فيفا أييندي

مرّ أسبوع كامل على الذكرى الـ٤٨ لقيام الولايات المتحدة بقتل الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور الليندي في ١١ سبتمبر/أيلول ١٩٧٣م، وتنصيب الدكتاتور المجرم أوغستو بينوشيه على أنقاض قصر لامونيدا الفخيم.

ألقى الدكتور سلفادور الليندي على شعبه الموعود بالأسى خطابه الأخير وهو يرفض الإستقالة تحت القصف واختتمه قائلاً “هذه هي كلماتي الأخيرة، وأنا على يقين من أن تضحياتي لن تذهب سدى، وأنها ستكون – على الأقل – درسًا أخلاقيًا يعاقب على الجرم والجبن والخيانة”.

وكفارس حقيقي ودّع الليندي موظفي القصر بمصافحتهم والشد على أيديهم قبل السماح لهم بالإنصراف، ثم أطلق في الفضاء المليء بالطائرات المهاجمة زختين من رصاص بندقيته الآلية ليذهب بعدها إلى المجد دون وسيط!

***

لم تذهب تضحيات الليندي العظيمة سدى، وكالعادة مثل كل عام انشغل العالم بالآلة الإعلامية الغربية التي اختطفت هذا اليوم المجيد أيضاً ضمن ما اختطفت حكوماتها من ثروات العالم، وشعوبه، وأمجاده، والآن ذكرياته.

نحن ضد الإرهاب من أين جاء وهذه كتابة نعرب فيه عن مناهضتنا له، ومناصرتنا لضحاياه جميعاً في تشيلي، الولايات المتحدة، العراق، أفغانستان، السودان، سوريا، مصر، لبنان، اليمن، وليبيا.

***

ذات مرة أسرّ فيدل كاسترو إلى صديقه المقرب غابرييل غارثيا ماركيز بأنه يأمل أن يصير في حياته القادمة كاتباً! لم يكن الكوماندانتا يأمل – إن كانت هناك ثمة حياة أخرى تحل فيها الروح بعد الموت في جسد آخر- أن يصبح مرة أخرى زعيماً لمدة نصف قرن وأن يقاوم الولايات المتحدة بجبروتها الهائل وينتصر عليها وهو على مقربة ٩٠ ميلاً منها بينما يرتجف الرجال المثقلة صدورهم بالنياشين الزائفة إذا غضب عليهم موظف أمريكي صغير، وهم على مبعدة آلاف الكيلومترات منها.

ربما حقّق كاسترو الآن أمنيته، وربما كان لا يزال ينتظر، لكنه الآن هناك في الأبدية البيضاء -بلغة محمود درويش- يستأنس ربما بصديقه القديم ويتجادلان في السياسة، وحسابات المسافات، ويختلفان على ما إذا كان بيل كلنتون فعلاً يحب مائة عام من العزلة أم أنه يكذب ليتخلص من صورته كمجرم سياسي، وكل الساسة مجرمون بشكل مطلق!

المؤكد أن كاسترو قد أدرك بعد فوات الأوان أن السياسة عالم قبيح، وأنها فضاء لا يحوم حوله سوى المجرمون، وقلة من أصحاب النوايا الطيبة والأغبياء، ومجموعة فاخرة من النساء الذكيات الطموحات المطيعات الجميلات.

المجرم الأكثر شهرة وثروة ونزقاً الذي عرفه العالم المعاصر – خارج محيط المجرمين الساسة – بابلو إسكوبار الذي أدرك حقيقة العالم السري هذا متأخراً جداً ودفع حياته وحياة الآلاف ثمناً لذلك. نجح إسكوبار في جمع ما يقارب ال٦٠ مليار دولار من تجارة المخدرات والجريمة المنظمة، وكان يصنع الأسلحة، ويبني المطارات والمدن، ويحقق أحلام الملايين كملك متوج دون أن يكون سياسياً حتى حدثته النفس الأمارة بالسوء بدخول البرلمان كخطوة أخرى – لم تكتمل – نحو رئاسة الجمهورية.

