تطبيقا لهذه السياسة، صاغ الاميركيون ما عرف بـ”حلف بغداد” في الشرق الأوسط، وتبعه إعلان “مبدأ ايزنهاور” عقب العدوان الثلاثي على مصر. توازياً، شهدت فترة رئاسة كميل شمعون في لبنان أزمة العام 1958 التي أتت انعكاسا لسياسة الأحلاف القائمة في المنطقة آنذاك بالإضافة لأسبابها الداخلية، ومن المعروف أن شمعون تقرب من حلف بغداد واستغل مبدأ ايزنهاور لطلب دعم قوات المارينز خلال العام نفسه حيث نزلت هذه القوات على شواطئ بيروت وبقيت لثلاثة أشهر.
ليس الحال اليوم في لبنان بالبعيد عن هذا المثال التاريخي ولو اختلفت العناصر قليلا. تعلم واشنطن حيثيات العمل السياسي اللبناني بتفاصيلها، وهي تقرأ جيدا توازناته وطبيعة العلاقة بين مختلف القوى فيه. ويبدو أن العنوان العريض للسياسة الأميركية الحالية في ظل توازن الردع القائم في المنطقة بين المحور الذي تقوده طهران وبين العدو الإسرائيلي هو محاولة احتواء وتطويق هذا المحور وعزل عناصره، تمهيدا للتوصل إلى “تفاهم ما” يحقق “أمن إسرائيل” ويكرس المصالح الأميركية أو ما تبقى منها.
وتعمل واشنطن من خلال دفع مجموعة الدول العربية نحو التطبيع وفتح خطوط التجارة الدولية والاستثمارات وتحقيق المكاسب الإسرائيلية عبر إقرار “صفقة القرن”، على تكريس سلسلة من الأحلاف السياسية والتجارية التي تمكنها من التحكم بما تبقى من موارد وخطوط ضخ الغاز والنفط من أجل عزل كل من عناصر ما يسمى “محور المقاومة” على حدة، فالاتفاق الإسرائيلي – الاماراتي قرّب بين حيفا ورأس الخيمة كخط تجارة يلتف على هرمز و”بندر عباس”، كما يمكّن من تكريس “الإدارة الذاتية” الكردية في الشرق السوري والإبقاء على الواقع التركي شمالا والالتفاف على امساك “الدولة السورية المركزية” بكامل خطوط التجارة الدولية، بالإضافة إلى المحاولات المستمرة لعزل معبر “البو كمال”.
توازياً، تسلط واشنطن سيف عقوباتها على دمشق وطهران ولبنان وهو ما تعتبره محاولة لتجفيف موارد تمويل هذا المحور وامعانا في عزل عناصره، وتعمل وفق منهج “من الجزء إلى الكل”، بعدما استنفذت جميع الحلول العسكرية، فهي لن تتمكن في ظل التوازن القائم من توجيه ضربة لإيران كما تستصعب كثيرا مواجهة المقاومة اللبنانية، مثلما كبلت التوازنات السورية المعقدة كلتا يديها.
ولكن قد يكون غاب عن بال صانعي القرار في واشنطن أن سياسة الاحتواء والتطويق اتجاه الاتحاد السوفييتي لم تجد نفعا، بل دفعت باتجاه تعزيز موسكو آنذاك لأحلافها الإقليمية ودعم الجماعات المناهضة لواشنطن، حتى وصلت الأزمات إلى ذروتها ونُصبت الصواريخ السوفييتية في كوبا، ما دفع الأميركيين إلى البحث عن حل أتى على شكل اتفاق ضمني بتخفيض حدة الأزمات الدولية منعا لاندلاع حرب كبرى، ما عرف بعدها آنذاك بمرحلة “الانفراج الدولي”.
وفي لبنان أيضا، ترى واشنطن في صواريخ المقاومة (الدقيقة تحديداً) “أزمة صواريخ متواصلة” وتسعى لعزلها ليلا نهارا دون جدوى، وكما في العام 1958 تتكتل مجموعة من اللبنانيين خلف مطلب “عزل لبنان عن صراعات المنطقة”، تارة بطلب “الحياد” وطورا بطلب نزع سلاح المقاومة، ومرة بالتناغم مع تهويل مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر بضرورة “عزل حزب الله عن الدولة” والا لن يستفيد لبنان من “واحة السلام الاقتصادية” المزعومة.
في المقابل، يعلم الأميركيون جيدا أن أحد مكامن قوة المقاومة اللبنانية هي في التيارات السياسية الداعمة لها، وهو ما يخلق هامشا من الأحلاف الوطنية لها ما يصعّب من عزلها، وهو ما تسعى واشنطن إلى ربطه بعنوان فساد الطبقة السياسية اللبنانية، فالفساد بالنسبة إليهم، كما جاء في نص العقوبات هو استغلال المناصب لتقديم الدعم لـ”حزب الله” بينما يتربع على عرش الفساد اللبناني حلفاء لواشنطن لا يقدمون الدعم للمقاومة. هنا مربط خيل العقوبات الاميركية إذاً، فساد لبناني مسيّس يعزل المقاومة ويضعها في خانة التمذهب في المعادلة اللبنانية، كما هي نقطة الخلاف مع الفرنسيين التي عبر عنها الطرفان أيضا بالحديث مع “حزب الله” كمكون لبناني من عدمه.
العقوبات على الوزيرين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل اذاً، كما العقوبات المقبلة التي بدأ الحديث عنها على شخصيات لبنانية أخرى، هي رسالة في الأدوات الأميركية لكيفية عزل المقاومة واضعاف الالتفاف الوطني حولها، وهو ما تعبر عنه واشنطن بعبارة “فصل حزب الله عن الدولة” بالاستناد أيضا إلى زخم داخلي لبناني يربط بين الإصلاح ومدنية الدولة وبين عنوان نزع السلاح، يواكبه طرح تدويل المعابر وتعديل مهام قوات اليونيفيل، ولكن كما في خمسينيات القرن الماضي من يضمن النتائج لبنانيا وإقليميا؟ فلا مؤشر على التراجع عن “العداء الأيديولوجي” لإسرائيل، ولكن المؤشرات على انفراج إقليمي “أميركي – إيراني” كثيرة، وعند هذا التوازن وحظوظ الانفراج الإقليمي، يخوض اللبنانيون معركة جديدة قد يكون فيها “غالبٌ ومغلوب” هذه المرة.