كانت إيران في ظل حكم الشاه محمد رضا بهلوي تُمثّل الشرطي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وحليفة “إسرائيل” وصديقة السعودية ودول الخليج، خاصة في مواجهة التجربة الناصرية.. كانت أيضاً الخاصرة الرخوة للإتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية في زمن الحرب الباردة.
أطلّ قائد ثيوقراطي يدعى آية الله العظمى الموسوي الخميني من منفاه في باريس ليقلب المشهد الإيراني والإقليمي رأساً على عقب، فقد أطاح بنظام الشاه من خلال ثورة شعبية عارمة وأخرج إيران من دائرة تحالفها مع واشنطن وتل أبيب والغرب من دون أن يقترب من السوفيات، تأسيساً على شعار ثورته “لا شرقية ولا غربية.. دولة اسلامية”. وكان في جوهر هذا الشعار محاولة القول إن الأولوية ستكون للدولة الإيرانية الإسلامية مع تطمين الإتحاد السوفياتي من جهة، لكن من دون استفزاز أمريكا والغرب من جهة أخرى، عبر الإشارة الضمنية لهؤلاء بأن إيران لن تكون حليفة للسوفيات.
وفي أول تطبيق فعلي لهذا الشعار، طارد النظام الجديد الحزب الشيوعي الإيراني (“تودة”) فاعتقل قادته وأعدمهم إلى جانب أكثر من عشرة آلاف من نشطاء الحزب وكوادره، ولم يسمح بدفنهم إلاّ في مقبرة خاصة أسموها “مقبرة الكفار”، وفي الجهة المقابلة، اقتحم حشد من الطلاب مقر السفارة الأمريكية في طهران، “وكر التجسس” كما وصفوها، واحتجزوا العشرات من موظفيها رهائن لمدة زادت عن العام لمطالبة واشنطن بتسليم الشاه المخلوع.
ولأن الخميني كان يؤمن أن قضية فلسطين هي قضية إنسانية وأخلاقية ودينية قبل أن تكون سياسية بالنسبة إليه كرجل دين، تم تحويل سفارة “اسرائيل” في طهران إلى سفارة “فلسطين” وقدّم مفتاح السفارة للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. لكن واشنطن سرعان ما استشعرت خطر الثورة الإيرانية على الأنظمة الخليجية من جهة ومنابع النفط وممراته في الخليج من جهة ثانية، فأوعزت لحلفائها الخليجيين تحريض الرئيس العراقي صدام حسين لإطلاق هجوم عسكري كبير على إيران فقط بعد أربعة أشهر من انتصار الثورة الإسلامية تحت ذريعة عدم السماح بـ”تصدير الثورة” إلى دولهم، خاصة وأن العراق دولة ذات غالبية شيعية والأمر نفسه يسري على البحرين، ناهيك بالمنطقة الشرقية في السعودية التي تعتبر من بين مناطق المملكة الأغنى بالنفط.
حينذاك، لم يكن الجيش الإيراني قد بلع معطيات الثورة التي أعدمت فور انتصارها 15 ألف ضابط من مختلف الرتب بسبب ارتباطهم بواشنطن (شكّل الجيش الإيراني الأداة الفعلية التي أعادت الشاه إلى الحكم عبر انقلاب عسكري هندسته الإستخبارات الأمريكية (“سي اي ايه”) بالتنسيق مع الإستخبارات البريطانية (“إم آي 6”) في 19 أغسطس/آب عام 1953 ضد رئيس الوزراء محمد مصدق على خلفية قراره تأميم الصناعات النفطية في البلاد التي كانت تهيمن عليها بريطانيا)، كما كان قد فرّ من إيران عشرات الآلاف من الضباط الآخرين وبالتالي فإن الجيش الإيراني كان لحظة الهجوم العراقي على إيران يعاني من نقص كبير في عديد الضباط، في ظل إدارة عسكرية فتية وغير محترفة، وهذا ما جعل العراقيين يتمكنون من تسجيل تقدم ميداني هائل على طول الجبهة الإيرانية، فسيطروا على العديد من المدن، وأبرزها مدينة خورمشهر.
خلال الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، ضخّت دول الخليج مئات مليارات الدولارات في الصناعات العسكرية الأمريكية، وأدخلت العراق في دين عام قُدّر بمئات مليارات الدولارات (وحدها الكويت كان لها ديون في ذمة العراق تقدر بحوالي مائتي مليار دولار)، وعندما توقفت الحرب بتجرع الخميني “كأس السم” عبر الموافقة على قرار مجلس الأمن الرقم 598 القاضي بوقف الحرب، كان الإقتصاد الإيراني في حالة يرثى لها، وكانت مدن إيران الغربية امتداداً إلى قلب طهران مدمرة تقريباً، فضلاً عن عزلة سياسية دولية نتيجة شعار “لا شرقية ولا غربية”، ناهيك بخسائر الحرب مع العراق (حوالي مليون قتيل وعدة ملايين من الجرحى)، وزاد على ذلك كله الحصار الإقتصادي المفروض على إيران من قبل الولايات المتحدة وحلفائها ودعم منظمات إيرانية معارضة للنظام وتسليحها (منظمة مجاهدي خلق نموذجاً) ليفاقم الأزمات. وفي تلك اللحظات العصيبة للنظام، توفي مؤسسه الإمام الخميني، ليبدأ عهد جديد بقيادة المرشد آية الله علي خامنئي.
