أما الشقيق الثاني لصاحب الحكيم، فهو السيّد ناجي (سجن بعد 8 شباط/ فبراير 1963)، وبعد إطلاق سراحه، عمل في لجنة محلية الكرخ لغاية العام 1970 وقد اعتُقل في قصر النهاية.
أما أخته العلوية زهوري، فهي زوجة الرفيق حسن عوينة الذي استشهد عام 1963، وكان حينها عضواً في لجنة الإرتباط لتنظيمات الحزب مع الألوية (المحافظات) والمكاتب في إطار لجنة التنظيم والرقابة المركزية.
والدته هي العلوية زكيّة التي عملت كمراسلة لأكثر من مرّة بتكليف من الحزب الشيوعي. ففي كامل مرحلة الخمسينيات كانت تزور السجون العراقية للقاء المعتقلين من أبنائها، فما أن يخرج واحد حتى يدخل آخر وهكذا. وكانت والدته وشقيقتاه عضوات في رابطة المرأة العراقية بعد ثورة 1958.
أما والده جليل الحكيم فعلى الرغم من كونه يعمل مرشداً في حضرة الإمام علي، إلا أنه كان متعاطفاً مع اليسار مثله مثل العديد من سدنة الروضة الحيدرية من آل الحكيم وآل الرفيعي وآل الخرسان وآل شعبان وغيرهم، إضافة إلى عوائل دينية معروفة مثل آل الشبيبي وآل سميسم وآل الجواهري وآل بحر العلوم وآل الدجيلي وآخرين، وحين اعتقلت زوجة الرفيق محمد حسن مبارك في الحلة قاد السيد جليل الحكيم وفداً لإطلاق سراحها، فإلتقى بالسيد محسن الرفيعي مدير الإستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع وطلب منه التدخل لدى الزعيم لإطلاق سراحها ونجح في مهمته وهو ما ترك أثراً طيباً لدى النجفيين.
الجدير بالذكر أن منزل السيد جليل الحكيم هو الذي استضاف أول كونفرنس للحزب بعد الثورة في منطقة الفرات الأوسط حضره سلام عادل وهو ثاني لقاء بين صاحب الحكيم وسلام عادل كما أخبرني.
وعلى ذكر سلمان الحكيم فقد كان صديقاً لوالدي عزيز شعبان، وقد رفض جميع المغريات خلال فترة الجبهة، وبشهامة منقطعة النظير وبمروءة عالية استضاف صاحب الحكيم لعدّة أشهُر حين تسلل الأخير إلى بغداد في العام 1983 لإعادة التنظيم وتلك قصّة درامية أخرى، لا يتّسع المجال لذكرها في هذا المقام.
وكان السيّد سلمان الحكيم بعد العام 1958 عضواً في لجنة مختصّة بالوسط الديني مؤلفة من الشيخ باقر الفيخراني والسيد نوري الموسوي وهما خطيبان منبريّان والسيد أحمد الحكيم (نجل السيد سعيد الحكيم البصراوي) والشاعر عبد الحسين أبو شبع الذي كان عضواً في الحزب قبل ثورة 14 تموز/يوليو 1958 وإسمه الحزبي “علي“، وتتبع هذه اللجنة أكثر من خلية وحلقات أصدقاء ومتفرقين يتوزعون على خدم الروضة الحيدرية والحوزة الدينية وقرّاء المنابر الحسينية وأصحاب المواكب، وكان بعضهم من أنصار السلام. وكانت النجف تعرف تاريخهم أذكر منهم الشيخ حبيب سميسم ومحمد مصطفى الحكيم (الذي سبق له أن إلتقى بفهد) وحسن الحكيم (الذي استشهد عام 1979) وثلاثتهم كانوا معتقلين معنا في خان الهنود والشيخ مجيد زيردهام والشيخ عبد الحليم كاشف الغطاء والشيخ ابراهيم أبو شبع وعدد من مرشدي حضرة الإمام علي من العوائل التي جرى ذكرها وهي تابعة للجنة المثقّفين، وكان لولبها السيد سلمان الحكيم الذي يملك “فندق النجف” في دورة الصحن الشريف، وبالقرب منه محل والدي المستأجر من صالح معلّة بعد أن انتقل من (السوق الكبير) لفترة قصيرة، ثم عاد إليه في العام 1959.
