يدخل بايدن الاجتماع مُثقلاً بحربين في وقت واحد. عبئان ملقيان على كاهل أميركا في كل من أوروبا والشرق الأوسط، فكيف سيؤثر ذلك على التنافس الاستراتيجي الذي تخوضه مع ثاني قوة إقتصادية في العالم وعلى المصالح الأميركية في منطقة المحيطين الهادىء وآسيا؟
هذا الهاجس، لا يُفارق بايدن الذي جذبته مجدداً دوامة الشرق الأوسط، من غير أن يحتسب. وتلافياً للأضرار، وسريعاً، انتقل وزير الخارجية أنطوني بلينكن المنهك من اجتماعات ماراتونية في اسرائيل ودول عربية وتركيا، إلى اليابان وكوريا والجنوبية والهند، كي يُطمئن شركاء أميركا الأساسيين في آسيا، بأن لا شيء تغير بالنسبة إلى التزامات واشنطن في المنطقة، لا سياسياً ولا عسكرياً. وزيادة في التطمين، رافق وزير الدفاع لويد أوستن بلينكن في جولته.
لا تُقلّل التطمينات الأميركية، من رعب الشركاء الآسيويين من جراء حرب غزة وما يمكن أن يتمخض عنها من توازنات إقليمية ودولية، لا تقل عن تلك، التي ستتمخض عنها الحرب في أوكرانيا.
السؤال المشترك الذي يطرحه الحلفاء في آسيا الآن، هل فعلاً أميركا قادرة على خوض حربين والمضي قدماً في المواجهة الكبرى مع الصين؟ النائب الياباني والمستشار السابق في الأمن القومي أكيهيسا ناغاشيما قال خلال منتدى استراتيجي في سيدني بأوستراليا الأسبوع الماضي: “أكثر ما يُقلقنا هو تحويل المقدرات العسكرية الأميركية من شرق آسيا إلى الشرق الأوسط. إننا نأمل في أن ينتهي هذا النزاع في أسرع وقت ممكن”.
الآن، غيّرت حرب غزة الخطط الأميركية ودفعتها إلى الانخراط في مساعدة إسرائيل عسكرياً وعلى حشد قواتها في المنطقة، في “رسالة ردع” لمنع توسع الحرب وشمولها جبهات أخرى. والعين هنا على إيران وحزب الله وباقي القوى المتحالفة مع طهران في سوريا والعراق واليمن
ومن الطبيعي أن الالتزامات الأميركية الطارئة حيال إسرائيل، لا بد وأن تنعكس تأخيراً في الوفاء بصفقات تسلح وعدت واشنطن بها كلاً من تايوان واليابان وأوستراليا. وبعد أسبوعين من انفجار حرب غزة، زاد نشاط البحرية الصينية في بحر الصين الجنوبي، وحصلت احتكاكات مع سفن حربية فيليبينية هي الأخطر منذ 20 عاماً. وقبل أيام، صعّدت الصين من تحركاتها العسكرية وعبرت حاملة الطائرات الصينية “شاندونغ” مضيق تايوان. وأتى هذا العبور بعدما أعلنت الصين أن قواتها “في مستوى تأهب مرتفع دائم”، إثر مرور سفينتين حربيتين أميركية وكندية عبر هذا الخط البحري الاستراتيجي الأسبوع الماضي. ليس هذا فحسب، بل اقتربت مقاتلة صينية إلى مسافة عشرة أقدام من قاذفة “بـ-52” أميركية فوق بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي كان من الممكن أن يتسبب باصطدام صيني ـ أميركي.
قد تكون هذه مؤشرات إلى أن الصين هي الآن في موقع أكثر تجرؤاً على تحدي أميركا وشركائها في آسيا. بيد أن الأمر الأكثر خطورة يكمن في انعكاسات أخطر، لو طالت الحرب في الشرق الأوسط، خصوصاً إذا ما اتسعت دائرتها.
في مثل هذه الحال، تورد صحيفة “النيويورك تايمز” كيف أن جورج دبليو. بوش اضطر عقب هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 إلى تبني سياسة مهادنة مع الصين، كي يتفرغ لغزو أفغانستان ومن بعدها العراق. فهل ينحو بايدن منحى بوش ويدخل في مهادنة مع الصين، كي يتسنى له مواجهة حربين في وقت واحد؟ ثم ماذا عن أمن امدادات النفط إلى اليابان والهند في حال توسّعت الحرب؟ لذلك، يهم حلفاء أميركا وضع نهاية سريعة لحرب غزة.
هنا تطرح غزة نفسها مادة أساسية في النقاش بين بايدن وشي جين بينغ، وربما تتقدم على الخلافات التجارية وأشباه المواصلات والذكاء الإصطناعي. لكن لكل من واشنطن وبكين نظرة مختلفة إلى الصراع في الشرق الأوسط.
