في هذا الفيديو، صرح بنكيران أنه لم يكن راغباً في الإدلاء بدلوه في سياق الحملة الانتخابية، إلا أنه اضطر لذلك بعدما رأى وسمع.
كانت “خرجة” بنكيران غير مدروسة، وأشد ارتجالا من “خرجاته” المعهودة، التي كان يقذف بها بعشوائية وكيفما اتفق، فتدخل أحيانا الشباك وتحقق الهدف، بلغة كرة القدم. هذه المرة طارت ركلة بنكيران في السماء وهو يسددها نحو شباك شبه فارغة، ما أثار غضب الصحافيين والنساء، خاصة منهن “النكافات” (الكاف جيم مصرية) اللواتي يلجأن لإعالة أسرهن بالعمل في الأعراس وحفلات الزفاف. أكثر من ذلك، أثار بنكيران حنق وغضب الدولة العميقة المتحكمة في المغرب، إذ بدا أن “خرجته” لم تكن موجهة بالأساس إلى الناخبين والرأي العام، بقدر ما شكلت تهديداً مبطناً وظاهراً للسلطات العليا، إذ حذر الدولة من الثورة والانقلاب عليها، وأعاد ترداد الكلام الذي أصبح مألوفاً صدوره عنه، أي أن لحزبه الإسلامي فضله الكبير على استقرار المملكة، ما جنّبها الوقوع في مثل ما جرى في تونس وليبيا ومصر وسوريا.
وسمى بنكيران مرات خصمه الأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار السيد عزيز أخنوش، منقصاً من كفاءته وقدرته على ترؤس الحكومة لفقدانه للكاريزما المطلوبة، متناسيا أن محازبه سعد العثماني كان أبهت رئيس حكومة عرفه تاريخ المغرب على الإطلاق، العثماني الطبيب النفسي الذي فوجئ بوضعه في منصبه بعد “البلوكاج”، والذي سيصرح أنه بعد أن وجد نفسه على رأس الحكومة فالأمر بسيط للغاية، وباستطاعة أي كان الوصول إلى المنصب ذاته.
ونسي عبد الإله بنكيران الورود التي كان يلقيها بحفاوة على عزيز أخنوش، وقد تمت إعادة بثها في مواقع التواصل الاجتماعي، بالمناسبة.
كما شتم بنكيران في الفيديو ذاته الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وإن لم يسمه، لكنه اكتفى بوصفه بـ”البلطجي السياسي”.
لم يكن بنكيران يعلم ساعتها وهو جالس في صالون بيته بحي الليمون بالعاصمة، وهو يلبس “فوقيته” الفضفاضة جالسا على كنبة وثيرة، أنه يحسب بحبات السبحة التي بيده عدد الأيام والساعات المتبقية من عمر مرور حزبه في الحكومة، ذلكم المرور الذي طال، عكس التوقعات، فدام عشر سنوات كاملة شملت ولايتين انتخابيتين (2012 إلى 2021).
يبقى حزب المقاطعين هو أكبر الأحزاب في المغرب، حزب أدخل الرعب في جميع التشكيلات الحزبية والدولة، وكان واضحا في مداخلات جميع القادة الحزبيين حثهم الناخبين على الاستجابة والتوجه إلى صناديق الاقتراع يوم الثامن من أيلول/سبتمبر
كما أن سعد الدين العثماني الأمين العام الحالي لـ”البيجيدي” ورئيس الحكومة، لم يصدق وهو يطرد من الشارع الذي نزل إليه لتزعم الحملة الانتخابية وحث الناس على الوفاء لرمز “المصباح”، واعتقد أن صيحات “ارحل” التي أطلقت في وجهه، هي مجرد لعب “بلاطجة” أخذوا مقابلا من خصومه الحزبيين لأداء الدور، برغم أنه لم يفلت من أيدي “الغوغاء” إلا بفضل القوات الأمنية. كذلك الشأن جرى بالنسبة لقياديين آخرين من العدالة والتنمية، بعضهم طردوا بالحجارة في دوائر قروية، كما تشهد على ذلك فيديوهات وثقتها مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها “اليوتيوب”.
وقائع هزيمة معلنة
كانت هزيمة معلنة قبل حدوثها. الكل كان بانتظار تلقي الخبر بسقوط حزب الإسلاميين المعتدلين، لكن لا أحد كان يتوقع أن يكون سقوطا مدويا تردد صداه عبر الأرجاء، وهزيمة بهذا الشكل المذل، الذي دفع الخصوم إلى المغالاة في التشفي والشتيمة، ومنهم من هنأ “البيجيدي” كونه “الحزب الوحيد الفائز بالهزيمة”.