وكان بجوار الفندق أيضاً آل سنجر ومحلّهم المعروف لبيع ماكينات الخياطة، ومصطفى الأطرقجي الملقّب “أبو الزوالي – محل لبيع السجاد” ويقترب منه دكّان سهل الخيّاط (المبالِغ في يساريته) وهو والد جواد الطالب الذي كان معنا في الحزب الشيوعي وهو خال علي ناجي بر، وبين هذا الوسط كان السيّد خلف الحبوبي وتعليقاته على لقاء عفوي يجمع من يريد الإطلاع على جريدة “إتحاد الشعب” أو تصفّح بعض المجلّات السوفيتية مثل “المدار” وصحف مثل “أنباء موسكو” ومنشورات وكالة “نوفوستي”. وكان يشير بإصبعه إلى الخط الأحمر، لكن هذه اللقاءات التي استمرّت لأشهر سرعان ما انقطعت بعد تدهور العلاقات السياسية.
خان الهنود
يرجع بناء “خان الهنود” في النجف إلى القرن التاسع عشر، حيث قامت مجموعة تنتمي إلى “طائفة البهرة” ببنائه لإستضافة القادمين لزيارة مرقد الإمام علي والتبرك به. والبهرة طائفة إسماعيلية نسبةً إلى إسماعيل إبن الإمام جعفر الصادق الذي ينسب إليه “المذهب الجعفري”، وتعود أصولها إلى أيام الدولة الفاطمية حيث يوجد لها بعض المزارات مثل ضريح “حاتم الحضارات” الداعية الفاطمي المدفون في منطقة حراز (غرب صنعاء عاصمة اليمن) ومسجد الحاكم بأمر الله في القاهرة. ويبلغ نفوس طائفة البهرة في العالم نحو مليون شخص.
إنعقدت صداقتي مع صاحب الحكيم في موقف “خان الهنود”، الذي كان مركز الشرطة الرئيسي في النجف، وتلك إحدى المفارقات، حيث كان قد سبقنا إلى ذلك المكان، وكان المسؤول الحزبي عن المعتقلين الذين بدأوا يتوافدون بالعشرات، بل بالمئات إلى خان الهنود ومنها يتم ترحيلهم، وبعد استدعائه للتحقيق في الحلّة نصّب مسؤولين إثنين، ففي حالة غياب أحدهما أو إستدعائه للتحقيق يتولّى الثاني (الظل) محلّه، وفي حالة وجودهما يتم التوافق بينهما، ويقوم أحدهما بمسؤولية العلاقة بالإدارة، الأول جواد الرفيعي مدرّس اللغة العربية والثاني حسن الخرسان من سدنة الروضة الحيدرية، وكلاهما من عائلة دينية معروفة ومن حضرة الإمام علي.
حين تكدسنا في بهو المعتقل، طلب الحكيم إرسال الطلاب إلى الغرفة التي يعيش فيها وهي لا تسع لأكثر من 30 إلى 40 شخصاً، ولكن عددنا أصبح 88 معتقلاً وأحياناً يأخذ بالنقصان إلى 15 أو 20 وأحياناً يعود إلى سابق عهده. وعلى الرغم من وجود معتقلين عاديين معنا إلاّ أن الحكيم كان يحظى بإحترام وهيبة كبيرين، سواءً من جانبهم أو من جانب الإدارة، وحاول أن يقوّي معنوياتنا وأن يرشدنا وأن ينبهنا، إذ كان غالبيتنا يُعتقل لأول مرة، فضلاً عن صِغَرِ سنّنا حيث كانت تتراوح أعمارنا بين 16 – 17 سنة، باستثناء الصديق العزيز كاظم عوفي البديري الذي لعب دوراً في تلطيف الأجواء من الرسم إلى المطارحات الشعرية، إلى أن اختصّ بحلاقة شعر رؤوسنا التي طالت وامتلأت بالقمل، حتى أنه أصبح من أمهر الحلاقين في العراق بعد خروجه من المعتقل، وإنتسابه إلى كليّة التجارة (لاحقاً)، حيث عمل مساءً في صالون توكالون في الكرادة.