الصين دعت منذ اليوم الأول إلى وقف فوري لإطلاق النار ولم تُندّد بهجمات “حماس” على مستوطنات غلاف غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر، كما أنها استخدمت “الفيتو” إلى جانب روسيا في اسقاط مشروع قرار أميركي في مجلس الأمن الدولي يقتصر على التنديد بحركة “حماس” ولا يدعو إلى وقف للنار. وأعاد وزير الخارجية الصيني وانغ يي بأن الحل الدائم للصراع يمر بالتفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل وصولاً إلى حل الدولتين، واقترح عقد مؤتمر دولي لهذه الغاية.
للولايات المتحدة رؤية أخرى للصراع وتتبنى في الوقت الحاضر دعماً عسكرياً بلا حدود للحرب الإسرائيلية، مع تأييد “هدنات إنسانية” في أمكنة وازمنة محددة، ولا تؤيد وقف النار قبل أن تتمكن إسرائيل من تحقيق هدفها المعلن بالقضاء على “حماس” عسكرياً وسلطوياً.
للصين اليوم مصالح كبيرة في الشرق الأوسط، سواء عبر الاتفاقات الاستراتيجية مع دول الخليج العربية أو مع إيران. وهي منذ نجحت في وساطة إعادة تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران في آذار/مارس الماضي، تطمح أيضاً إلى مساهمة أكبر في أي تسوية بالشرق الأوسط.
الدور الصيني المتعاظم في المنطقة، أثار حفيظة الولايات المتحدة التي دأبت في الأشهر الأخيرة إلى العمل لأجل العودة للمنطقة، من باب العمل على التطبيع بين السعودية وإسرائيل.
الآن، غيّرت حرب غزة الخطط الأميركية ودفعتها إلى الانخراط في مساعدة إسرائيل عسكرياً وعلى حشد قواتها البحرية والجوية والبرية في المنطقة، في “رسالة ردع” لمنع توسع الحرب وشمولها جبهات أخرى. والعين هنا على إيران وحزب الله وباقي القوى المتحالفة مع طهران في سوريا والعراق واليمن.
الحرب الناشبة اليوم، عزّزت جبهة الجنوب العالمي بقيادة الصين وروسيا. وحتى روسيا التي تحوّلت إلى اقتصاد الحرب قد تتحول العام المقبل إلى الهجوم في أوكرانيا
صحيح أن الولايات المتحدة تعود عسكرياً وسياسياً من باب الحرب في غزة، لكنها لا ترغب في انخراط مباشر في نزاع آخر في الشرق الأوسط. والمعاناة الأكبر التي تمر بها اليوم هي في كيفية إيجاد توازن بين دعم إسرائيل واستمرار الحرب والحؤول في الوقت نفسه دون انفجار أوسع في المنطقة.
هل يطلب بايدن مساعدة بكين في خفض التصعيد؟ وما هو الثمن الذي ستتقاضاه الصين في المقابل؟ في أوكرانيا، رفضت واشنطن أن تساهم الصين في الحل برغم تقدمها بمبادرة سلام في شباط/فبراير الماضي.
الأوضاع اختلفت بعد الحرب في غزة، والولايات المتحدة تجد نفسها في عزلة دولية بسبب تأييدها المطلق لإسرائيل. 12 دولة فقط (بينها ست دول من جزر المحيط الهادىء) وقفت مع أميركا في معارضة مشروع القرار الأردني في الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي دعا إلى هدنة إنسانية في غزة.
الحرب الناشبة اليوم، عزّزت جبهة الجنوب العالمي بقيادة الصين وروسيا. وحتى روسيا التي تحوّلت إلى اقتصاد الحرب قد تتحول العام المقبل إلى الهجوم في أوكرانيا. احتمال يُؤرق الغرب بحسب الكاتب في صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية جدعون راخمان، الذي يطرح سؤالاً أكبر: هل ستُغيّر حرب غزة العالم؟
كلام رئيس الأركان الأوكراني الجنرال فاليري زالوجني إلى وسائل الإعلام البريطانية قبل أسبوعين عن “الطريق المسدود” الذي وصلت إليه الجبهات يُعطي تقييماً قاسياً عن وجهة الحرب وفشل الهجوم المضاد حتى ولو تشبث الرئيس فولوديمير زيلينسكي بالعكس. هل كان هذا ممكناً قبل حرب غزة؟
ورفض الجمهوريين تلبية طلب بايدن بمساعدة طارئة لكييف بـ61 مليار دولار، أوصلت السياسة الأميركية في أوكرانيا إلى طريق مسدود أيضاً.
في أيلول/سبتمبر الماضي، رفض شي جين بينغ الذهاب إلى نيودلهي لحضور قمة مجموعة العشرين كي يتجنب لقاء بايدن. بعد 4 أيام يذهب الرئيس الصيني إلى كاليفورنيا ليجتمع ببايدن. هي خطوةٌ محسوبةٌ بدقة وتعكس وضعاً صينياً عالمياً أكثر ارتياحاً بينما أميركا تترنح تحت ثقل أزمات، معظمها من صنع أيديها.