التعليم عن بعد في جامعات لبنان.. فرصة لتمكين النساء

بالرغم من السوداوية التي خيّمت على مجال التعليم خلال جائحة كورونا، إلاّ أن بريقاً جميلاً أنار قلوب لبنانيات عاودن الانتساب إلى الجامعات بعد انقطاع طويل، بسبب ظروفهن القاهرة التي تدفعهن أحياناً للتنازل عن طموحاتهن لأجل أولوية الأسرة، لكن التعليم عن بعد والذي لم يكن شائعاً في لبنان من قبل كورونا، سهّل لهن تحقيق رغباتهن المهنية والعلمية.

من المطبخ أو صالون البيت أو حتى مكتب الأطفال، استأنفت بعض الأمهات مسيرتهن الأكاديمية التي توقفت عند قرارهن الزواج وتأسيس أسرة، حيث من المعتاد أن تُلقى الأعباء اليومية من تنظيف وترتيب وطبخ ومتابعة لدروس الأطفال على عاتق المرأة، بالإضافة إلى الأوزار الكبيرة التي يتكبدها الرجل اللبناني الذي يسعى وراء لقمة عيش مريرة تمنعه أو تُقلل فرصه في الالتفات لما يدور بين جدران منزله الذي يعود إليه بعد عناء يوم طويل. تقول سناء من إحدى بلدات منطقة صور في جنوب لبنان “زوجي مزارع، يزرع الخضار في الخيم البلاستيكية، أخجل أن أطلب منه مساعدتي في أمور البيت؛ لذا اضطررت للتوقف عن الدراسة منذ العام 2008 لصعوبة الانتقال يومياً إلى الجامعة اللبنانية في صيدا، ولكن حلمي أن اصبح معالجة نفسية لم ينطفىء وظلّ يروادني إلى أن أخبرتني صديقتي أنه بإمكاني التسجيل ومتابعة الدروس عن بعد (أونلاين)، بالنسبة لي هذا أعظم إنجاز في حياتي”. يسري ذلك على “أم ايهاب” التي تريد ما تشغل به نفسها بعد زواج أولادها. هي الآن جدّة، ولا تريد أن تتقاعد أو أن يُشعرها أحدٌ ما أن دورها انتهى. دراسة التاريخ في الجامعة اللبنانية كانت بمثابة تحدٍّ جديد لها، ولن تتراجع أبداً عن فرصتها.

تقول سارة إن الصحة النفسية للنساء “بخطر ولا تملك الكثير من اللبنانيات رفاهية اكمال الدراسة، خصوصا الشابات منهن حيث وضعن أمام مسؤوليات كثيرة لسن جاهزات لها”

من المعروف أنّ نظام التعليم عن بعد مُنتشر عالمياً، إلاّ انّه لم يُعتمد رسمياً في لبنان إلا خلال أزمة كورونا ربطاً بحالة الطوارىء خلال فترات التعبئة العامة، الأمر الذي سهّل للكثير من النساء اللبنانيات اكمال تعليمهن. تقول كارين أم لطفل واحد إنها استأنفت دراسة “الماستر” بعد تأجيلها سنتين بانتظار دخول ابنها إلى المدرسة، مؤكّدة  أن نظام “التعليم عن بعد” كان بالنسبة إليها “فرصة ذهبية”. المرأة اللبنانية “طموحة على عكس الصور النمطية التي تعكسها وسائل الإعلام او “الفاشينستات” على وسائل التواصل”. المرأة اللبنانية تسعى إلى تطوير ذاتها “والإنترنت سهّل حياتنا، أغلق فجوة المعرفة والتعلّم بين فقير وغني؛ ريفي ومدني؛ قادر وعاجز، اليوم فرص التعليم أصبحت متاحة وألوم كل سيدة لا تستغل هذه الفرصة”، تقول كارين سليمان.