ومن بين الطلبة المعتقلين أذكر كوثر الواعظ وطارق شكر (الصراف) وجبار رضا عبد ننة (العلي) وعلي الخرسان وكاظم شكر وفاضل جريو، إضافة إلى عبد الله الشمرتي وحسن رجيب ورحيم كاطع الغزالي وآخرين. وقد اعتُقلنا في يومٍ واحد (10 شباط/فبراير) باستثناء علي الخرسان الذي اعتُقل قبل 8 شباط/ فبراير لتوزيعه منشورات تدعو للسلم في كردستان في أحد المقاهي الشعبية بناءً على قرار الحزب، فتم اعتقاله، كما أن كاظم عوفي كان قد اعتقل قبلنا، وقد اعتقل معنا بعض أساتذتنا منهم داوود ملاّ سلمان وجواد الرفيعي، إضافة إلى العشرات من الوجوه النجفية التي يعرف بعضها البعض.
وقد حرص الحكيم على تجنيبنا بعض المواقف التي غالباً ما تحصل في المعتقلات والسجون، حيث تتم بعض التحرشات والإعتداءات وذلك بوضع ضوابط للنوم والإستيقاظ، خصوصاً أن المعتقل كان يكتظ بالعديد من المعتقلين وبعضهم من العاديين.
على حافة الشهادة
بعد شهر ونيّف إقتيد الحكيم إلى مركز تحقيق في الحلّة، بناءً على اعترافات، وتم تعذيبه في مقر الحرس القومي على يد عبد الوهّاب كريم الذي أصبح له شأنٌ كبير بعد إنقلاب 17 تموز/يوليو 1968 ولكنه قتل بحادث سيارة غامض، وكاد الحكيم (أبو بشائر) أن يلفظ أنفاسه من جرّاء التعذيب الوحشي، إلاّ أنّ استشهاد “شهيد خوجة نعمة” قبله، وهو من أهالي الحلّة المعروفين، دفع الجناة إلى عدم الإستمرار في تعذيبه. وكي لا يتحملوا المسؤولية، فقد أرسل مع مجموعة من الرفاق إلى مديرية الأمن العامة في بغداد ومنها إلى قصر النهاية ثم إلى مركز شرطة المأمون كما أشرت في مطالعة لي بعنوان “مقهى ورواد ومدينة” وهي سردية استذكارية عن النجف.
وقد أورد الحكيم بعض تفاصيل تلك الرحلة المجهولة في كتاب مذكراته الموسوم “النجف –الوجه الآخر: محاولة استذكار” 2011، حيث إلتقاهم محسن الشيخ راضي رئيس الهيئة التحقيقية الخاصة والمسؤول عن قصر النهاية وهم معصوبو العينين، فأمر بنقلهم إلى مركز شرطة المأمون وذهب لاحقاً لتفقد أحوالهم وهو ما يذكره الشيخ راضي أيضاً في كتابه “كنت بعثياً- ج1- من ذروة النضال إلى دنو القطيعة”(2021). وقد سبق للحكيم أن أكدّ ذلك، وأن الشيخ راضي طلب من آمر الحرس القومي في المأمون تحسين معاملتهم؛ وهو ما سمعه من مهدي الشرقي أيضاً القيادي البعثي حين نقله إلى النجف.
وقد اعتذر محسن الشيخ راضي بشجاعة للشعب العراقي في ما سبّبه له خلال تلك الفترة السوداء، وهو ما أكدّه لي خلال مقابلة خاصة سبق أن أشرت إليها أكثر من مرّة في كتاب “سلام عادل الدّال والمدلول” إذ قال بصراحة لا أعفي نفسي وكلّنا مرتكبون، وإن تفاوتت المسؤوليات وقد حاول إجراء مراجعة لتلك الفترة وللصراع السياسي الذي دار بشكل لا عقلاني ولا مبرّر ودفع الشعب العراقي بجميع قواه الوطنية ثمنه باهضاً.
وبالمناسبة فقد حظي الحكيم حسب علمي باحترام البعثيين والقوميين في النجف وهو ما لمسته من محسن الشيخ راضي وعبد الحسين الرفيعي ومهدي الشرقي وأحمد الحبوبي ومحسن البهادلي وعبد الاله النصراوي وجواد دوش، وخلال فترة ما سمّي بـ”المد الثوري” أو “الإرهاب الأحمر” كان يميل إلى عدم التشدّد ويسعى لإيجاد حلول للخلافات وعدم اللجوء إلى استخدام القوة أو العنف، وهو ما حصل في إنتخابات الطلاب الأولى، حيث تم الإتفاق مع الإدارة والقوى الأخرى على بعض المستلزمات لإنجاح العملية الإنتخابية.