نجح إسكوبار في تشكيل عصابة كانت مهابة من الجميع جيشاً، وشرطة، وحكومة، وعصابات منافسة لكنه فشل في ان يكون قوياً وزعيماً مهاباً بين الساسة.

قال إسكوبار في حديث للكاتب والصحفي الكولمبي الراحل خيرمان كاسترو كايثييدو “يا رجل، لقد دخلت في المافيا الحقيقية. هؤلاء الناس هم المافيا الحقيقية”

فوجىء إسكوبار وهو داخل البرلمان ببشاعة الساسة، وخياناتهم، وعدم احترام كلمتهم، ولصوصيتهم وجرأتهم على كل شيء غير هيّابين بالحق وبالباطل.

كانوا يقبضون منه الأموال ثم يتحدثون علناً ضده، ويحاربونه، ويصوتون ضده. ذات مرة اندهش هو نفسه من كمية الجريمة التي يمارسها الساسة مقارنة بالعالم الذي كان يعيش فيه بين القتلة ومهربي المخدرات وصناع الأسلحة. قال في حديث للكاتب والصحفي الكولمبي الراحل خيرمان كاسترو كايثييدو “يا رجل، لقد دخلت في المافيا الحقيقية. هؤلاء الناس هم المافيا الحقيقية”.. تحسبه لعب يا دون بابلو؟

***

أين صرنا؟ لقد أضحى الأمر واضحاً بالنسبة لكاسترو لكنه كسياسي مخاتل بالطبع لم يكن يملك الجرأة لدفع فواتير اخطائه في السياسة عند التحول إلى كاتب، أما بالنسبة لكاتب هذه السطور فإنه لا حاجة به للإنتظار ليصير شيئاً آخر. أنا بالفعل مواطن أمريكي لاتيني وإن لم يسعدني الحظ حتى الآن بزيارة أهلي هناك في أراكاتاكا وكارتاخينا دي إندياس وميديان وبوغوتا وباهيا وبالبرايسو وسانتياغو.

***

كان تعارفي بالشعب التشيلي تلقائياً وطبيعياً للغاية فقد كنت على صلة سابقة بدول كثيرة وشعوب تعرفنا عليهم قبل أن نراهم. عرفنا القاهرة منذ طفولتنا وتجولنا مع توفيق خليل توفيق خربوطلي (الملقب بتختخ) في شوارع المعادي وجلنا مع آل السحار في شارع كامل صدقي بالفجالة ثم كبرنا وتعرفنا على شوارع عماد الدين ومحمد علي والهرم وحين زرت القاهرة للمرة الأولى كنت اتحدث بثقة مع سائق التاكسي وأنا أطلب منه انزالي بباب الحديد أو موقف الترجمان أو شارع ٢٦ يوليو.

كنت أحب أن تبقى إيزابيل الليندي في ذاكرتي كما تعرفت عليها من خلال كتاباتها وبما أن السيلفي لم يكن قد تم اختراعه عندئذ فإنني بقيت بعيداً

هكذا استعنا على تحقيق أحلام السفر الحقيقية بالأسفار الافتراضية في الذاكرة. في استراليا ساعدني باولو كويلهو مرة وخورخي أمادو مرة، أما ماركيز وإيزابيل الليندي فقد فتحا لي أبواباً من الصداقات والمحبة والمعارف المتينة.

أول من نقل إلي في السودان قصة بينوشيه ومأزق الشعب التشيلي معه هو الأديب والشاعر الراحل تاج السر الحسن في كتابه (بين الأدب والسياسة) وماركيز حاضر دائماً أما أول مرة تعرفت فيها على إيزابيل الليندي إبنة أخ الرئيس الشهيد فكانت في أسمرا.

حصلت على إعارة محدودة الوقت جداً من صديق على رواية “باولا” البديعة والمحزنة والمؤثرة. لم يكن الوقت الممنوح ليكفيني لقراءتها في غمرة انشغالات كثيرة لكن من أعارني إياها كان هو نفسه قد استعارها من صديق آخر. توجهت إلى مكتبة أنيقة في وسط المدينة بالقرب من المركز الثقافي الفرنسي لتصوير الكتاب لكن صاحب المكتبة اعتذر لي بأن ليس لديه الوقت لتصوير الكتاب كله الآن وإن عليّ القدوم في وقت آخر بموعد مسبق.