ترفض صديقتها سارة هذه النظرة المتفائلة، لماذا؟ “لأن الحياة في لبنان أصعب من بلدان أخرى، حيث تفتقر معظم المناطق اللبنانية لساعات كافية من الكهرباء، والمرأة تحاول قدر الامكان انجاز أكثر المهمات المنزلية من غسيل وكيّ ثياب وغيرها بغياب الكثير من الأدوات الكهربائية التي أصبحت بعيدة عن متناولهن خصوصا إذا تعطل اي جهاز لديها ولم يكن بقدرتها اصلاحه، كما أن البيت أصبح “ميني” مدرسة. لذلك لا يمكن لوم النساء. لقد وجدنا أنفسنا أمام تجربة جديدة من دون اي تدريب مسبق، بالإضافة إلى وجود حاسوب واحد لدى أغلب الأسر وكثير من الأمهات تفضّلن تدريس أطفالهن على حساب متابعة دروسهن”، تقاطعها كارين قائلة:”ولكن يمكنهن  العودة إلى المحاضرات المسجلة في وقت الراحة”. لم ينته النقاش بينهما حول تفاصيل كثيرة تفسّر الضغوط التي تعانيها المرأة اللبنانية. هنا تقول سارة إن الصحة النفسية للنساء “بخطر ولا تملك الكثير من اللبنانيات رفاهية اكمال الدراسة، خصوصا الشابات منهن حيث وضعن أمام مسؤوليات كثيرة لسن جاهزات لها، كأمور تدبير الطعام والشراب وعدم الخروج من المنزل بسبب أزمة غلاء المحروقات لتستدرك كيف أن صديقتها روان لم تستطع الوصول إلى الجامعة وإجراء امتحاناتها السنة الماضية بسبب أزمة طوابير البنزين وصعوبة الحصول على الوقود لسيارتها بعدما قررت ادارة الجامعة إجراء الامتحانات حضورياً”.

تضحك سامية “انا كنت أتابع محاضرتي في يوم ولادة طفلي من على سرير المستشفى، واليوم أقضي وقتي مع طفلي ومع جامعتي وقدّمت امتحانات السنة الماضية ونجحت بكل المقررات، كنت فخورة بنفسي كأم وكطالبة”

الوقائع والأحلام

لطالما نادت الجمعيات التي تهتم بالعمل النسوي بتأمين البنى التحتية التي تسمح للنساء في البلدان النامية بإكمال تعليمهن، كتوفير دور حضانة في المدن والأرياف، وفي سبيل ذلك كان النقاش ولا زال حول ساعات عمل المرأة يومياً وإجازة الأمومة والحمل وتوزيع المسؤوليات بين الزوجين بما يسمح بنشر ثقافة مجتمعية تتيح للمرأة القيام بدور فاعل في مجتمعها، ومع هذا كانت الكثير من الشابات تواجهن مصيراً مشتركاً يجبرهن على  تأجيل أحلامهن وفي ما بعد التخلي عنها. أحلام الفتيات في لبنان تقتصر على شهادة جامعية وفرصة عمل تسمح لهن بقليل من الثقة والاستقلالية وعدم الإعتماد على شخص آخر هو نفسه بحاجة للاعتماد على مساعدة المرأة خصوصا في هذه الأيام، حيث لا يكفي راتب الزوجين معاً لتأمين النفقات المعيشة وهذا حال معظم الأسر اللبنانية، كما تقول دارين وهي أم لطفلين وموظفة في احدى الشركات المحلية وعادت لتتابع دراستها “انا لا أمزح عندما أقول إنّ الدراسة تشغلني عن القضايا الصعبة اليومية التي نواجهها في لبنان”.

إقرأ على موقع 180  "فورين بوليسي": الهند في الشرق الأوسط.. من عدم الإنحياز إلى المغامرة!

كان موضوع إستمرار تحصيلها الجامعي مربكا جداً لها. تقول بسمة إنها كانت تستيقظ يومياً في الصباح الباكر لتحضير ابنها وايصاله الى بيت أهلها ومن ثم ايصال زوجها الى العمل وبعدها الذهاب الى الجامعة، ودائما ما كنت أصل متأخرة أو متوترة بسبب شعوري بالذنب لأنّ ابني لا يزال طفلاً رضيعاً، وكنت مشتتة الذهن. الآن أتمنى أن يستمر خيار الدروس عن بعد، لأنه يسمح للمرأة بتطوير نفسها وعدم الاضطرار إلى الاختيار بين نفسها او طفلها.