وخلال فترة وجوده في قيادة محلية النجف وحتى قبل أن يكون المسؤول الأول لا توجد حوادث كبرى قد حصلت باستثناء بعض الإستفزازات للآخرين منها محاولة تفتيش القيادي البعثي صدقي أبو طبيخ الذي كان قادماً من السفر ويحمل حقيبة، والتعرّض لمكتب المحامي القومي المعروف وعضو قيادة جبهة الإتحاد الوطني في النجف والمنسّق مع اللجنة العليا في بغداد أحمد الحبّوبي، وهو ما أثار سخط أوساطٌ غير قليلة ضد تصرفات المقاومة الشعبية، خصوصاً محاولة الشيوعيين إحتكار العمل السياسي والنقابي وإستفزاز بعض رجال الدين الذين حاولوا أن يؤلبوا الشارع ضد الحركة الشيوعية مستغلين بعض نقاط الضعف في إطار دعايةٍ هجوميةٍ وتحريض لبعض أجهزة الدولة التي توّجت بالفتوى التي أصدرها لاحقاً السيّد محسن الحكيم المرجع الأول (الصورة أعلاه)، باعتبار الشيوعية كفر وإلحاد (شباط/فبراير 1960).
ولعلّ تلك مفارقة كبرى أن يكون صاحب الحكيم وأعداد غير قليلة من آل الحكيم والعوائل الدينية المعروفة من الرجال والنساء أعضاء في الحزب الشيوعي ووجوهاً إجتماعية معروفة وأن تصدر فتوى من السيد محسن الحكيم بتحريم الشيوعية.
السحل
ولا يسعني في هذه الفقرة إلا أن أذكر الحادثة التي كادت أن تمزّق النسيج الإجتماعي، خصوصاً إرتفاع موجة الكراهية والإنتقام والإنفلات بإندفاع بعض المتطرفين للإيقاع بأحد المحسوبين على التيار القومي العربي بزعم أنه متآمر وإسمه “مهدي محسن بحر” أو “مهدي الخبازة” كما كان يعرف، فحاولوا سحله، وحدث هرجٌ ومرجٌ بين مؤيد ومعارض، وقد كان الحكيم حاضراً، فاندفع بشدّة ومعه محمد موسى وحسن عوينة للتهدئه وارتقى كتف أحد الرفاق ليخاطب الجمع بإسم اللجنة المحلية للحزب الشيوعي، وفعل حسن عوينة ذلك أكثر من مرّة وكذلك محمد موسى، لكن الحقد كان يغلي في عروق الجموع المحتشدة. وهنا بادر العقلاء إلى إدخال “المغدور” في دكان حلاّق للحفاظ على حياته وخشية من انتقام المتعصّبين الغاضبين.
أتذكّر تلك الحادثة كأنها حصلت يوم أمس، كما أتذكر كلمات الحكيم وعوينة ودعوة المحتشدين إلى التفرّق والإنصراف إلى بيوتهم وإنهاء الإجتماع الذي لا أتذكّر مناسبته، وهو من الإجتماعات التي كانت تُعقد تأييداً للثورة أو لبعض إجراءاتها، كما طالبوهم الإقلاع عن أي محاولة تستهدف الإخلال بالأمن أو تعكير صفو العلاقات بين النجفيين خارج القانون والنظام. وبالفعل تم إنقاذ مهدي محسن بحر الذي كان هو الآخر متشدداً في إستفزاز المحتشدين بكلماتٍ نابية، وحسبما أتذكر أو سمعت ذلك فإن الحكيم اقتاده إلى منزله ليطمئن على وصوله سالماً.
وفي حوار معه أكّد أنه لم يكن هناك حزم حزبي ضدّ مثل هذه التصرفات لكبح جماحها بما فيه الكفاية، الأمر الذي شجّع على شيوع ظواهر التطرّف والإقصاء. ولعّل مثل هذا الإقرار والمراجعات حتى وإن تأتي متأخرة فإنها مفيدة للمستقبل وللأجيال الجديدة دون تبرئة القوى الأخرى ومسؤولياتها في إذكاء نار الصراع، فالتعصّب ووليده التطرّف لوثة فكرية إذا ما استفحلت فإنها تنتج عنفاً وإرهاباً. فحتى أعظم الأفكار والفلسفات وأكثرها نبلاً وإنسانية، فإنها لا تعصم الإنسان من إرتكاب الأخطاء وحتى الجرائم أحياناً خصوصاً بإدّعاء إمتلاك الحقيقة والأفضلية على الآخر.
