في اللقاء الأخير، لم أجده مختلفاً عما إعتادت عينايَّ عليه. الطاووسية المعروفة عنه، نظرة وسلوكاً وكلاماً. لم أكتب مقالتي عنه قبل شهر ونيف. لربما لم أكن متأكدة تماماً أن “الجبران ما بيخلص”.
قبيل زيارة البياضة، كان السائد إعلامياً أن باسيل يُعرقل تشكيل الحكومة الميقاتية. يريد الرجل ثلثاً مسيحياً ضامناً ولأن الجميع ولا سيما حليفه الطبيعي حزب الله لا يمكن أن يقبلوا بذلك، لأسباب عديدة. “ممنوع أن ينكسر ميشال عون بالحكومة وبغيرها”. بعدها بيومين، تألفت الحكومة. كما يريد باسيل، لكن ليس بالثلث الذي أراده مُعطلاً، بدليل الوزراء الملتبسي الولاء في الحكومة وما أكثرهم، لكن الأصل أن عون “لم ينكسر”.
كنت أخبرته يومها أني قد أكتب عنه بورتريه، من وحي سياق معرفتي به منذ ثماني سنوات. ففي العام 2013، تعرفت إليه في مكتبه وزيراً للطاقة في حكومة ميقاتي.. ولم نجد كيمياء مشتركة. حتى التقينا صدفة مرة ثانية عام 2014، في مطار الطائرات الخاصة في قبرص حيث كنت أصوّر حلقة لبرنامجي التلفزيوني وكان قد صار وزير خارجية لبنان. في تلك المرحلة كان يصعب مشاهدته إلا وبرفقته وزير الدفاع الأسبق الياس أبو صعب. ثنائي راح يكتسح الأجواء الإعلامية والحزبية، وأيضاً قررت أن أبقى على مسافة حذرة. بالطبع، لم يكن يوماً إلا ودوداً ومحترماً ولكنه في الوقت عينه، لم يكن محبباً في أي مرّة. في أي كلمة ينطقها أمامك، حتى لو كانت مديحاً، شيء من الغرور غير المبرر. الأصح، كثير من الغرور. كان التواصل كتابة، في الواتس أب مثلاً، أقل إزعاجاً.. ومن يعرفه من الزملاء الصحافيين ويتواصل معه، يعرف الفرق بين هذه وتلك.
التقيت به مرة ثالثة عام 2014 حين دخلت منزله ومنزل زوجته شانتال في اللقلوق. تعرفت يومها إلى سيدة دافئة لطيفة قال عنها والدها إنها قلبه، وكلودين يده، وميراي عقله (بنات الجنرال الثلاث).
في طريق عودتي من تلك الزيارة، قلت الثالثة فالتة. قررت ألا ألتقيه مجدداً. فقد جعلني “الزعيم” أنتظر إنتهاء إجتماعه وهو صاحب الدعوة. هل هو يتعمد إشعار كل الآخرين بالدونية أمام مقامه الكريم؟ الحقيقة أن أبي كان وما يزال حريصاً على ألا يورثني شعوراً بالدونية إزاء أي سياسي، بل عكس ذلك، أورثني شيئاً من الكراهية لكل صاحب مقام، وزيراً كان أم أميراً.
ثمة خطاب مسيحي يقول إن المسيحيين يرون أن مار مخايل كان اتفاق الضعيف مع القوي، وأنهم يريدون تفاهم القوي مع القوي. ولكن وقائع السياسة والديموغرافيا والجغرافيا تقول إن المسيحيين إذا أرادوا أن يمضوا في نظرية “المسيحي القوي”، سينتهون إما في المطار أو تحت التراب
المهم. لم يعرف “الزعيم” سبب إبتعادي إحتجاجاً. في السنة التالية، رحت أشاهد فصول تسوية رئاسية غير مفهومة وأكتب عنها بلغة الإستياء، ويوم دخول الجنرال عون قصر الرئاسة، أعلنت القطيعة برسالة مفتوحة ومنشورة في العديد من المواقع الإلكترونية. ومنذ 2016 أصبح جبران الوزير أعلى رتبة. صار جبران الملك ـ الرئيس، وكل ما تأتى عن تلك التسوية من غرام حريري ـ باسيلي صرنا نعرفه جميعاً.
أكثر من ذلك، تعرفنا على خطاب باسيلي عنصري ضد اللاجئين السوريين (وقبلها ضد اللاجئين الفلسطينيين) إستوجب ردوداً من كثيرين وأنا واحدة منهم، حتى انني تمنيت فرض عقوبات ما عليه (قبل فرضها). إعتقدت أنها قد تقصّ جوانح غروره غير القابل للضبط بينما يتهاوى ما بناه ميشال عون منذ ثلاثة عقود وبلمح البصر.