وبدل كلمة “صباح الخير” تبادل المهنئون عبارات: “مصباح” الماء و”الشطابة” (المكنسة) للمهربين الدينيين. لقد ضاق الناس بإسلاميين اكتشفوا أنهم مجرد مرتزقة يستعملون الدين لقضاء مآربهم الخاصة، وأن الناخبين لما منحوهم أصواتهم وثقوا في كلامهم المعسول ووعودهم بمحاربة الفساد، فإذا بكبيرهم عبد الإله بنكيران في بداية تعيينه على رأس الحكومة، يطلع من قناة “الجزيرة” القطرية ليجيب أحمد منصور على سؤال محاربة الفساد بالقول: “عفا الله عما سلف”، وكان بنكيران بجملته تلك يمهد لتبرئة الفساد الذي سيقوم به ويرعاه مع أعضاء حزبه.
المنهزم الوحيد وحزب المقاطعين
فعلا، ظهر حزب “البيجيدي” هو الحزب الوحيد الذي مني بالهزيمة، كونها كانت ثقيلة وخارج التوقعات بهذا الثقل، إذ كان من يقول بإبقائهم كمشاركين في الحكومة. هزيمة أنست المتابعين في هزيمة بقية التشكيلات السياسية، وعلى رأسها أحزاب اليسار التي دخلت الانتخابات متفرقة، بخلاف الانتخابات السابقة التي خاضتها موحدة بمرشح مشترك ضمن تحالف فيدرالية اليسار الديموقراطي. مع ذلك وكما كان منتظرا حققت نبيلة منيب الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد فوزها بمقعد في البرلمان، وستعوض ديناميتها ومداخلاتها ما قام به عمر بلافريج برلماني الحزب في الدورة المنتهية.
ويبقى حزب المقاطعين هو أكبر الأحزاب في المغرب، حزب أدخل الرعب في جميع التشكيلات الحزبية والدولة، وكان واضحا في مداخلات جميع القادة الحزبيين حثهم الناخبين على الاستجابة والتوجه إلى صناديق الاقتراع يوم الثامن من أيلول/سبتمبر، وكانت الجملة المشتركة وكلمة السر بينهم جميعا هي: “صوتوا على من شئتم واخترتم أنه يستحق، المهم هو مشاركتكم”.
لم تكن المشاركة تتجاوز حتى ما بعد ظهيرة يوم الاقتراع نسبة 12%، إلا أنه قبيل ساعة الإغلاق ارتفعت النسبة إلى ما يزيد عن 50%، وفي الأقاليم الصحراوية إلى ما يفوق 60%، وهي نسبة كانت السلطات دائما تحرص على أن تكون عالية نظرا لحساسية النزاع حول الإقليم.
برغم اجتهاد العدالة والتنمية في الظهور في خدمة المخزن وطاعته، والإفصاح المبين عن كونهم “ملكيين أكثر من الملك”، إلا أن ذلك لم يجدهم نفعا. فكيف تتوسل حب من لا يحبك ويحذر منك؟
آخر الهزائم للإسلاميين
بعد عقد كامل مما يسمى “الربيع العربي”، تعود عقارب الساعة إلى الوراء. تتراجع أحزاب كانت السلطة وراء نشأتها وتشكيلها، إذ كما هو معلوم أوكل الحسن الثاني في مستهل التسعينيات الماضية إلى الراحل الدكتور عبد الكريم الخطيب محاورة الإسلاميين المعتدلين وتجميعهم داخل حزبه الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية، بعد أن كان فريق منهم توجه لمخاطبة حزب الاستقلال، وهو ما حدث. وسيتم الكشف علن أن زعيم “البيجيدي” كان مخبرا لدى الأجهزة، كما صرح للصحافة بذلك الكوميسير العميد محمد الخلطي الذي كان رابط الوصل بين بنكيران والمخابرات المغربية، وأكد الخلطي في عدد من تصريحاته للإعلام أن بن كيران هو من إبرز من ساعدوه على فك شيفرة التنظيمات الاسلامية السرية، وساعده على تفكيك شبكاتها والتخلص من خطرها”.
إلا أن الملك محمد السادس، وفق وثائق مسربة قبل أعوام من “ويكيليكس”، لا يطمئن للإسلاميين، ولا يرى بينهم صقورا وحمائم، فكلهم لديه وجه واحد لنفس العملة.
وبرغم اجتهاد العدالة والتنمية في الظهور في خدمة المخزن وطاعته، والإفصاح المبين عن كونهم “ملكيين أكثر من الملك”، إلا أن ذلك لم يجدهم نفعا. فكيف تتوسل حب من لا يحبك ويحذر منك؟
ممكن، إذا كنت تمقت نفسك وذليلا بلا كرامة، ولا يهمك سوى الكرسي والمنصب وجمع المال.
هزيمة العدالة والتنمية في المغرب، تشكل نكسة كبرى للإسلام السياسي في الوطن العربي، بل إنها تمثل “آخر الهزائم للإسلاميين في المنطقة”، كما أوردت صحيفة “نيويورك تايمز” تعليقاً على الحدث المغربي.