قد جرت مناقشات بين عدد من وجهاء النجف وبعضهم على ملاك الحركة الشيوعية مثل عزيز عجينة وأمين عجينة ومعين شعبان وعبد الحسين أبو شبع والسكافي وأحمد الشمرتي وعبد الرزاق سميسم وسلمان الحكيم وغيرهم وكذلك شملت المناقشات بعض الشخصيات الدينية من بينها السيد محمد الحسني البغدادي والشيخ محمد شعبان والشيخ عباس شعبان وآخرين عن جدوى مثل تلك الأعمال ووجّهت إنتقادات بعضها أتى شديداً وبعضها خفيفاً إلى تصرفات المقاومة الشعبية غير المنضبطة والإستفزازية ضد الناس ومصالحهم بسبب نقاط التفتيش التي كانت تقيمها بزعم البحث عن المتآمرين، وكانت في الواقع تعني تعقّباً وملاحقةً لحركة القوى الأخرى، ولا سيّما القوى القومية العربية (البعثية والناصرية) والقوى الدينية الإسلامية، وهذه الأخيرة نشطت على نحو ملحوظ في التصدي للتيار الشيوعي بتأسيس “جماعة العلماء” و”حركة الشباب المسلم” وغيرها وكانت تلك بدايات لتأسيس حزب الدعوة الإسلامي، وقد سبق لي أن دخلت في حوار معمّق مع السيد محمد بحر العلوم بخصوص تلك المرحلة وتداعياتها، وكنت قد أبديت ملاحظات بشأنها منذ وقتٍ مبكّر وعدت ودونت بعض الآراء النقدية في سردية عن السيد محمد باقر الصدر المنشورة في صحيفة “المنبر” الذي كان يصدرها السيد حسين الصدر الموسومة “حلّق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة” (نشرت في صحيفة “المنبر”، العدد الثاني والخمسون، لندن، أيار/مايو 1999).
العامري – أبو كلل
أثّرت تلك الحادثة وحادثة أخرى، قتل فيها عامر العامري (من ألبوعامر) المحسوب على الحركة الشيوعية، أكرم هندي أبو كلل المحسوب على الحركة القومية، في نفسي على نحو شديد، ودفعتني تدريجيّاً إلى نبذ العنف، بل والإشمئزاز منه بتقوية ميولي اللاّعنفية، على الرغم من التنظيرات السائدة عن “العنف الثوري” التي كنّا نردّد بعض عباراتها ونحفظ بعض جملها، فقد كنت أعتبرها ضمن وعيي البسيط آنذاك مجرد مقولات للكتب وللتثقيف وليس للتطبيق والممارسة، خصوصاً في مجتمعاتنا المترابطة والمتشابكة.
لقد قاد مقتل أكرم هندي أبو كلل إلى أن يقوم شقيقه أحمد هندي أبو كلل المعروف بجرأته بقتل رئيس عشيرة ألبو عامر “مهدي العبد” وهو شيخ وقور وعضو في منظمة أنصار السلام والتي كان رئيسها الدكتور خليل جميل وسكرتيرها العام صاحب الحكيم، ثم قام عدد من أفراد عشيرة ألبو عامر بقتل السيد حسن الرفيعي الكيليدار في حضرة الإمام علي، الذي اختبأ القاتل أحمد هندي أبو كلل في منزله، حين أجهز على مهدي العبد بعد أن لاحقوا الضحية في بغداد.
وقد أوقعتني تلك الحوادث في حيرة شديدة أساسها كيف أساوي بين القاتل والمقتول وكلاهما من أصدقائي (عامر العامري وأكرم أبو كلل)؟ وكيف أشعر إزاء مقتل مهدي العبد الشخصية المعروفة وهو صديق عمّي ضياء من جانب، في حين أن أحمد أبو كلل (قاتل العبد) صديق عمي شوقي؟ ثم كيف لي أن أستوعب مقتل السيد حسن الرفيعي وهو جار الشيخ محمد شعبان والد حسن شعبان وبالقرب من منزلنا، خصوصاً وأن علاقة عائلية حميمة تربطنا مع آل الرفيعي؟ وهكذا ترى العلاقات متشابكة ومتداخلة ومترابطة وهو ما أشرت إليه في بحث نشرته بعنوان “العنف وفريضة الّلاعنف.. شذرات من تجربة شخصية” في مجلة “آفاق عراقية”، كما نشرت في صحيفة “الزمان” العراقية في 30 كانون الأول/ديسمبر 2018.