تضحك سامية “انا كنت أتابع محاضرتي في يوم ولادة طفلي من على سرير المستشفى، واليوم أقضي وقتي مع طفلي ومع جامعتي وقدّمت امتحانات السنة الماضية ونجحت في كل المقررات، كنت فخورة بنفسي كأم وكطالبة”.

د. هلا عواضة: 91 بالمئة من الاناث يتابعن الدراسة عن بعد و27 بالمئة منهن متزوجات ولديهن عائلات، ما يدّل على فعالية التعلّم الجامعي عن بعد في وقت يجب تعديل القوانين الراعية لهذا المسار، حيث يصبح خياراً ممكناً في لبنان ولا يقتصر فقط على الظروف القاهرة كوباء كورونا

تواجه الفتيات في لبنان صعوبات تتعلق بالتنقل من وإلى الجامعة، حيث أن الكثير من الاختصاصات غير موجودة في المناطق الريفية ويجب الذهاب والاياب يومياً من وإلى  بيروت أو السكن في المدينة، وهذا ما ترفضه العديد من العائلات في القرى البعيدة، من هنا كانت الكثير منهن تضطر لدراسة اختصاص لا ترغب به، فقط لأنه متوفر بجامعة قريبة يمكنها الوصول اليها، تقول ميساء “كنت أستيقظ الخامسة فجرا لأستطيع الوصول إلى الجامعة في بيروت، لم أرد تغيير اختصاصي في دراسة الإعلام، كان الأمر منهكا جدا، حيث أخسر يوميا 4 ساعات على الطريق في الصيف والشتاء، اليوم أصبحت الدراسة أسهل”. في المقابل، استطاعت نادين اقناع والديها بالسكن في بيروت والعمل في احد المطاعم لتأمين كلفة السكن لكنها تؤكد أنها كانت لا تستطيع أن تحصّل كل مقرراتها السنوية في الجامعة فلم تستطع المواءمة بين العمل في المطعم وبين الحضور الى الجامعة في الصباح، تمازح والدتها ضاحكة “يلي عند اهلو على مهلو”، وتضيف “تركت الشغل وهلق بدرس انا ودفيانة بتختي”.

من المؤكد أن هذا التوجه الجديد الذي أكدته دراسة قامت بها الاستاذة المحاضرة في الجامعة اللبنانية د. هلا عواضة بأن 91 بالمئة من الاناث يتابعن الدراسة عن بعد و27 بالمئة منهن متزوجات ولديهن عائلات [1]، ما يدّل على فعالية التعلّم الجامعي عن بعد في وقت يجب تعديل القوانين الراعية لهذا المسار، حيث يصبح خياراً ممكناً في لبنان ولا يقتصر فقط على الظروف القاهرة كوباء كورونا، لما لهذا التوجه من نتائج مستقبلية تزيد من وعي المرأة الذاتي وتزيد من فعاليتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كعنصر كفوء ومما لا جدل حوله أن نسب العنف الأسري والزواج المبكر ستنخفض، فلا تصبح الفتاة عبئاً اقتصادياً تريد الأسر الفقيرة التخلّص منه، وبموازاة ذلك، ستقرّر المرأة خيارها السياسي بدل التبعية لخيارات العائلة او الزوج، الأمر الذي يسمح لها بالمشاركة في صناعة القرار على المستوى المحلي الضيق او على مستوى التمثيل البرلماني، ناهيك عن أن المرأة المتعلمة تستطيع التعامل مع الأزمات بمسؤولية حيث يمكنها حماية اسرتها من المشكلات الصحية او النفسية، على حد تعبير عواضة.

[1]  هلا عواضة، دراسة عن التعلّم عن بعد.. تجربة كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، آب/أغسطس 2020، على الرابط الآتي:

https://www.researchgate.net/publication/343417426_altlm_n_bd_waltsrb_alrqmy_tjrbt_klyt_aladab_fy_aljamt_allbnanyt

Print Friendly, PDF & Email
مايا ياغي

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "فورين بوليسي": الهند في الشرق الأوسط.. من عدم الإنحياز إلى المغامرة!