قاد خامنئي البلاد ببراغماتية كبيرة؛ فهو حافظ على المبادىء التي أرساها الخميني، وأولها العداء لأمريكا و”إسرائيل”، لكنه تجنب المواجهة العسكرية المباشرة معهما، واعتمد سياسة بناء منظمات حليفة له في المنطقة تشكل رأس حربة تلك المواجهة وأبرزها “حزب الله” في لبنان، وذلك اقتداءً بسياسة الرئيس السوري حافظ الأسد في المواجهة مع “اسرائيل” بعد اتفاقيات كامب ديفيد التي أخرجت مصر من الصراع، إذ دعم الأسد الأب التنظيمات اللبنانية والفلسطينية المقاومة لـ”اسرائيل”. كذلك فتح خامنئي خطوط تواصل مع دول عديدة لا سيما منها المجاورة لإيران كتركيا وباكستان وروسيا وريثة الإتحاد السوفياتي السابق. وعمل خامنئي على تعزيز قدرات بلاده العسكرية والأمنية، جيشاً وشرطة وحرساً ثورياً. كما حوّل أزمة حصار بلاده إلى فرصة عبر تعزيز قطاعي الزراعة والصناعة وفتح أسواق جديدة للصناعات النفطية في ظل الحصار المحكم الذي فرضه الغرب على إيران.
واليوم يعيب خصوم إيران عليها أمرين إثنين؛ الأول، اتهامها أنها وراء انهيار منطق الدولة في المنطقة العربية. الثاني، أنها تزج بحلفائها في أتون الحروب وتنأى بنفسها عن خوض تلك الحروب بصورة مباشرة، وفي الرد على هذين الأمرين يقول صحافي إيراني مخضرم “إن في ذلك ظلم لإيران وتعمية عن المحرك الفعلي لانهيار منطق الدولة في العديد من الدول العربية”، ويعود هذا الصحافي بالأمر إلى أفغانستان فيقول “كان تنظيم طالبان يحكم أفغانستان قبل العام 2000 بسياسة معادية لإيران وقد أطاحت الولايات المتحدة بهذا النظام وخلقت الفوضى في أفغانستان لأكثر من عشرين عاماً لتعود وتُسلّم الحكم لحركة طالبان. وفي العراق أطاحت الولايات المتحدة بالنظام العراقي المعادي لإيران وحلّت الجيش العراقي وكل مؤسسات الدولة بقرار من الحاكم الأمريكي بول بريمر وعمّمت الفوضى. وفي ليبيا حيث لا وجود لأي حليف لإيران، أسقطت الولايات المتحدة نظام معمر القذافي وعمّمت الفوضى هناك”.
يضيف الصحافي الإيراني، “في سوريا جنّدت الولايات المتحدة مرتزقة من أكثر من ثمانين دولة في العالم وشنّت حرباً كونية ضد النظام وتركت هذا البلد مجرد أشلاء وهي تمنع اليوم عودة النازحين وتمنع إعادة الإعمار بموجب قانون أمريكي اسمه قانون قيصر”، ويتابع الصحافي الإيراني “أما في لبنان وفلسطين فقد توّلت إسرائيل، حليفة أمريكا، تدمير لبنان في عدوان 2006 ودعمت أمريكا الحصار الإسرائيلي الخانق على قطاع غزة وسياسة التوسع الإستيطاني في الضفة الغربية”.
وعن اتهام إيران بأنها تنأى بنفسها عن أية مواجهة مباشرة، يقول الصحافي الإيراني “إن حلفاء إيران في المنطقة ليسوا أدوات بل حلفاء، ففي لبنان أدى تحالف حزب الله مع إيران ودعمها له إلى تحرير جنوب لبنان بعد احتلال دام 22 عاماً، وفي العراق، تحالفت قوى المقاومة العراقية مع إيران لإخراج المحتل الأمريكي وفي ذلك مصلحة وطنية مباشرة للعراقيين، وفي سوريا فإن دعم إيران أدى إلى منع سقوط سوريا في يد أمريكا، أما في فلسطين فإنه من المضحك القول إن فصائل المقاومة الفلسطينية أدوات لإيران، وهم كلهم من الطائفة السنية الكريمة وفي مقدمتهم “حماس”، وقد وجدوا في الدعم الإيراني مصلحة وطنية لهم”. ويختم الصحافي الإيراني الذي فضّل عدم ذكر اسمه بالقول “من يُطلقون هذه الاتهامات ضد إيران يتناسون إستراتيجية الفوضى البنّاءة التي أطلقها المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية مطلع القرن الحالي والتي جاءت ترجمتها ما نشهده اليوم من فوضى عارمة على امتداد المنطقة العربية”.
إنّ جلّ ما استطاعت إيران الإسلامية تحقيقه على امتداد ما يقارب نصف قرن من عمرها أنها استعادت موقع إيران الشاه كدولة “عظمى” في المنطقة ولكن هذه المرة ليس بفضل الدعم الأمريكي والبريطاني بل بفضل قدراتها الذاتية من جهة وتراجعها عن شعار “لا شرقية ولا غربية” من جهة ثانية، إذ باتت إيران اليوم أقرب ما يكون إلى حليف لدول الشرق التي على خصومة مع الولايات المتحدة مثل روسيا والصين ومع دول أخرى في حالة مواجهة مع أمريكا مثل كوبا وفنزويلا وبالتالي فإنها تؤكد على شعار مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران آية الله الخميني أن أمريكا هي “الشيطان الأكبر” وحليفتها “إسرائيل” في المنطقة هي “الغدة السرطانية”.