كل ذلك تغير يوم شتموا والدته في الشوارع عام 2019. لأن ذلك أعطاه مظلومية محقّة، وبطبيعتي، أميل إلى المظلومين حيثما كانوا.
حين ذهبت أول مرة في ذلك العام وبعد كل تلك القطيعة، كان شخصاً مختلفاً. تبخرت فجأة شخصية الملك. خسر ما ظنها مملكة أبدية. كان محاطاً باللاحدود ومحاصراً باللاقدرة. عيونه تائهة. كلماته وجمله مفتوحة وتمشي على سطح الأشياء، كأنما الجلسة معه مجرد واجب تريده أن ينتهي سريعاً.
قبل عام ونيف، انزل الأميركيون به العقوبات الموعودة. قابلته وسجلت معه حديثاً بالإنكليزية للمحطة العالمية الهندية التي أعمل معها، فكان حديثاً رسمياً لا يبهر المشاهدين ولا المحاورة..
في لقاء البياضة الأخير، أردت أن أخبره أنني مسيحية طبيعية، وهناك من إنبرى يدافع عن “الحقوق”.. والنتيجة أنني أفكر للمرة الأولى بالهجرة. أشعر بأن مساحة العيش تنتهي وأن لبنان الذي كان وكنا نتأمل به يتهاوى. لكن قبل أن أقول ما عندي، بدا متعطشاً للكلام. تقمص شخصية جديدة. أكثر شراسة وأكثر دهاءً.. لكن الأكيد، أنه عاد ولو أنه لم يُغادر طاووسيته التي صارت صنو شخصيته.
اليوم أكتب (ولا أريد أن أندم مستقبلاً على كلماتي هذه)، وبالقلم الملآن، “جبران ما بيخلص” ولا زال صدى خطابه يوم السبت الماضي يُصدّح من نهر الموت، مُحملاً بالرسائل والعبر السياسية. خطاب عالي السقف، تبدى معه كأن شبح الحرب الذي استعرض ذاته بالدم على خط التماس الطائفي ـ المذهبي، أعاد الدفق للسياسة في بلد تعطلت فيه الحياة السياسية منذ سنوات. لكأن الموت أحياهم جميعاً. قنابل مبعثرة بين الجميع. حكومة مهددة بالتعطيل. قضية تفجير مرفأ العاصمة، تتوالى فصولاً. إنتخابات تجري أو لا تجري، وتسويات إقليمية وعالمية تنعقد أو تبتعد. دماء في شوارع بيروت. هل هي اللحظة السياسية التي لا نعرف سواها لكي نبني تسويات لبنان الجديد المجهول؟ وهل عندما يرتدي سمير جعجع البدلة العسكرية ويقول “مناطقنا” يُحدد لنا “حدود” تلك التسويات الآتية لا ريب؟
في هذه اللحظة، وقف رئيس التيار الوطني الحر على بعد كيلومترات قليلة من ساحة الطيونة ـ عين الرّمانة، مخاطباً حشداً من الحزبيين، متنقلاً بين قنابل السياسة وعبواتها برشاقة وخفة، واضعاً لكل تفصيل موقف وتعليل وتوضيح. قال لحليفه: لا يحق لك تخويننا إن اختلفنا ولا يمسّ كرامتنا أحد ولا ننتظر شهادة حسن سلوك من أحد. قال لخصمه وابن بيئته المسيحية: ألم تشبع من الدم يا ابن الحرب الأهلية والقناصات؟ قال للدنيا: ها قد عدت، بكامل عافيتي ونزَقي، وموعدنا معكم في الإنتخابات المقبلة.
قبل المضي في قراءة هذا النص، إقتضى التوضيح أن كاتبة هذه المقالة غير معجبة بجبران باسيل؛ غير راضية عن آدائه السياسي؛ غير منتمية لتنظيمه الحزبي؛ غير متفقة مع حسن أو سوء تدبيره. أكثر من ذلك، عودتنا تجربة الصحافة اللبنانية، وعمرها من عمر الكيان، أن المقالات مواقف، أو تسديد فواتير.. وأتفهّم من لا يفهمني من جمهور السوشيل ميديا. ما أبتغي الوصول إليه تبريد العقل من العواطف قبل متابعة كتابة النص، فأنا أراقب كأترابي، شخصية سياسية اعتبارية، شتمها اللبنانيون في شوارع 2019؛ شيطنها العالم والداخل، أنزلت فيها العقوبات 2020، وها هي تجد نفسها في نهاية السباق.. عندما تنتهي ولاية ميشال عون في خريف 2022. لكن قبل تاريخ مضى وآخر سيأتي، لا يمكن المرور مرور الكرام على حادثة الطيونة والخطاب المسيحي الذي رافقها وأعقبها.
