الأسئلة التي ينجبها الجوع والتخلي والاستخفاف والإنكار، تدلُ على أن نهاية الطريق، تقف على عتبة الموت بعينين مفتوحتين. الطغمة عندنا، تعيش بسلام وتنام على تخمة وتستيقظ على خطاب. أيها اللبنانيون التعساء، كلوا كلاماً. أطعموا أولادكم أقوالاً، درّبوهم على الكفاف، واخصوهم، كي لا يطلقوا لعنة على الطغمة.
أعظم خوف عند السلطة هو إنتشار الوعي. لذا، المطلوب تعميم الغباء. الغباء عقيدة عامة. في تلافيف الخطابات السياسية والعقائدية. الوعي ممنوع، وإن أعلن نفسه ذات إنتفاضة أو كارثة، إتهم بالعمالة للأجنبي أو الإرتهان لقطب مذهبي عابر للحدود والبلاد.
لبنان، لولا بعض فضائله النادرة، هو في ذنب الخيل. آخر من يُسأل عنه. هو بالمعية. إنه ملقى على القارعة، ويلتفت الكبار إليه، كعاهة لا شفاء منها
غريب جداً هذا الصمت. هو دلالة على أن “الشعوب” اللبنانية مهزومة. إنها تئن ولا تصفع أحداً. “معها حق”. “فالج لا تعالج”. كان يجب أن تحدث ثورة. أبدع الثورات التي يقوم بها الجياع لم تحدث عندنا. الجائعون مختلفون. لم توحّدهم لقمة الخبز النادرة. لم يلتحموا حول فقرهم، بل إفقارهم. إنهزموا بسرعة. إصطفوا في الطوابير التي تنتهي عند أقدام زعيم الطائفة، ومانح اللقمة ومرشد البؤس.
غريب جداً هذا الصلف الشنيع. الطغمة مشغولة جداً جداً، بالقضايا الإقليمية الكبرى. علماً أن لا ناقة لها ولا جمل. القضايا الكبرى من اختصاص دول ذات سطوة ومنعة ومصلحة وقوة وصلابة. لبنان، لولا بعض فضائله النادرة، هو في ذنب الخيل. آخر من يُسأل عنه. هو بالمعية. إنه ملقى على القارعة، ويلتفت الكبار إليه، كعاهة لا شفاء منها.
يلاحظ أن السياسة المحتدمة في لبنان، لا تخص من مَعَسَهُم النظام وأسياده من زمان إلى الآن. مشغولون بقانون إنتخاب، وموعد الإقتراع، وتجييش المغتربين. مشغولون جداً، بزيارات يقوم بها خليجيون إلى إسرائيل، ثم إلى سوريا، وبعدها إلى إيران. التحاليل تفيض غباءً. هناك من يستحسن ومن يتخوف. مشغولون بتركيا وهجومها المفاجئ على المنطقة. مشغولون بالخط الحدودي البحري، وكوابيس الحدود والإنتقاص من كمية الغاز الضخمة، إلى آخر ما يهم الشركات العالمية في ما بعد.. تُرى، متى يتوقع اللبناني قدوم زمن النفط والغاز؟ سنة؟ عشر سنوات؟ عبث. ما زلنا ننتظر الكهرباء منذ ثلاثين سنة، والذين تناوبوا على الوزارة، هم خارج السجن. هم مُطوبون وقديسون. لا تُمس شعرة من رؤوسهم.
تُرى، لماذا لم يعد أحد يسأل عن وديعته الحميمة في المصرف. أموالكم لكم هذا شعار منافق. أموالكم لهم هو الحقيقة. لقد اعتقلوا عرقكم وزبدة أعمالكم، ورموكم على قارعة الفاقة. هل يستطيع لبناني بعد اليوم، أن يطمئن إلى صحته وصحة عائلته وصحة أهله. ابداً. أيها اللبنانيون، موتوا فقط بهدوء، وهم مستعدون لأداء واجب التعزية بكم، طمعاً بأصواتكم غداً فقط.
هنا، في هذا المنحدر السحيق، يُدرك اللبناني بعد فوات الأوان، أنه ليس ميتاً كثيراً. هو ميت مؤجل. وهو بالتأكيد ليس حياً. بإمكانه أن يكون بين بين. ينتظر الفرج ولا يُعطى غير الصمت.
يبدو أن الإستسلام الذي أصاب الشعوب اللبنانية والنخب الأصيلة، بلغ نهايته. لبنان في فراغ رهيب. مخيف جداً هذا المشهد المعتم. لا تفسير أبداً لحالة العجز اللبناني من جهة، ولحالة الإستقواء الفالت للطغمة من جهة ثانية.