التواصل البغدادي
بعد خروجه من السجن، إلتقيت الحكيم حين وصلتني رسالة شفوية منه عبر كاظم عوفي، وكان قد حدّد لي موعداً في شارع الرشيد قرب سوق الصفافير وهو يعرف أنني أتردد على “خان شعبان” في سوق المرادية بعد إنتهاء دوامي في الجامعة، وكنت حينها في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، وطال حديثنا لاستعادات واستذكارات، ثم اصطحبته إلى منزلنا ليستدلّ عليه وأعطيته رقم هاتفي للإتصال وقد سألني عن النشاط الطلابي الجامعي، فقلت له ما يزال محدوداً، وكانت تأثيرات الضربة التي تعرّض لها الحزب والإتحاد قائمة، إضافة إلى ذلك تأثيرات خط آب.
وقد استفسر مني عن التنظيمات الجديدة التي تشكّلت في النجف بعد الإنقلاب وقد أطلعته على المحاولات التي شاركت فيها، وهي تشكيل لجنة اجتمعت لمرتين في بيت عبدالله الشمرتي دون أن تكون له علاقة بذلك، سوى تهيئة مستلزمات الإجتماع، ومرّتين في الكوفة في بستان سهام الماضي، وأجرت إتصالات حينها مع مركز الفرات الأوسط بقيادة باقر ابراهيم، وضمّت عدنان الخزرجي ومحسن القهواتي وصادق مطر وجبّار (كفاح) سميسم وكاتب السطور، والتحق بها في آخر إجتماع بترتيب مني علي الخرسان، كما كان يتبعها لجنة في الكوفة ضمّت محمد الكويتي وعبد الأمير السبتي وسهام الماضي، وكان للجنة النجف امتدادات واسعة، وهو ما ذكره في كتابه عن “النجف.. الوجه الآخر“.
وبالمناسبة فاللجنة المذكورة، بعد أن اعتقل بعض أركانها تشتتت وعادت وإلتقت مع المسؤول الجديد عبد الرزّاق السبيس، وضمّت عباس فيروز العامل في الخياطة وحسّون صاحب مقهى، وكان لها صلة فرديّة مع عبد الحسين الشيباني (عضوها) لكنها قررت الإبقاء عليه بارتباط خاص لعمله في دائرة الكهرباء. وتفككت أواصر اللجنة بعد “خط آب”، وكنت قد انتقلت كلياً إلى بغداد لإلتحاقي بالجامعة. وعرفت من المراسل عبد الأمير الغرّاوي أن منظمة النجف رفضت توزيع بيان آب.
وقد سمعت عن “خط آب” 1964 لأول مرّة من أحمد سنجر وكان يعمل مترجماً في السفارة البلغارية الذي زارني إلى الكلية وأطلعني على نسخة منه، واصطحب في المرة الثانية معه حسن شعبان بعد أن كان الأخير قد قام بزيارة إلى الكويت بغرض العمل ولم تكن موفّقة، وكان قد صدر الحكم ببراءته بعد إعتقاله لبضعة أشهر في الموقف العام (القلعة الخامسة) في قضية التحضير لمهرجان هلسنكي للشباب والطلاب (صيف 1962)، وصادف أن أطلق سراحه قبيل إنقلاب شباط/فبراير 1963، فإختفى في النجف طيلة فترة البعث. وقد سبق لي أن رويت قصّته في مطالعتي عن “حركة حسن السريع” الموسومة “من دفتر الذكريات – على هامش حركة حسن السريع” (نشرت في جريدة الناس على حلقتين في 15 و25 آب/أغسطس 2012).
