مُصور إسرائيلي يقلق “الشين بيت”.. و”سادة التعتيم والخداع” (52)

يروي الكاتب رونين بيرغمان في هذا الفصل من كتابه "انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية" كيف قاد رئيس جهاز "الشين بيت" ابراهام شالوم (بن دور) عملية تزوير منظمة لتزوير للتحقيقات في جريمة قتل متعمد نفذها "الشين بيت" ضد بطلي عملية "الباص 300" (أو عملية عسقلان) مجدي وصبحي ابو جمعة في 12 نيسان/أبريل 1984.

حسب رواية رونين بيرغمان، كان جهاز “الشين بيت” يواجه صعوبة في التعامل مع اعمال “الإرهاب” ضد قوات الجيش “الإسرائيلي” في لبنان في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حيث لم يكن الجهاز يخضع لاية قوانين ما جعله يطبق اقصى الممارسات وحشية، وينقل الكاتب عن شيمون روماه الذي كان يرأس عمليات “الشين بيت” في لبنان قوله “لقد تركت اللبننة تأثيرها العميق على الشين بيت، فمع غياب المدنيين والصحافيين الذين يتحركون حولنا كان شعور الحرية في العمل من دون تسرب الامر الى وسائل الاعلام رائعا وله تأثيره”!

وينقل بيرغمان عن الضابط الرفيع في الجهاز يوسي جينوسار قوله “ان حرية الحركة تركت تأثيرها على ابراهام شالوم.. كان يعرف بانه يستطيع النجاة بما يفعله في لبنان حيث كانت له نشاطات هناك. كان يعطي تعليماته للعمل وهو يعرف النتيجة اما في إسرائيل فالواقع بات مختلفاً”. يتابع بيرغمان، انه في الوقت الذي حصلت فيه عملية عسقلان كانت قد مرت على شالوم أربع سنوات في إدارة الجهاز وهو يفلت من العقاب. ولكن لسوء حظ شالوم ان احد الأشخاص ركض نحو الحافلة عندما بدأ فريق الإنقاذ تنفيذ مهمته وكان يقف تماما قرب الحافلة عندما انتهت العملية ولم يكن هذا الشخص سوى المصور الصحفي “الإسرائيلي” اليكس ليفاك. وفي خضم الفوضى المرافقة، كان ليفاك يصوّر كل ما يدور حوله، وقد رأى حينها رجلين قويي البنية يقتادان شابا قصير القامة واسود الشعر بعيدا، وفي البداية لم ير ان ايدي الشاب كانت مكبلة، وينقل بيرغمان عن ليفاك قوله للجنة تحقيق في العملية “عندما صوّرت تلك الصورة لم اكن اعرف من هو ذاك الشاب، في البداية، اعتقدت انه احد ركاب الحافلة الناجين من العملية وعندما هاجمني احد المرافقين لهذا الشاب بغضب اعتقدت انه يعترض لان من يجري تصويره هو احد العملاء السريين”. الحقيقة، يقول بيرغمان، ان هذا الشاب المُقيد كان مجدي أبو جمعة برفقة اثنين من عملاء فريق “العصافير” للاغتيال (مجدي أبو جمعة وابن عمه قتلا عمدا وبسرعة قياسية بالحجارة وقضبان الحديد على ايدي عملاء “العصافير” في حقل قريب من مكان انتهاء عملية عسقلان أو “الباص 300”).