المشهد اللبناني، بائسٌ ورثٌ ولا أخلاقي. إن آلام الصامتين تدل على خسارة الفرصة. الصمت عدو الجائع والمريض والمفلس والمعتر والعاري من كل أود، مادي أو أخلاقي. مؤلم جداً أن يعرف الإنسان سبب علته، ولا ينتفض. حكمة نذلة، تلك التي تقول: “اليد التي لا تقوى عليها، قبلَّها وأدع لها بالكسر”. هذه نهاية النهايات. الإنسان فيها، يتجرد من قوامه، يصير علكة، تمضغها الأيام القاسية.
كان يجب على “الشعوب” اللبنانية أن تقاوم وحوش الإفتراس لمقومات العيش العادي. يُقال، وعلى لسان خبراء، أن نسبة الفقراء تخطت الـ 75 بالمئة. رقم مهول ومذهل. اللبناني يئن بصوت خافت. الذين “يزورون” الشوارع رفضاً، هم بالعشرات أو المئات. أين البقية اليتيمة من كل رزق ودعم؟ أين الشكوى؟ لماذا لم ينكسر بعد زجاج بيت من الطغمة؟ من يجمع شتات الآلام الخاصة والعامة؟ أين الأحزاب غير السلطوية؟ أين “الجمعيات”؟ أين المناشير؟ أين الإذاعات ووسائل الإعلام؟
متى يصير حليب الأطفال، أهم من انعقاد مجلس الوزراء وأهم من حروب المنطقة وأهم من كل الكلام وأهم من كل ما يتلفظ به الإعلام؟
عبثٌ. الكل مشغول بقضايا ذات طابع “إقليمي” أو “إستراتيجي”. هذا اللبنان القزم، بكل معنى الكلمة، يريد أن يقنعنا أنه مشغول بالقضايا الكبرى. المجاعات ليست من إختصاص قادته. ولذلك، هم يتراشقون بالإتهامات، يختلفون في القضاء المقضي عليه من زمان. يختلفون على البطاقة التمويلية، يا “للعار”! يختلفون على تفسير الدستور، وعلى تطبيق القوانين، وهم الذين عاثوا فساداً في فتاويهم الفاسدة وأقاموا المتاريس الإعلامية الصاخبة، التي لا تلمح أبداً إلى بؤس البؤساء، وفقر الفقراء ويأس اليائسين.
ويصح لنا هنا أن نشتم، مستعيرين لغة مظفر النواب. “أولاد القحبة لا أستثني منكم أحداً”.
كما يصح أن نستشهد بشعر خليل مطران، في قصيدته مقتل أبو بزرجمهر:
“ما كانت الحسناء ترفع سترها/ لو أن في هذي الجموع رجالا”
كما يصح كذلك أن نستعير من عمر أبو ريشة، قصيدته التي أسقطت حكومة دمشق:
“لا يُلام الذئب في عدوانه/ إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم
إن أرحام البغايا لم تلد/ مجرماً مثل هذا المجرم”.
ثم هاج أبو ريشه وماج على المسرح، ودلّ بإصبعه على رئيس الوزراء ناعتاً إياه بالمجرم، وقال بجرأة غير مسبوقة:
“إن أرحام البغايا لم تلد/ مُجرماً مثل جميل المردمِ”.
ماذا بعد؟
“طويلٌ، طويلٌ هو الليل، الشعب ينام، إنه عهد الثعالب”.
لذا، هنا يرقد بسلام، من كان يجب أن يكون ثائراً.
ترى؟ هل أفل زمن الثورات؟
الجواب: طبعاً. البديل كان زمن “الثورات” المضادة للثورة.
لقد تمت تصفية الإرادات، وبسمًّ فتاك. إنه سم الطوائفية.
مسكينة الأديان، لقد أفقدوها سماويتها، وجعلوها تفتك بنا.. للتأكيد على ذلك، راقبوا ما يحصل من فنون القتل، من المحيط إلى الخليج طبعاً. لبنان ليس متفرجاً، إنه مشارك هنا وهناك وهنالك.
سؤال أخير: متى يصير حليب الأطفال، أهم من انعقاد مجلس الوزراء وأهم من حروب المنطقة وأهم من كل الكلام وأهم من كل ما يتلفظ به الإعلام؟
الجواب: لا أعرف. كل ما أعرفه، أن الزمن اللبناني، هو زمن إحتضار مُستدام.
بئس هذه النهايات؟ ألسنا بشراً يا ناس؟