استخدمت الدبلوماسية وأقنعته بأنني قادر على تشغيل ماكينة التصوير والقيام بالمهمة نيابة عنه ووافق ثم اصطف بعد قليل الزبائن خلفي وراء الماكينة الوحيدة. كنت أتخلى عن تصوير الرواية ريثما يصور أحد المستعجلين شهادة أو بطاقة او وثيقة ثم أعود. بعد قليل أطل زوج أوروبيان شابان نظرا إلى كومة الأوراق الهائلة التي وضعتها فوق بعض بدون عناية ثم هتفت الزوجة بالإنجليزية بفرح هذه رواية “باولا” لإيزابيل الليندي.

 أبلغاني أنهما اسبانيان وصرنا أصدقاء لفترة محدودة حدثاني فيها عن تلك البلاد البعيدة. أسرا إليّ بأن رؤية ذلك الشغف بالرواية الجديدة نسبياً حينئذ أشعرهما بالثقة وأن إرتريا أجمل مما تصورا وأقرب إليهما مما ظنا.

قمت بتغليف النسخة المصورة من “باولا” في مجلدين ضخمين وعُدتُ بهما إلى الحدود لأقرأهما مع كتب أخرى والحرب الأهلية في شرق السودان من حولي في كل مكان. قصف بالطائرات والمدفعية وتحركات للآليات لكنني لم أكن لأبالي. كنت أقرأ وأستمع بتكرار لا يمل لنجوى كرم ونوال الزغبي ولطيفة وباسكال مشعلاني التي حصلت على كاسيت بأغنياتها العجيبة تقديراً لوجهها الصبوح وملابسها الجريئة!

في السجن، سجن المعارضة بالطبع وليس سجن الحكومة، والمعارضات في السجون لها سطوة وسجون ورقابة وانتهاكات غير موثقة لحقوق الإنسان، كان أغلب أصدقائي هناك وكنت أستخدم صلاتي لتهريب الكتب والسجاير والتمباك إليهم فقرأوا “باولا” واحسب أنهم ما يزالون ممتنين لي على ذلك الندى.

***

في القاهرة واصلت صداقتي من طرف واحد مع التشيليين فقرأت بيت الأرواح والخطة اللانهائية وصرت أحد افراد عائلة الليندي. أعرف الساسة فيهم والمثقفين والجدة هيلدا والعم رامون والمشاغب نيكولاس وإبن العم الغامض للرئيس (توماس) والذي أخفى نفسه إلى الأبد بعد فضيحة في بيرو ولم أكن أتذكر العم رامون إلا بالتوقير اللازم.

ما زلت أتذكر توماس المحب للأناقة والذي حاولت زوجته وهما في شهر العسل أن تطعمه بدلال في فمه ملعقة من المكرونة لتسقط قطرات من الصلصة على قميصه الأبيض الأنيق. لم يعبّر عن غضبه لكنه أدخل كلتا يديه في طبق المكرونة ثم لطّخ بالصلصة قميصه وشعره ثم غادر المائدة في صمت.

 كانا في مطعم الباخرة التي كانت تقلهما على العاصمة البيروفانية ليما وفي الطريق إلى هناك صنعا إيزابيل التي ستصبح كاتبة تبيع ملايين النسخ من حكاياتها غير المسبوقة. قرأت لها لاحقاً صورة عتيقة وكتاباً عن الأطعمة المثيرة للشهوة الجنسية ومدينة البهائم ثم عجزت عن ملاحقتها آسفاً.

***

في القاهرة كنت أجلس في أحد المقاهي المعتادة ومعي كتاب عن نقد النقد الأدبي للكاتب السوري نبيل سليمان. تعرفت على صديق تبين خلال السمر أنه من اليمن الجنوبي وقضينا الليلة نتحدث عن فتاح العظيم وكيف قتل قادة الدولة والحزب في مؤامرة رخيصة. حدثته عن حكايات صديقنا الأستاذ العظيم عبد الله كنة، الذي كان مدرساً في اليمن الشمالي وثائراً مؤيداً لليمنيين الجنوبيين يذهب إليهم تهريباً عبر الحدود مغامراً بوظيفته واغترابه لكنه يعود من عدن مفعم الروح!

