يتطلع اللبنانيون إلى الاستحقاق الرئاسي بوصفه مدخلاً لولوج مرحلة جديدة مختلفة تُعيد بناء الدولة على أسس سليمة، بعد سنوات من الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بينها أكثر من سنة قاسية من المواجهات مع إسرائيل. هذا التطلع ليس مجرد أمنيات، بل يتطلب وضع خارطة طريق واضحة المعالم لمعالجة التحديات الأساسية التي تواجه لبنان.
ثمة مهام رئيسية تُشكّل المدخل الأساسي لإعادة ترميم الثقة بين الدولة والمواطنين، وإعادة تثبيت لبنان على خارطة الإقليم والعالم كدولة ذات سيادة وفاعلية تجلس مع الجالسين حول الطاولة بدل أن يستمر وضع لبنان مادة تفاوضية، في سياق لعبة الأمم. ما هي هذه المهام؟
المهمة الأولى تتمثل في استكمال تطبيق دستور الطائف، ليس فقط بنصه بل أيضاً بروحه، وبخاصة اللامركزية الإدارية الموسعة. هذا البند الذي نصّ عليه اتفاق الطائف (1989) يُمثّل الحل الأنجع لمعالجة مشكلات المركزية القاتلة، ومن شأنه أن يُعزّز التنمية المتوازنة بين المناطق اللبنانية، وهي خطة أساسية أدرجها الدستور لكنها لم تُنفذ. ومن يرفض الطروحات الفيدرالية، عليه أن يُدرك أن البديل الطبيعي والعملي يكمن في تسهيل تطبيق هذا البند. لبنان يتمتع بنظام سياسي فريد من نوعه، لكن المنظومة الحاكمة فشلت في تطبيقه بفعالية، ما أدى إلى تعميق الأزمات بدلاً من حلها.
المهمة الثانية تتعلق بسد الثغرات الدستورية التي برزت خلال السنوات الماضية وأثّرت بشكل مباشر على استقرار النظام السياسي. من أبرز هذه الثغرات مهل تكليف رؤساء الحكومات وتأليف الحكومات، والتي تُركت مفتوحة من دون تحديد سقف زمني لها، ما أدى إلى أزمات متكررة في التكليف وتشكيل الحكومات. كذلك، ضرورة إلزامية انتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمن مهلة الشهرين قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي، وذلك لمنع الوقوع في الفراغ الرئاسي الذي يُعطل مؤسسات الدولة. كما أن التأخير في توقيع وإصدار المراسيم من قبل الوزراء الأعضاء في الحكومات يجب أن يخضع لضوابط دستورية تحول دون تعطيل مصالح المواطنين والدولة.
هذه المهام الكبرى لا يُمكن تحقيقها إلا من خلال الحوار الجدي والبنّاء المبني على الثقة المتبادلة. لبنان بلد قام على الحوار كمساحة للتلاقي وتبادل الأفكار، وليس كأداة لتضييع الوقت وهدر الفرص. تجارب الحوار السابقة أثبتت أن تسعين في المئة من نقاط الخلاف يُمكن حلّها إذا توافرت النوايا الصادقة، بينما نقاط الخلاف المتبقية هي مساحة طبيعية للحيوية السياسية
المهمة الثالثة ترتبط بالاستراتيجية الدفاعية اللبنانية، التي طُرحت مراراً على طاولة الحوار الوطني من دون التوصل إلى اتفاق شامل. وبرغم النقاشات المطولة التي جرت خلال عهد الرئيس العماد ميشال سليمان (2008 – 2014)، بقي الخلاف محصوراً بنقطة واحدة: “الأمرة لمن”؟. هذه النقطة المحورية تتطلب حلاً عملياً يضمن حصر قرار السلم والحرب بيد الدولة اللبنانية، مع وضع إطار واضح لجمع السلاح تحت مظلة الشرعية اللبنانية التي تضم جميع المكونات. لا يمكن بناء دولة قوية وقادرة ومستقرة وعادلة من دون سيادة كاملة وواضحة على القرارات المصيرية.
المهمة الرابعة تتمثل في التعامل الإيجابي مع صندوق النقد الدولي والإصلاحات التي يطالب بها. هذا الملف يمثل اختباراً حقيقياً للدولة اللبنانية؛ على العهد الجديد أن يُبادر إلى إجراء الإصلاحات المطلوبة بطريقة تُراعي خصوصية لبنان وتُجنّب الإجراءات الصارمة التي تزيد معاناة المواطنين. التفاوض المرن هو السبيل لتحقيق نتائج إيجابية تُخرج لبنان من أزمته المالية، لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية واضحة وتعاوناً فعلياً بين جميع الأطراف.