وينقل بيرغمان عن احد هؤلاء العملاء السريين قوله امام لجنة التحقيق “سحبناه (مجدي أبو جمعة) ولكن بعد بضعة امتار لمع ضوء فصرخ المرافقون احضروا الفيلم”. لم يكن أليكس ليفاك قد استوعب ما يحصل لكنه عرف ان امرا مهما حصل بسبب الصورة الأخيرة التي التقطها. إستغل الوقت القصير الذي إحتاجه عملاء “العصافير” للوصول اليه، فأخفى الفيلم في جواربه بينما اعطاهم فيلما اخر. بعدها اعلن الجيش “الإسرائيلي” ان كل “الإرهابيين الذين نفذوا العملية قد قتلوا خلال الهجوم الذي نفذه الجنود فجر اليوم بعد عشر ساعات من حجز الحافلة على الطريق السريع”. غير ان المحررين في مجلة “هادشوت” التي يعمل فيها ليفاك عرفوا ان بين أيديهم سبقا صحافيا كبيرا فارادوا ان ينشروا الصورة لكن الرقابة العسكرية “الإسرائيلية” منعتهم فقام “احد ما” في الصحيفة بتسريب الصورة الى صحف أجنبية بينها “شتيرن” الألمانية و”نيويورك تايمز” الأمريكية، فقامت مجلة “هادشوت” بمخالفة الرقابة العسكرية ونشرت القصة نقلا عن الصحيفة الامريكية الى جانب الصورة التي إلتقطها المصور أليكس ليفاك. لاحقاً، تعرّف أقرباء مجدي أبو جمعة وانسباؤه في قطاع غزة على صورته المنشورة والتي لم تظهر عليه وجود اية جروح كما كانت عيناه مفتوحتين وأظهرت الصورة وقوفه بمفرده من دون اتكاء او مساعدة.

لمع ضوء فصرخ المرافقون احضروا الفيلم”. لم يكن أليكس ليفاك قد استوعب ما يحصل لكنه عرف ان امرا مهما حصل بسبب الصورة الأخيرة التي التقطها. إستغل الوقت القصير الذي إحتاجه عملاء “العصافير” للوصول اليه، فأخفى الفيلم في جواربه بينما اعطاهم فيلما اخر

أدى نشر الصورة بعد بيان الجيش “الإسرائيلي” الذي اعلن فيه مقتل كل الإرهابيين خلال عملية تحرير الرهائن إلى إحداث موجة من الغضب العارم لدى الرأي العام وقد تصادف ذلك مع ثقة مفقودة بالسلطات الإسرائيلية بسبب طريقة إدارتها للحرب ضد لبنان، ما أدى الى شن الصحافة الليبرالية حملة ضد الحكومة “الإسرائيلية”. رفض كل من إبراهام شالوم ورئيس الحكومة حينها اسحق شامير تشكيل لجنة تحقيق في القضية لكن رفضهما لم يغير في الامر شيئاً، فقد امر وزير الدفاع موشيه ارينز بتشكيل لجنة تحقيق ولاحقا تشكلت لجنة تحقيق باشراف وزارة العدل.

إبراهام شالوم إلى اليمين ومجدي أبوجمعة إلى اليسار كما أظهرته كاميرا أليكس ليفاك

يضيف بيرغمان انه في 28 ابريل/نيسان، أي بعد يومين من الإعلان عن انشاء اول لجنة تحقيق، امر ابراهام شالوم عشرة من المساعدين – كل أعضاء فريق “العصافير” الذين شاركوا في عملية قتل أبناء العم أبو جمعة – وكل المستشارين القانونيين لجهاز “الشين بيت” بالإضافة الى كبار المسؤولين في الجهاز، ومن ضمنهم يوسي جينوسار للاجتماع في بستان برتقال بالقرب من نتانيا شمال تل ابيب. لقد اختار منطقة معزولة تماما حيث لا يستطيع احد ان يراهم وبعيدا عن مقر “الشين بيت” الذي كان يعج بأجهزة التنصت. في تلك الليلة وتحت الاضواء الخافتة لنجوم السماء، اقسم شالوم ورجاله اليمين امام بعضهم البعض بان لا يكشفوا حقيقة ما حصل وان يفعلوا كل ما يمكن لتغطية الامر لانهم ان لم يفعلوا ذلك، بحسب شالوم، “فان ضررا بالغا سيلحق بامن الدولة وستكشف كل اسرار الشين بيت”.