فاجأني نبيل جعفر بأنه درس في جامعة الصداقة بموسكو وفيها تعرف على زوجته التي تقيم معه الآن في القاهرة. كدت أسقط من على طاولتي من المفاجأة حين أبلغني بإعتيادية أن زوجته من تشيلي. يا للرجل المحظوظ!

إقرأ على موقع 180  السعوديون يأملون بإنتهاء حرب إستنزافهم في اليمن

كنت مبهوراً به وبحكاياته. صنعنا صداقة عاجلة وعمّدته شيخاً لي في الثورة حتى افترقنا في ظروف غريبة لا أتذكرها الآن، ولكن أعتقد بسبب انتقال أحدنا من شقة إلى أخرى حيث فقدنا تواصلنا الهاتفي ولم نتصادف بعدها في المقاهي القديمة ولم تكن لدى أي منا حينئذ هواتف محمولة.

***

حين وصلت إلى سيدني لم أضع وقتاً طويلاً في الإقتراب من التشيليين والتعرف عليهم وقد عرفت بكثرة عددهم عقب بداية مشوار هجرتهم من بلادهم البعيدة إلى استراليا بعد سقوط العم سلفادور.

تعرفت على موظفة في مكتب مساعدة المهاجرين الجدد على التوظيف ويؤسفني الآن جداً وأنا أكتب هذا المقال من الذاكرة أنني قد نسيت اسمها. كنت قد استلطفتها للغاية بعد أن تداولنا كثيراً حول تشيلي وكولمبيا وإيزابيل الليندي وحدثتني أنها لم تقرأ رواية “باولا” ولن تقرأها لأن أمها كانت تبكي وهي تقفز بين الصفحات دون أن تقوى على تركها. لم تحتمل السيدة الكبيرة المهاجرة فجيعة الشابة الجميلة الذكية التي كانت ممددة طوال زمن الرواية في غيبوبة بعيدة جراء مرض غامض حتى أعلنت الأم وفاة ابنتها بعبارة “وداعاً يا “باولا” المرأة.. أهلاً يا “باولا” الروح” في الصفحة الأخيرة.

يا لخيانة الذاكرة! كيف ندا عني اسم هذه السيدة الجميلة؟ كنت كثير الحضور إلى مكتبها لعدة أسباب من بينها أنني كنت متعجلاً الحصول على عمل وأنني كنت أريد استخدام الكمبيوتر والإنترنت إذ لم يكن لدي أي منهما حينئذ وأنني كنت أرغب في رؤيتها والحديث إليها وفي أحيان كثيرة كنت أجدها مشغولة لكنها كانت تبلغني بالإعتراف بوجودي من خلال ايماءات كانت تغذي روحي وتخيفني من ان تمتد هجرتي إلى ما يزيد عن الخمسة أعوام التي كنت قد حددتها لتكوين نفسي والعودة الى السودان وبحمد الله اقتربت إقامتي الآن خارج السودان من ربع القرن. نحمده الله حمد الشاكرين على ما أراد فأمر المؤمن كله خير بإذن الله.

تيقنت من أن علاقتي بتشيلي قد تحولني إلى مواطن تشيلي كامل حين دخلت من بوابة المكتب ونظرت للتو إلى طاولة موظفتي الحسناء لكن قبل أن تقع عيني عليها رأيتها تدخل رأسها تحت الطاولة ثم تلصصت فرأيتها تضع طلاء أحمراً فاقعاً على شفتيها. منذ الآن لم تعد تهتم بإبلاغي بالإيماءات أنها تراني، ولكن يبدو أنها قد قررت أن تحسن استقبالي.

