدما كانت اضطهدتها ومارست ضدها أقسى انواع التمييز في السابق. وفي التعقيدات أيضاً مصير أفغانيين شاركوا ويشاركون في الحرب السورية (لواء فاطميون).
في الأثناء، لم يتضح بعد موقف طالبان من “القاعدة” و”داعش” مع خوف من عودة افغانستان موئلاً للإرهاب والحركات المتطرفة كما كانت قبل 20 سنة، فتجد طهران نفسها مجدداً أمام مشهد يشبه المشهد السوري، والحذر عينه ينطبق على روسيا.
أما اذا تطورت الأمور ايجاباً، فاي طريق سيسلك التعاون السني الشيعي؟ وهل يمكن تكرار تجربة دعم حركة حماس مثلاً؟ وما الدور الاضافي الذي يمكن لقطر أن تلعبه على هذا الصعيد؟ وماذا سيكون موقف الدول الخليجية الأخرى التي باتت معادية للإسلام السياسي عموماً وتحاول محاربته في كل مكان؟
يذهب محللون ايرانيون قريبون من النظام أبعد من ذلك في امكانيات التأثير في طالبان، لجهة ضرورة تعليم الحركة كيف تغيّر صورتها وكيف تتعلم من الايرانيين تنشئة وتهيئة طواقم وكوادر باللباس الغربي يتحدثون الانكليزية ويمارسون الدبلوماسية الدولية ويضحكون كما يضحك محمد جواد ظريف
إذاً في طهران، لا تسير الأمور باليسر المفترض مع التطور النوعي الجديد على الحدود وفي بلد موقعه استراتيجي في قلب آسيا الوسطى وجنوب آسيا. البعض في ايران لا يسلم جدلاً بأن حركة طالبان اليوم غيرها قبل 20 سنة. وانتقد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد في فيديو تم تداوله قبل أيام قليلة الطريقة التي تسعى السلطات فيها لتبييض صفحة طالبان. وقال متوجهاً الى المرجعيات المرحبة بالتطور الأفغاني: “ما علاقتكم مع طالبان، ولماذا تزعجكم ملاحظاتنا.. ولماذا اسكت أنا عندما أرى بلدي مهدداً”؟
ولا تغيب عن أذهان معظم الرأي العام الإيراني الأحداث الماضية وأبرزها قتل 10 دبلوماسيين ايرانيين في مزار شريف في 1998، ولا الاضطهاد التطهيري الذي تعرض له الهزارة الشيعة ولا شيء يوحي حتى الآن بالتسامح النهائي مع هذه الأقلية في افغانستان. فحركة طالبان أرسلت اشارات متناقضة في الأيام القليلة الماضية. إذ مقابل التسامح في احياء عاشوراء هدمت تمثالاً عزيزاً على قلوب الشيعة الأفغان ووضعت اشارات غريبة على بيوت عدد منهم في العاصمة كابول.
وفيما تسعى السلطات الإيرانية الى التطبيع بواقعية، لم تتردد حركة طالبان في محاولة إغراء طهران بطلب استئناف تصدير المحروقات الإيرانية الى افغانستان وطلب تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين مع خفض للجمارك. وحظيت السفارة الايرانية في كابول بمعاملة خاصة سمحت باستمرارعملها كالمعتاد.
وللتذكير، كان للمواقف الايرانية الجديدة تمهيد على مدى سنوات تردد خلالها انه كان للجنرال الراحل قاسم سليماني بصمة أولى فيه منذ العام 2015. ثم جاء تحسن العلاقات مع قطر خلال الحصار الذي تعرضت له الدوحة من السعودية والامارات والبحرين ومصر فحصل تواصل بين الايرانيين وممثلي المكتب السياسي لحركة طالبان في العاصمة القطرية. وفي كانون الأول/ديسمبر 2020، كان لافتاً للإنتباه تصريح للنائب عن طهران أحمد نادري وصف فيه طالبان بـ”حركة نبيلة تضم جنوداً لله يمارسون الجهاد المقدس ضد الغزاة الأجانب”. وفي كانون الثاني/يناير الماضي، زار طهران الملا عبد الغني برادر رئيس المكتب السياسي للحركة والتقى وزير الخارجية محمد جواد ظريف برغم تظاهر لاجئين أفغان ضد اللقاء. كما استقبلت طهران لقاءات تفاوض بين الحركة والحكومة الأفغانية في تموز/يوليو الماضي.
تغيرت النظرة تدريجياً من وصف الحركات الاسلامية الافغانية بأنها “من صنع اميركي” الى حركة تريد “اقامة حكم اسلامي مشروع انسجاماً مع ما كتبه الأب الروحي والثوري لحركة الاخوان المسلمين سيد قطب وتأثرت به الثورة الخمينية نفسها”، وفقاً لمحللين إيرانيين. وفي الفترة الماضية ظهر في الصحف الإيرانية وصف قتلى طالبان بـ”الشهداء” حتى لو اتهمت الحركة بجرائم ضد مدارس واطفال ومدنيين وأبرياء. وسرى تعميم غير معلن طلب من الصحف عدم استخدام تعابير توصف أعمال طالبان بـ”الوحشية” و”الفظيعة” و”الارهابية” وعدم استخدام كلمة “مجازر” وما إلى ذلك من أوصاف قد تغضب الحليف الجديد المحتمل.
ويذهب محللون ايرانيون قريبون من النظام أبعد من ذلك في امكانيات التأثير في طالبان، لجهة ضرورة تعليم الحركة كيف تغيّر صورتها وكيف تتعلم من الايرانيين تنشئة وتهيئة طواقم وكوادر باللباس الغربي يتحدثون الانكليزية ويمارسون الدبلوماسية الدولية ويضحكون كما يضحك محمد جواد ظريف.. الى جانب رجال الدين الممسكين بالسلطة. ونصحهم بعدم القتل أمام الكاميرات بل اجراء محاكمات شرعية اسلامية تؤدي الى اعدامات، وعدم جلد النساء بل سجنهم، والتعاطي مع المعارضين الخطرين المهددين للنظام بطرق التصفية الغامضة والاغتيال غير المفضوح.
بالنسبة لاصحاب القرار في طهران تعويل في مكان ما على أن طالبان اليوم لا تشبه نفسها قبل 20 سنة. فالاشخاص تغيروا والظروف أيضا، ورهان على ان قيادة الحركة تعلمت من هزيمتها امام الغزو الاميركي في 2001 ومن الشيطنة العالمية لحركتها. لا يبقى الآن الا شطب اسم طالبان من قوائم ايرانية تضم ما تعتبره طهران ارهاباً.. قوائم تضم اميركيين أيضاَ لسخرية القدر!