لحظة لبنانية للمسؤولية.. والإنقاذ

لا أحد يحسد حكومة نجيب ميقاتي على المهمة الأصعب في تاريخ لبنان الحديث، بإمساكها كرة نار أزمة وجودية غير مسبوقة، يدرك الجميع صعوبتها، وبالتالي، يُسجل لرئيسها ولها، جرأة تحمل المسؤولية.. ويبقى الحكم على النتائج رهناً بالبيان الوزاري وتنفيذه.

عندما تكون هناك أزمة في أي بلد في العالم، ما هو واجب رجل الدولة؟

أن يقر أولاً بالأزمة وأن يقوم بما هو ضروري ومفيد لبلده وشعبه، تخفيفاً لوطأة الأزمة ووقفاً للانهيار ومنعاً لتفاقمه وحداً لأي استغلال من قبل مافيات تنتهز عادة لحظات الأزمات السياسية والأمنية والمالية والإقتصادية والإجتماعية وتقتات منها.

في لبنان، لسنا في لحظة ترف حتى نراهن على حل جذري لأزمات البلد بين لحظة وأخرى. أي رهان من هذا النوع ليس في موضعه الصحيح، فالانقاذ الجذري ممكن ومطلوب ولكنه ليس سهلاً أو سريعاً بل ربما يحتاج إلى سنوات، أما الآن، فنحن أمام حكومة مهمة لا يزيد عمرها عن ستة أشهر، وأبرز محطاتها الإقتصادية والمالية إيجاد حلول لقضايا الكهرباء والمحروقات وخبز اللبنانيين، أما سياسياً، فلا مهمة تتقدم على مهمة الإشراف على استحقاق الانتخابات النيابية في ربيع العام المقبل، ولعل أفضل تحضير لها يكون بالتهيئة لقانون عصري يفضي إلى تغييرات جوهرية في طرق التمثيل الشعبي لتأتي متوافقة مع إرادة الناس وتلبية طموحاتهم.

اللحظة هي لحظة تحمل مسؤولية وإستعادة ثقة. لذلك، ليس بالضرورة وضع عناوين كبيرة في ظروف تحتاج البلاد فيها إلى معالجات ملحة بدل الغرق في جدال حول قضايا وتعقيدات كبرى.

ومن الغبن تحميل حكومة نجيب ميقاتي، مسؤولية الواقع اللبناني المتدهور، أو الطلب منها حل كل مشاكل لبنان في الاشهر القليلة المقبلة. يكفي القبول بتحمل المسؤولية، والاستعداد لمجابهة أكبر الأخطار لكي يُعطى للرجل حقه وبعدها يحكم الرأي العام على تجربة لن تكون الطريق مفروشة أمامها بالورود بل بالقرارات والخيارات الصعبة.

لا  يحتاج لبنان لإضاعة المزيد من الوقت في تفاصيل غير قابلة للتطبيق، لا سيما ان جزءا كبيراً من الأزمة مفتعلٌ ومتعمدٌ، وخير مثال على ذلك هو ارتفاع سعر صرف الدولار، والتلاعب به دون وازع، ما يؤكد واقع التفلت المتمادي وغياب المسؤولية إلى حد القول أننا أمام أزمة أخلاقية أكثر بكثير من كونها أزمة سياسية. نعم نحن أمام قضية انهيار وطن ومجتمع.

إن ولادة الحكومة الميقاتية يمكن أن يشكل فرصة جدية لوضع حد لحالة تراجع السلطة المركزية وكل مظاهر التفلت العام (نموذج مأساة عكار) وبالتالي إعادة انتظام الحياة العامة وإعادة الإعتبار إلى عمل المؤسسات وأن يقوم كل مسؤول بواجباته بدءا من أصغر موظف في الدولة إلى أعلى موظف

من هنا تبدأ المعالجات بتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى وليس بالهرب منها، لكن ثمة ملاحظات بديهية للذكر ولفت النظر ليس إلا، ومنها إعادة انتظام المؤسسات، تفعيل المراقبة قدر الإمكان، ضبط التهريب، التصدي للاحتكار، منع التلاعب بالأسعار، تعزيز التغذية بالكهرباء لبضع ساعات تخفف عن كاهل المواطنين، وإيجاد تسعيرة للدواء تلائم ارتفاع سعر صرف الدولار بما لا يرهق المواطنين، وبما يمنع تحول الدواء إلى سلعة استثمار هائلة تكسر ظهور الناس، وتأمين الوقود من بنزين ومازوت لتسهيل حركة المواطنين ووضع حد لهدر الكرامات في الاصطفاف طويلاً بالطوابير أمام محطات الوقود، خصوصا بعد قرار رفع الدعم عن المحروقات. هذه العناصر الأساسية تشكل مدخلا لوقف الانهيار، وطمأنة الناس، وأعتقد ان ذلك متاح اليوم.

إن ولادة الحكومة الميقاتية يمكن أن يشكل فرصة جدية لوضع حد لحالة تراجع السلطة المركزية وكل مظاهر التفلت العام (نموذج مأساة عكار) وبالتالي إعادة انتظام الحياة العامة وإعادة الإعتبار إلى عمل المؤسسات وأن يقوم كل مسؤول بواجباته بدءا من أصغر موظف في الدولة إلى أعلى موظف.

الواقع الراهن لم يعد يحتمل التشاطر، ولا المناورة في التحاصص، ولا تقاسم النفوذ، ولا السعي إلى التعويم السياسي، بينما السفينة تغرق بكل من فيها، وتنزلق إلى الفوضى والتحلل والتفكك.

المطلوب اليوم الالتفاف حول حكومة ستحمل كرة النار، فالوضع لم يعد يحتمل هدر الوقت، والمواطنون لم يعد بإمكانهم تحمل المزيد بعد أن عانوا في حياتهم كلها من صعوبات مستدامة، بدلا من حلول مستدامة.

المطلوب وقف هجرة اللبنانيين المخيفة التي لم يسبق أن شهدها البلد منذ الحرب الأهلية التي شهدها في أواسط القرن التاسع عشر، وطمأنة الأجيال الشابة إلى أن مصيرها غير مجهول وغير مهدد.

المدخل إلى ذلك يتجسد بإعادة بناء الثقة بين معظم القوى السياسية إذا كانت تحمل صفة “الوطنية” لما يشكل ذلك من مدخلٍ حقيقي وجدي وصادق على طريق الانقاذ الوطني.

إنها لحظة تحمل المسؤولية لا الهروب إلى الأمام.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  رياض سلامة بتعذر البديل: مجرمٌ أم بطل؟
سمير الحسن

كاتب وباحث لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  بيروت الأولى 2018: "التيار" أولاً، المجتمع المدني ثانياً (2)