***

حكايات تشيلي معي كثيرة لكن لا يمكنني أن أغلق هذه الصفحة دون أن أذكر معلمتي في دورة اللغة الإسبانية للمبتدئين الأستاذة إليثابيث (إليزابيث) التي كانت مندهشة من شغفي بلغتهم لسبب غريب لا يتعلق بالتوظيف وإنما بالرغبة فقط في قراءة أدب أمريكا اللاتينية بلغته الأصلية. كانت تلك المرة الثانية التي حاولت فيها دراسة الإسبانية وكانت الأولى في أحد المعاهد بضاحية الدقي في مصر.

كانت للمدرسة الأنيقة والراقية طفلان حدثتنا عنهما وكانا يحملان اسم سلفادور مقسماً كما قالت بين سلفادور الليندي ودالي الرسام العظيم، والثاني غابرييل على غابو العظيم غارثيا ماركيز. شجعتني كثيراً على مواصلة الدراسة لكن حصولي السريع على وظيفة مذيع وصحفي وأنا بعد جديد في البلاد الجديدة كلها قطع صلتي بتشيلي مؤقتاً لأنشغل بتغطية فعاليات الجالية اللبنانية الضخمة في سيدني والتعرف على ذلك الشعب المجيد.

***

في الإذاعة تعرفت على مذيعة زميلة حققت لاحقاً نجاحاً كبيراً في المهنة إسمها أليس، كانت تتحدث الإسبانية وكنت اتبادل معها التحايا وبعض الأحاديث القصيرة حتى علمت منها مرة أن إيزابيل الليندي في المدينة، وأنها ستزورها وستجري معها حواراً متفقاً عليه، وأنها لن تمانع إذا ذهبت معها، لكنني فاجأتها بأنني لن أذهب وانني سأعتمد على حوارها. كنت خائفاً من ان ألتقي الكاتبة الكبيرة وأرى منها ما يهز صورتها أو يختلف مع تصوري عنها.

كنت أحب أن تبقى إيزابيل الليندي في ذاكرتي كما تعرفت عليها من خلال كتاباتها وبما أن السيلفي لم يكن قد تم اختراعه عندئذ فإنني بقيت بعيداً. حين عادت زميلتي بالحوار مسجلاً طلبت منها أن تسمح لي بنسخه واحتفظت منه بنسخة ما زالت موجودة معي حتى الآن على شريط لم يعد الآن مستخدماً وكانوا يسمونه (دات) كان متقدماً على اشرطة الناقرا ومتخلفاً قليلاً عن أقراص الميني ديسك الذي كان صرعة الإذاعيين في أوائل الألفية الجديدة قبل عصر الديجتال.

***

الحكايات تطول لكننا نرغب في العودة إلى العم سلفادور كما كانت تسميه الليندي (ونطقها بالمناسبة أييندي) بالكسرة الممالة على الياء الأولى.

ترشح المناضل اليساري الكبير للرئاسة في تشيلي عدة مرات لكنه فشل دون أن يهز ذلك إصراره قيد أنملة حتى انه سخر مرة ممن قالوا له بأنه سيموت دون أن يصبح رئيساً لتشيلي لكنه ردّ عليهم: إذن أكتبوا على شاهد قبري “هنا يرقد الرئيس القادم لتشيلي”.

في العام ١٩٧٠م تبين أن المرشح اليساري الليندي قد اقترب من الرئاسة وان تحالف الأحزاب الصغيرة سيقوده إلى قصر لامونيدا لكن كانت إدارة نيكسون وعقلها المدبر هنري كيسنجر يرفضون ذلك وقال الدكتور كيسنجر عبارته المشهورة “لست أدري لماذا يسمح لبلد ما بالماركسية فقط لأن شعبه غير مسئول”.

قررت شركات آي تي تي وبيبسي كولا وبنك تشيس مانهاتن مقاومة ذلك بالتشاور مع كيسنجر ومدير السي آي إيه ولم يضع الرئيس نيكسون وقتاً، بل وافق على خطة عاجلة لمنع الليندي من تولي السلطة دون النظر إلى المخاطر وكان الشعار “دعوا الاقتصاد يصرخ” وفق رواية المفكر المهم كريستوفر هيتشينز في كتابه المهم هو الآخر (محاكمة هنري كيسنجر).