المهمة الخامسة تتعلق بأزمة النازحين السوريين، التي أصبحت عبئاً كبيراً على الاقتصاد اللبناني والبنية التحتية وعلى الواقعين الديموغرافي والاجتماعي. ومع تبدل الأوضاع في سوريا وبالتالي سقوط الذرائع التي كانت تمنع عودتهم، صار من الملح وضع خطة عملية بالتعاون مع المجتمع الدولي والدولة السورية الجديدة لتأمين عودة سريعة لهؤلاء النازحين. الحلول المؤقتة لم تعد كافية، وأي تأخير في معالجة هذا الملف سيؤدي إلى تفاقم الأزمات التي يرزح لبنان تحت وطأتها.
المهمة السادسة هي وضع خطة شاملة لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. هذه المهمة لا تقتصر على البنى التحتية واعادة بناء الوحدات السكنية والتجارية المهدمة أو المتضررة، بل تشمل إعادة الحياة إلى المناطق المتضررة من خلال مشاريع تنموية مستدامة تُعيد السكان إلى قراهم ومدنهم. إعادة الإعمار يجب أن تتم بمشاركة دولية وعربية، مع الحرص على إدارة شفافة تمنع هدر الأموال وتضمن وصول الدعم إلى مستحقيه، على أن تحظى هذه المهمة، كما مهمة إزالة الردميات قبلها، برقابة من المؤسسات الدولية والمحلية. هذا الملف يُشكل اختباراً جديداً للدولة اللبنانية، حيث أن إعادة الإعمار ليست فقط واجباً وطنياً، بل أيضاً فرصة لإعادة ثقة اللبنانيين بوطنهم وإعادة ثقة الخارج بلبنان.
المهمة السابعة تتمثل في إعادة ثقة اللبنانيين بالقضاء، من خلال تعزيز استقلالية السلطة القضائية، وثمة مشروع بشأن استقلالية القضاء (2018) ما يزال قيد المراجعة في مجلس النواب، وينبغي وضعه موضع التطبيق وأن تكون قضية انفجار مرفأ بيروت (2020) باكورة هذه الاندفاعة القضائية حماية للعدالة والحقيقة وصوناً لهما.
هذه المهام لا تتناقض مع جدول الأعمال اللبناني المفتوح في زمن الفراغ الرئاسي، وفي صلبه المضي في تنفيذ قرار وقف النار وتنفيذ القرار 1701 واستكمال انتشار الجيش اللبناني حتى آخر نقطة في الحدود المعترف بها دولياً، جنوباً وشرقاً وشمالاً. وكذلك التعامل مع الواقع الجديد الذي نشأ في سوريا، بطريقة تحمي مصالح البلدين وشعبيهما.
كل هذه المهام لا يُمكن تحقيقها إلا من خلال الحوار الجدي والبنّاء المبني على الثقة المتبادلة غير الموجودة حتى الآن. لبنان بلد قام على الحوار كمساحة للتلاقي وتبادل الأفكار، وليس كأداة لتضييع الوقت وهدر الفرص والامكانات. تجارب الحوار السابقة أثبتت أن تسعين في المئة من نقاط الخلاف يُمكن حلّها إذا توافرت النوايا الصادقة، بينما نقاط الخلاف المتبقية هي مساحة طبيعية للحيوية السياسية، إذا تم التعامل معها بإيجابية.
والجدير ذكره أنه منذ أكثر من عشر سنوات، لم يجتمع الفرقاء اللبنانيون إلى طاولة حوار، مما يعكس خطورة الوضع الحالي. الحوار ليس بدعة ولا تراجعاً عن اتفاق الطائف، بل هو السبيل الوحيد لإنقاذ لبنان من أزماته المتراكمة، وعلى العهد الجديد، فور انتخابه وتشكله، أن يُبادر فوراً إلى جمع الفرقاء اللبنانيين حول طاولة حوار حقيقية، تضع خارطة طريق شاملة لمعالجة القضايا الأساسية التي تُهدّد وجود الدولة واستقرارها. الحوار الجدي والمسؤول هو الطريق الوحيد لتحقيق هذه المهام الكبرى ووضع لبنان على سكة التعافي بكل أبعاده.