في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990، أتى جورج بوش الأب إلى المنطقة وقرر حافظ الأسد أن يكون شريكه في تحرير الكويت، وكان لبنان هو “الجائزة”. طالما هناك سوريا وإيران وروسيا وأميركا و”إسرائيل” وعراق ومنطقة ملتهبة، لبنان مرشح لأن يكون مجدداً هو “الجائزة”… و”الجبران ما بيخلص”
ظنّ بعض المسيحيين أن الشيعة كادوا يجتاحون فرن الشباك وعين الرمانة وبدارو وأن هناك من ردّ عنهم الخطر الكبير. قالوا إن التكسير والهتافات الفئوية خوّفتهم، فلم يجرّموا القناصين. ولكن النظرة من المقلب الشيعي تشي بدماء ومظلومية وكمين وتآمر وكل مصطلحات الخوف. في المحصلة، انكمشت الناس على فئويتها وكبر “بعبع” الآخر. لذلك، يصبح الخوض في هكذا موضوع حساس أمام جمهور كبير عبارة عن حقل ألغام إختار وريث ميشال عون أن يقف في وسطه. نعم، يوم السبت الماضي، إستعاد جبران عباءة عمّه الأصليّة. تحدث بالسياسة لكنه كان أقرب إلى العسكري منه إلى السياسي. منبر الثالث عشر من تشرين، يوم أزاحت دبابات سوريا حافظ الأسد “الجنرال المتمرد”. قال باسيل من المنبر ذاته: هذا القنص عمالة وكفر وإجرام وحرام، وحماية المسيحيين ليست بجرّهم إلى هناك كما فعلت القوات في السابق، في نبش مكشوف لصفحة حرب الإلغاء. ذيّل تلك الفكرة بإستدراك غب الطلب: التظاهر السلمي لا يشمل التكسير في الأزقة.. عبارة يبلعها الحليف وحليف الحليف. إستعاد عمق ما تحقق في اتفاق مار مخايل بين “الجنرال” والسيد حسن نصرالله. بدا كمن يناور بالهامش المتاح إلى أقصى حدود مواجهة الخصم المسيحي. ترك جبران باسيل فسحة مفتوحة بينه وبين حزب الله اسمها طارق بيطار. حذّر من التخوين لما سماه “كرامتنا الوطنية”. من يقول إن بيطار “مشروع صهيوني”، عليه أن يتحرر من التحالف مع “التيار”. قالها من على المنبر: لسنا مع تنحية بيطار!
هل بدأت رحلة تفاهم مار مخايل تقترب من نهايتها؟ هذا سؤال كثيرين في الداخل والخارج. سؤال قيل إن الدبلوماسية الأميركية طرحته على جبران قبل أن تنزل به وزارة الخزانة عقوبات ماغنتسكي. هذا سؤال يطرح كلما يظهر ناجي حايك وخطابه في أي مكان ليعكس عقلية قواتية لدى قواعد التيار. عقلية جعلت عونيين في الشياح وعين الرمانة أقرب إلى معراب من مار مخايل يوم الخميس الماضي. هذا سؤال يومي في السياسة اللبنانية، هل يطلّق جبران الحزب، فيفوز بلقب ملك غرام وإنتقام الغرب ويحجز مقعده المستقبلي في “جل بعبدا” أو أنه يكمل طريق الـ”وان واي تيكيت” التي حجزها ميشال عون وسار فيها من مار مخايل إلى بعبدا حتى اليوم.
السؤال نفسه طرحه جبران باسيل على الناس في نهاية خطابه قائلاً: يا لبنانيين اختاروا، بين تواطؤ الطيونة وبين تفاهم مار مخايل؟
ثمة خطاب مسيحي يقول إن المسيحيين يرون أن مار مخايل كان اتفاق الضعيف مع القوي، وأنهم يريدون تفاهم القوي مع القوي. ولكن وقائع السياسة والديموغرافيا والجغرافيا تقول إن المسيحيين إذا أرادوا أن يمضوا في نظرية “المسيحي القوي”، سينتهون إما في المطار أو تحت التراب.
في ذكرى هزيمة “الجنرال” أمام السوريين، وقف جبران باسيل على منبر الذكرى الـ31 وافتتح كلامه بالقول: انسحب الأميركي من المنطقة، وبقي الأسد. في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990، أتى جورج بوش الأب إلى المنطقة وقرر حافظ الأسد أن يكون شريكه في تحرير الكويت، وكان لبنان هو “الجائزة”. طالما هناك سوريا وإيران وروسيا وأميركا و”إسرائيل” وعراق ومنطقة ملتهبة، لبنان مرشح لأن يكون مجدداً هو “الجائزة”… و”الجبران ما بيخلص”!