وفّر البيت الأبيض مبلغ عشرة ملايين دولار وكان الهدف الأول هو التشجيع على تخلي الجيش التشيلي عن مبدأ التدخل في السياسة والذي حافظ عليه لسنوات طوال لكن كيف السبيل الى ذلك ورئيس الأركان الجنرال ريني شنايدر كان عقبة كبيرة أمام ذلك. فليذهب شنايدر!

علم كيسنجر بوجود ضابط إسمه الجنرال روبيرتو بيو كان مستعداً لقبول العرض الأمريكي بإزاحة شنايدر من على المسرح وعلى الفور تمت الموافقة على توفير الأسلحة وتم الإتصال بمجموعة أخرى بزعامة الجنرال كاميو بالينزولا اللتين تنافستا على اختطاف شنايدر وقتله حتى تم ذلك.

ما تبقى بعد ذلك من محاربة لحكومة الليندي مكتوب وموثق في سجلات التاريخ إلى الأبد!

***

لا يمكن الاحتفال بصمود ومقاومة وشجاعة الشعب التشيلي دون ذكر المخرج السينمائي والمناضل العتيد ميغيل ليتين الفلسطيني الأب واليوناني الام والتشيلي المولد والنشأة. واجه ليتين بشاعة أول أيام الإنقلاب اليميني ووشت جارتهم به إلى استخبارات الجيش حيث أبلغتهم ان الرجل كان مؤيداً للرئيس الشهيد وأن منزله كان مقراً لإجتماعات بعض نشطاء الحملة الانتخابية وهكذا اقتيد في ساعات الجنون إلى أحد المخافر المؤقتة لكن رقيباً تعرف عليه وأنس إليه: هل أنت المخرج السينمائي؟ نعم هو أنا.

سأله العسكري كيف يمكن أن يخرج الدم من أجساد الضحايا في السينما دون أن تكون الإصابات حقيقية، فشرح له بإسهاب وحين جاء الضابط المنوط به توزيع المحتجزين على المعتقلات وغياهب السجون أنقذه الرقيب بكذبة عاجلة: سيدي، هذا ليس معهم. هذا مواطن جاء يبلغ عن تحطيم سيارته. نظر إليه الضابط في تأفف ثم قال: يا للسخف! اخرج من هنا.

خرج ليتين وهو ممتن للرقيب المحب للسينما ثم تشرد هو وعائلته لبضعة أسابيع قبل أن ينجح في النجاة من بلاده العزيزة.

لا يمكن قص حكايات ليتين كلها ومقاومته وقد استمعت له مرات وقرات عدة نسخ من توثيق ماركيز لعودته إلى البلاد متنكراً في زي رجل أعمال أجنبي وقيامه بتصوير فيلم شجاع حدث العالم عن بشاعة العيش في تشيلي بينوشيه المحكومة بإقتصاد ما عرف بـ(مدرسة شيكاغو) وحماية السي آي إيه. قرأت ثلاث ترجمات للقصة إلى العربية وقرأت النسخة الإنجليزية وكل النسخ ممتعة. ما اسعد سكان هذا العالم الذين يجيدون الإسبانية إذ أن بوسعهم قراءة الحكاية كلها بلغتها الأصلية.

***

في كانبيرا تسجلت مع مجموعة كانت تنوي السفر في جولة على عدد من بلدان أمريكا اللاتينية تشمل تشيلي. دفعت الرسوم وتلقيت الاستمارات المطلوبة، وفي غمرة الاستعداد لتلك الرحلة تعرفت على خديجة فتزوجتها وتخليت عن الرحلة إلى يوم أتمنى ان نسعد فيه بالسفر -نحن والعيال- إلى عالم ألهمنا دائماً وجمل أنسنا وعلمنا الكثير وما نزال.

هذه سانحة أخرى لنهتف مع سكان العالم بالشعار الذي رفعه الرئيس الشهيد هناك في تشيلي: من أجل الخبز، السقف، والعمل.. فيفا أييندي!

Print Friendly, PDF & Email
محمد عثمان ابراهيم

كاتب وصحفي سوداني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  هل يرفع الغرب عقوباته عن رئيسي أم تفشل مفاوضات فيينا؟