لقد كان هؤلاء يعلمون جيدا انه اذا ما كشفت لجنة التحقيق حقيقة ما حدث فانهم سيتعرضون للمحاكمة بتهمة ممارسة التعذيب ويمكن أيضا بتهمة القتل المتعمد، وينقل بيرغمان عن روفين هازاك نائب شالوم قوله “ببساطة لقد اقسم هؤلاء لبعضهم البعض بان لا يخرج ما يعرفوه الى العلن وأن لا يخرج هذا القسم الى العلن”. يتابع هازاك القول انه في بستان البرتقال ذاك وفي اجتماعات لاحقة في منازل المشاركين في العملية، ومن ضمنهم هو، جرى اعداد خطة وصفت على انها “حملة مسبقة ضد المؤسسات القانونية وضد الدولة”. تقوم الخطة على عاملين أساسيين متداخلين، الأول هو ان شالوم يقترح على ارينز وشامير ان تضم لجنة التحقيق ممثلاً عنه بحيث ان جهاز “الشين بيت” يكون ممثلا وان اسرار الجهاز لن تكشف. وقد قبل هذا الاقتراح البريء شكلاً وسُمي يوسي جينوسار ليمثل وزارة الدفاع في لجنة التحقيق، وفي الحقيقة كان وجود جينوسار في اللجنة نوعاً من حصان طروادة لصالح شالوم كونه كان احد الذين اقسموا اليمين في بستان البرتقال، وهو كان شخصياً يشعر بانه مستهدف بمجرد وجود اللجنة اذ ينقل عنه بيرغمان قوله “ماذا حصل؟ قتل ارهابيان بعد ان خطفا حافلة ركاب بهدف قتل ركابها، من اجل ذلك تقيمون الدنيا ولا تقعدونها؟ أي هرطقة هذه! لسنوات ونحن ننظف مجارير إسرائيل (يعني محاربة المنظمات الفلسطينية امنيا) والكل يعرف كيف جرى تنظيف هذه المجارير، وانا لم يكن لدي يوما وليس لدي الان اي مشكلة أخلاقية مع قتل الإرهابيين”.

إقرأ على موقع 180  كتاب بيرغمن عن إغتيالات "الموساد": تغيير مجرى التاريخ (2)

كانت مشكلة يوسي جينوسار، كما يقول بيرغمان، “مع الحقائق على الأرض. فقد كان هناك الكثير من اللاعبين من خارج جهاز الشين بيت”، لذلك كان الحل عنده “ان الحكم الأقصى لعملية فاشلة هو ان نمحو اثار الدولة الإسرائيلية وبصماتها عليها بعدم اخبار الحقيقة وهكذا تحل المشكلة”، على حد تعبير جينوسار.

ينقل بيرغمان عن كوبي قوله انه خلال ثلاثين سنة من عمله مع “الشين بيت” واجه الكثير من التهديدات لحياته لكنه لم يشعر يوما بالخوف على حياته كالذي شعر به في تلك اللحظة، قائلا “كنت خائفا الا أتمكن من الخروج من هناك حيا”

كانت لجنة التحقيق تجتمع خلال النهار في احدى غرف وزارة الدفاع حيث تستمع الى شهود وجنود وعملاء “الشين بيت “وإلى مدنيين ورهائن إضافة الى المصور اليكس ليفاك، وفي الليل كان يتسلل جينوسار للقاء شالوم والحلقة الضيقة معه في منزل المستشار القانوني ليخبرهم بتفاصيل ما حصل في النهار ويساعدهم في اعداد الشهود لليوم الذي يلي. وهذا يقود الى العامل الثاني في خطة شالوم لمواجهة لجنة التحقيق، فقد امر شالوم بان يتم تقديم جنود “إسرائيليين” أبرياء بصفة متهمين بعملية القتل من اجل الشهادة امام اللجنة.

وبالتنسيق بين جينوسار والمستشار القانوني وعناصر من فريق “العصافير”، قدم شالوم خطة معقدة لحرف الاتهامات التي طالته و”الشين بيت” بإتجاه رجال لمسوا الفلسطينيين أولا وهؤلاء هم جنود في الجيش “الإسرائيلي” كانوا تحت امرة العميد إسحاق موردخاي.