وفي كل لقاء كنّا نستعيد بعض المحطات، وحين حدثت هزيمة حزيران/يونيو 1967، ونشطت القوى جميعها للتصدي لها في تظاهرات واحتجاجات، كان رأيي أن شعار “إزالة آثار العدوان” هو شعار لا يصلح لحزب عريق مثل حزبنا، وألمحت في أكثر من مناسبة إلى نقدٍ مباشر أو غير مباشر للموقف السوفييتي، وهو ما عدت وبلورته في موقف متكامل منذ أواسط الثمانينيات في ما كتبته عن الموقف السوفييتي من قرار التقسيم: بين الإيديولوجيا والسياسة، وسبق لي أن ألقيت أكثر من محاضرة في مركز الدراسات الفلسطينية في الشام وبيروت ونشرت جريدة “الحقيقة” التي تصدر في بيروت من جانب “رابطة الشغّيلة“، ومثل هذا الرأي كنت أجادل فيه على شكل أسئلة وتساؤلات وإنتقادات واعتراضات حتى تبلور بشكل نهائي بتخطئة الموقف السوفييتي وما تبعه من موافقة الأحزاب الشيوعيّة على قرار التقسيم.
وقد سبق لي أن عرضت العديد من مواقف أحزابنا في كتابي “تحطيم المرايا- في الماركسية والإختلاف” وكان آخر ما قرأته في كتاب منير شفيق “من جمر إلى جمر” حيث روى له الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني فؤاد نصّار (كان حينها في المكتب السياسي) حين كان في سجن الجفر أنه كتب مقالاً لجريدة “الإتحاد” التي يصدرها الحزب وهو رئيس تحريرها وصف فيه قرار التقسيم بـ”الإستعماري البريطاني”، وفي الساعة الرابعة صباحاً أيقظ عامل التصفيف الذي يصفّ الأحرف ويركّب المقالات في مطبعة الجريدة، حيث كان نصار ينام في المطبعة وخاطبه قائلاً: يا رفيق أبو خالد “قوم شوف” لقد وافق الرفيق أندريه غروميكو (مندوب الإتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة حينها) على قرار التقسيم”، فقام فؤاد نصار كمن لسعته أفعى وطلب منه إلتقاط إذاعة موسكو ففعل، وعبرها تأكد من صحة الخبر، فما كان منه إلا أن سحب المقال السابق المعارض لقرار التقسيم، وكتب مقالاً جديداً على الفور عنوانه “قرار التقسيم في مصلحة الشعبين الشقيقين اليهودي والفلسطيني”!
وقد تابعت تغيّر الموقف السوفييتي من وصف مشروع الهجرة اليهودية باعتباره مشروعاً رجعياً إستعمارياً مرفوضاً إلى إعتبار “إسرائيل” واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط حسب تصريحات مولوتوف وزير الخارجية السوفييتي (1954). وذلك بعد أن سمح الإتحاد السوفييتي بهجرة اليهود السوفييت في أواخر الثمانينيات، وهو ما انتقدته بشدّة على الرغم من تأييدي لتوجّهات البريسترويكا (إعادة البناء) والغلاسنوست (الشفافية) بعد أن هيمنت البيروقراطية الحزبية وترهّلت كيانات الحزب والدولة واستشرى الفساد إلى حدود مريعة وتلكّأت التنمية بإنسداد الآفاق والإختناقات الإقتصادية، ناهيك عن شحّ الحريات التي وإن اعترف بها الحكيم إلاّ أنه كان يجادلني بالضدّ منها رافعاً من شأن الإيجابيات ومقلّلاً من شأن السلبيات.
صحيح أن الموقف السوفييتي تغيّر بعد العدوان الإنكلو- فرنسي “الإسرائيلي” العام (1956) وكان إنذار بولغانين محطة حاسمة في هذا التحوّل، لكنه استمر دون أن يرقى إلى الموقف المبدئي حتى العام 1969 حيث إتخذ المؤتمر العالمي للأحزاب الشيوعية والعمالية قراراً مؤيداً لحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني، وحسب حواري مع عامر عبد الله المفكّر الشيوعي قال لي: إنه سعى في محاولات عديدة لإقناع السوفييت بضرورة وأهمية مثل هذا الموقف بالنسبة للعرب، وهو ما كان رأي نوري عبد الرزّاق حين عمل سكرتيراً عاماً لإتحاد الطلاب العالمي (1960-1967).
(*) الجزء الأول:سيولوجية الشيوعية في النجف.. سيرة صاحب الحكيم