احتفظت بحنجرة اعتصمت بالصمت. ثم توغَلتُ في ماضٍ ممعن بحضور الذين غابوا، أو غُيِبوا. حضروا جميعاً تقريباً. اتكأوا على منصات وجدارية صامتة. قلتُ: لن أحتمل أكثر. ما أقدمت عليه وداد حلواني كان كافياً لإقناعي، بأن الوجوه حية جداً، في دموع الأهل والأبناء. في صمت الأيام والسنوات. في وجع التذكر. حاولت أن أبحث عن أهل لي، عن أصدقاء ورفاق. فوجئت أنني تعرفتُ عليهم جميعاً، من دون أن أعرفهم. إسمهم: المخطوفون الخالدون.
تقدمت مني مندوبة صحفية. سألتني سؤالاً نسيته للتو. انتظرت جوابي. قلتُ: إن حكيتُ بكيتُ. كبت لغتي. نزلت الغصَة في القلب. حنجرتي مقفلة بيباس حزن معتق. كاسك أيها الألم. إنك تحييني.
اختلطت بالحضور الذي ينتقل من جدار إلى جدار. الأسماء هنا. الصور أيضاً. وانتقالهم من الجدار إلى القلب، هو عمل ذاكرة اعتادت عناق المأساة. إلا أن غضباً اجتاحني. يا أولاد الافاعي، يا مرتكبي الموت والقتل والخطف. ولم أترك كلاماً بذيئاً إلا وصفتهم به غيابياً.
زهاء نصف قرن مضى. لا أحد يعرف أين هم المخطوفون. أين ذهب أنينهم وألمهم؟ من احتفظ به، غير هذا المعرض الذي يتحدى النسيان، وجاء من سلالة الأسئلة: أين هم أهلنا؟ أيها القتلة، ما زلتم أحياء جداً، تلبسون ربطات العنق، بعدما أنفقتم دمنا ودم محبينا وأحبابنا.
هذا اللقاء في قاعة “السفير”، موجعٌ جداً، ويعلن بصمت مدوٍ: لن ننسى. نريد أن نعرف.
وداد حلواني، الأمينة على أحزاننا، حملت صليبها بوجع الاستعادة المستحيلة لمن خطفوا. سنة، سنتان، عشر، عشرون، ثلاثون، أربعون عاماً.. أنتِ يا وداد، الشاهد الأمين على هذه الجلجلة، وتتوقعين دائماً، أن نحفظ قتلانا ومخطوفينا. أن نستحضرهم، في معرض مفتوح للجميع، باستثناء القتلة والمجرمين وقادتهم، الذين غسلوا أيديهم من دمائنا. أخذوا النساء والرجال والأطفال، وها هم يفتحون راحاتهم لنهبنا، كما فعلوا بالأمس.
وداد حلواني، مؤمنة إلى حد التطرف بأن الواجب الأخلاقي والإنساني، يتقدم على كل ما عداه. يتقدم على كل القوى التي ورثت الحرب وأورثتنا على كل ما عداه. إذاً، لا بد من مكان، من متحف، من صالة، من محجَة، من مكان مفتوح، لإبقاء قضية المخطوفين حية. وعليه، لا بدّ من إخضاع الطغمة المستدامة، لمنطق المحاسبة، عبر تكريس يوم أو أسبوع، لذكرى المخطوفين، الذين، هم أحياء عندنا يرزقون.
هذا المعرض الحي، يؤسس لسلوك إنساني، ولضمير يحاسب الغلط وينتفض ضد الظلم، ويدوس بعينيه وسلوكه، هامات داعري السياسة
نعم. يوم للمخطوفين والمفقودين. نريد أن نستعيدهم دائماً، نريدهم أن يكونوا معنا. وعلينا، كلما سنحت الفرصة، أن نؤذي من خطفهم بكل ما ملكت نفوسنا من حقد على الخاطفين.
أنتم، يا سادة القتل والخطف والتصفية والتهجير والقصف، لا نراكم بعد اليوم، وبعد نيف وأربعين عاماً، إلا أكلة لحوم وأموال. وبالمناسبة، لا بد من التذكير، بأن زبانية السياسة اللبنانية، تخلوا عن “شهدائهم”، ثم عادوا مؤخراً، لاستثمارهم في معارك الوسخ السياسي والانتخابي.
وداد حلواني، ومن معها، وهم كثر على قلتهم، لم يميّزوا بين مخطوف ومخطوف. المخطوفون مواطنون. بشر. رجال. نساء. هؤلاء، ليسوا أتباع طوائفهم التي تخلت عنهم، وترفض أن تسمع شيئاً عنهم. هؤلاء “أهل عفو لئيم”. هؤلاء، يؤمنون بمقولة “عفا الله عما مضى”. إخس. أنتم أحقر من… (ضع الشتيمة المناسبة).