الشهادة الأكثر أهمية امام هذه اللجنة كانت شهادة قائد وحدة “العصافير” ايهود ياتوم وقد قام شالوم وجينوسار واخرون بتدريب ياتوم مرارا وتكرارا حول ما يجب ان يقوله في شهادته، ومما قاله ياتوم في شهادته “وصلت انا ورئيس الشين بيت الى مسرح العملية  فوجدنا مجموعات من الناس بعيدين عن بعضهم البعض حوالي عشرة امتار وكان في كل مجموعة ما بين عشرين الى ثلاثين شخصا، وعندما شققت طريقي بينهم رأيت مجموعة من الناس ذكرتني اليوم بوصف مجموعة من الفلاحين عندما هاجموا احد طيارينا بعد اسقاط طائرته في الأجواء السورية. كانوا يفعلون كل ما يخطر على بال من ركل وضرب بالأيدي والارجل. عندما رأيت الإرهابي (أبو جمعة)، وكنت مأخوذا باجواء الغضب العارمة لدى الناس.. صفعته فقط”. أضاف انه رأى بين الحشود بعض رجال “الشين بيت” لكنه رأى أيضا العميد إسحاق موردخاي يضرب احد “الإرهابيين” بعقب مسدسه. واخبر ياتوم اللجنة انه عندما تسلم “الإرهابيين” كانوا في حالة سيئة للغاية فاخذهم الى المستشفى حيث أعلنت وفاتهم نتيجة جروحهم. تأثر جدا رئيس اللجنة العميد المتقاعد مائير زوريا بامانة رواية ياتوم لانه كان الشاهد الوحيد الذي اعترف، وحتى انه اعرب عن اسفه، لصفعه “الإرهابي”. وبطبيعة الحال كان هذا الاعتراف هدفه تغطية سر اكبر بكثير.

ويواصل الكاتب انه عندما سألت اللجنة احد ضباط “الشين بيت” عن الشخص الذي رآه يضرب المعتقلين أجاب في شهادته بعد وصفه المشهد بعملية اعدام ميدانية بلا محاكمة “انه امر معقد ومن الصعب التذكر ولكن الشخص الوحيد الذي استطيع ان اميزه كان إسحاق موردخاي فقد كانت أصوات لكماته تصل الى السماء”، وقال شاهد اخر من “الشين بيت” انه لم يستطع ان يميز من الحشود سوى “إسحاق موردخاي الذي كان يضربهم على رؤوسهم بلكمات قوية جدا” ليتواصل بعدها استعراض الشهود الذين ادلوا بالرواية نفسها.

وينقل الكاتب بيرغمان عن المحقق كوبي قوله “اتاني جينوسار ليتأكد انني سأشهد اني رأيت موردخاي يضربهم حتى الموت، فقلت له لكني لم ار ذلك فتابع سائلاً عن وجهة نظري فيما اذا كان ابراهام شالوم حاضرا ام لا عندما كان يتعرض الارهابيون للضرب فقلت له اجل كان موجودا وفي الحقيقة كان هو اول من وجه الضربة الأولى عندها قال لي ان كانت هذه وجهة نظرك من الأفضل ان نقول انك لم تكن هناك أساسا”. ويتابع كوبي “بعد ذلك أرسلت في مهمة عمل دائمة الى إيطاليا فعرفت حينها انهم أرادوا ان أكون ابعد ما يمكن عن لجنة التحقيق”.

ويضيف الكاتب ان لجنة التحقيق في وزارة العدل أصرت على التحقيق مع كوبي فجرى احضاره الى “إسرائيل” سراً حيث عقد اجتماعا عاصفا مع شالوم بعد ان اخبره انه لن يدعم روايته للأحداث فصرخ شالوم بوجهه “انها خيانة”، وينقل بيرغمان عن كوبي قوله انه خلال ثلاثين سنة من عمله مع “الشين بيت” واجه الكثير من التهديدات لحياته لكنه لم يشعر يوما بالخوف على حياته كالذي شعر به في تلك اللحظة، قائلا “كنت خائفا الا أتمكن من الخروج من هناك حيا” لكنه خرج حيا ولكن مشاعره كانت مؤشرا على عمق الهوة التي دخل فيها جهاز “الشين بيت”، وفي النهاية توصل كوبي الى تسوية مع شالوم وجينوسار والمستشار القانوني تقدم كوبي بموجبها بشهادة كاذبة تفيد انه كان مشغولا بالتحقيق فلم يشاهد من كان يضرب “الإرهابيين”.

وقد أدت شهادات شهود آخرين من مجموعة “سادة التعتيم والخداع” (شالوم وجماعته) والتي تم التدرب عليها لساعات وجرت مقاطعة المعلومات بينها بدقة لثلاث عشرة رواية منظمة بدقة الى ترك انطباع عميق عند لجنة التحقيق!

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  فرزلي يتذكر: هكذا تعرفت على غازي كنعان.. وهذه "إخبارية" الإسرائيلي