وداد حلواني، أنت سيدة الألم الجليل، وحارسة أسماء ووجوه وحكايات وأحزان هؤلاء جميعاً. هؤلاء من ذريتك ونبلك وشجاعتك وإنسانيتك.. لا أحد مثلك. والكل شاهد/ة على حمل الصليب وعلى الاقتناع بالرجاء.
أنت تعرفين ربما، أنهم لن يعودوا. والقتلة لن يفصحوا أبداً عن المقابر الجماعية، ولن يعترفوا بالعار الذي ارتكبوه. هؤلاء، قراصنة الدم والمال والحياة. هؤلاء أجلاف. إن للحقارات قياسات ومقاسات. والأحقر أكثر، أولئك الذين يُقدّسونهم. الأتباع أسوأ من المتبوع.
ذاكرة الأوطان، ومنها ذاكرة لبنان، تسهر على علية القوم. على سنابك خيولهم. يُمجّدون “قادة” الإجرام والقتل. ثم، تعالوا إلى كلمة سواء. مرة تلو مرة. ذاكرة لبنان معطوبة. أو بالأحرى ممنوعة. لذا، هذا المعرض المحزن، سيرتقي يوماً ما، زمناً ما، إلى منصة المحاسبة الأخلاقية. قادة الخاطفين. هم هنا وهناك. هم في كل شاشة وموقع.
إن إحياء الذاكرة مهمة صعبة وليست مستحيلة. تجرؤ وداد حلواني ومن حولها ومعها، يلزم أن نحفظه. يلزم ذات زمن، أن ينشأ متحف كبير، لضحايا الحروب اللبنانية الدامسة. يلزم إحياء ذاكرة الماضي الأسود. تاريخنا مخضب بالدم والقتل والسحل. وهو الآن في القعر الذي لا قعر بعده. إنه زمن مناسب، لجمع كل الآلام الماضية وإحيائها وتحسس دموعها. وهو زمن مناسب اليوم، لدعوة بؤساء لبنان، منكوبي لبنان، منهوبي لبنان، إلى احتضان الألم، خارج العيون. يلزم أن يكون الألم هو الأمل في اعلاء القبضات وإنزال العقوبات البشرية العادلة بالمرتكبين. لقد عشنا قرناً من السفك، والطريق مفتوحة للحساب.
فلتكن هذه المناسبة بداية طريق، يسلكها المؤمنون بأن الأوطان، هي مرتع للإنسانية قبل أي معتقد أو مصلحة. بلادنا الآن، تصلح لأن تكون سجناً. ونحن أسرى
إن لبنان المهزوم راهناً، يفرض على المواطنين وليس الطائفيين، أن يتجرأوا على ممارسة العدالة، مهما كان الثمن.
ثم، إن هذا المعرض الدائم، يستجيب بشكل حيوي، لما يكنه الضمير الإنساني، للتوحش السياسي والأمني والمالي والطائفي. هذه الوحوش المفترسة، لها شهية في استعمال الموبقات كلها، لاستمرارها في ممارسة الفحش السياسي.
لا نحتاج الى دليل. إنّ لهم رائحة كريهة ووجوه كالحة. ولهم القدرة على التبجح بالعيب والكذب والانتهاك.
صح قول الشاعر الشجاع مظفر النواب: “أولاد القحبة لا أستثني منكم أحداً”.
هذا المعرض الحي، يؤسس لسلوك إنساني، ولضمير يحاسب الغلط وينتفض ضد الظلم، ويدوس بعينيه وسلوكه، هامات داعري السياسة.
لدينا أزمة ضمير فادحة. لم ننتبه الى التربية. الأبناء يتربون على حب أهلهم، وعلى طاعة سلالاتهم الدينية والطائفية. والتدين السياسي يقتل. والتدين العقائدي يقتل. والتدين الطائفي يقتل. أما التدين الوطني، فيعدل، لأن الوطن ليس مساحة فساد وعنف وسلبطة. بل هو مرتع إنتماء وقيم وجمالات ونضالات ومشقة تقدم وعزيمة نهوض.
لقد فشلنا سابقاً في إمتحان النجاح. أفكارنا فشلت. طموحاتنا أُجهضت. (لبنان يتغنى بأنه يُصدّر أبناءه إلى منافي البلاد الباذخة).. لم يعد لبنان موطن فكر. الفكر مات. الدين، مرتعه عندنا، وخيم جداً.
أخيراً، فلتكن هذه المناسبة بداية طريق، يسلكها المؤمنون بأن الأوطان، هي مرتع للإنسانية قبل أي معتقد أو مصلحة. بلادنا الآن، تصلح لأن تكون سجناً. ونحن أسرى.
رهاننا، أننا سننجح، ورائدتنا، هذه السيدة وداد حلواني، التي جعلت من ذاكرتها، ذاكرة جماعية. وهذا صعب جداً، أصعب من حماية الحرية.
شكراً وداد.