ماذا عن كذبة “السّعر الحقيقي” للدّولار؟

مجدّداً، ضمن مسلسل المصطَنع والاصطِناع، هناك دائماً من يستخدم مصطلح "السّعر الحقيقي" للدّولار مقابل اللّيرة اللّبنانية، موهِماً، عن قصدٍ أو عن غير قصد، وكأنّ هناك "سعراً حقيقيّاً" للدّولار مقابل "سعر السّوق" الحالي (المسمّاة بالسّوق السّوداء). هذا الأخير يكون بذلك مجرّد سعر وهمي يُخفي السّعر.. الحقيقي.

هذا الخطاب نسمعه يومياً من سّياسيين وحزبيين ونّاشطين وإقتصاديين ومصرفيين، حتّى أنّ كثيراً من القيادات المخضرمة (ذي الخلفيّة المعرِفيّة والتّقنيّة معاً) قد سبق ووقعت في هذا الفخّ من خلال الحديث عن العودة إلى سعر “حقيقي” للّيرة اللّبنانيّة مقابل الدّولار. سبّبت هذه المغالطة إحراجات كثيرة لبعض السّياسيّين، والأهم أنّها تشكّل اليوم أداة من أدوات التّزييف والتّخدير المعتمدة حاليّاً ضدّ المواطن اللّبناني.

في هذا المقال، نضع هذه القضيّة ضمن إطار نقاش “المفهوم في مقابل الواقع”، أو “التصوّر الذّهني في مقابل الظّاهرة”، أو “ما-فوق-الحقيقة في مقابل الحقيقة”. ونعتبر، ببساطة، أنّ المغالطة تكمُن في كون السّعر الحقيقي الوحيد للّيرة أو لأيّ سلعة أخرى.. هو سعر السّوق، أي أنّه: السّعر الذي ينتجُ من التقاء العرض والطّلب. ما هذا بالموقف الأيديولوجي ولا بالتمنّي ولا بالرّجاء ولا بالتّنظير: إنّه “واقع” العالم الحالي الذي نعيش فيه. قد يرفض البعض وينتفض ويغضب: لكنّني أصرّ على هذه النّقطة، إذ أعتبر أنّ المرورَ بجانبها في هذا العصر هو مرور بجانب حقيقة الرّاهن الذي نعيش فيه. قد تكون القضيّة ببساطة أنّنا ضمن حقبة معرفيّة (سمّيناها في مقال سابق بـ”الأبستيميه” تيمّناً بميشال فوكو) تهيمن عليها الرأسماليّة، وهي تفرض هذه “الحقيقة” بشكل شعوري ولا شعوري. “Soit، فليَكُن!” كما يقول الفرنسيّون. لكنّ ذلك لن يغيّر من الأمر شيئاً: في حقبتنا الرّاهنة، في زماننا الحالي، السّعر الحقيقي لأي سلعة هو ما ينتجه السّوق “الحرّ”، أي ما تُنتجهُ اللّعبة الحرّة بين العرض والطّلب.

سعر حقيقي واحد!

عندما نتحدّث عن سوق حرّة في هذا المقال: نقصد قبل أي شيء السّوق التي لا تحدّد فيها الدّولة – والسّلطات المختلفة – سعراً مفروضاً عوضاً عن لعبة العرض والطّلب. قد تتدخّل الدّولة والسّلطات المختلِفة من خلال التأثير على العرض و/أو الطّلب: ولكنّها لا تحدّد السّعر، لا تفرضُهُ. وهذه نقطة جوهريّة لفهم ما سيلي.

ولذلك، يا أيّها السّياسيّون والقادة والاقتصاديّون: لا تقعوا في الفخ المعرفي هذا (نحن أصلاً نعيش في عالم اعتباري-افتراضي بشكل رئيسي، كما فصّلنا في مقالات سابقة). فهناك سعر “حقيقيّ” واحد للّيرة اللّبنانيّة، هو سعر السّوق “الحرّة”. أي في لبنان، هو: سعر السّوق السّوداء (هل هي سوداء حقّاً أم الأسواق الأخرى الوهميّة والمُفَبركة هي السّوداء؟). وكذلك الأمر بالنّسبة إلى أيّة سوق وسلعة: السّعر الحقيقي الوحيد هو الذي به تشتري السّلعة إذا طلبتَها بشكل حرّ. سعر البندورة الحقيقي هو السّعر الذي يبيعك به الخضرجي في السّوق، وسعر اللّيرة “الحقيقي” هو سعر الصّرّاف الذي يبيعك إيّاها – بحرّيّة – مقابل الدّولار. “الأسعار” الحكوميّة والمصرفيّة والنّظريّة الأخرى: هي الاعتباريّة والافتراضيّة والوهميّة.. لا سعر السّوق. كما نرى: نحن مجدّداً ضمن لعبة المفهوم في مقابل الواقع، والتّصوّر في مقابل الظّاهرة.

عندما أنزل إلى ساحة الصّرّافين في شتورا أو في بيروت لأشتريَ الدّولار، لا أجد أمامي السّعر النّظري اللّيبرالي أو السّعر النّظري الماركسي، أو السّعر المحتسب من قبل غولدمان ساكس: أرى أمامي سعر الصّرّاف الذي يعلنه أمامي بشكل حرّ وواضح. إن لم يعجبني سعره، يمكنني أن أذهب إلى صرّافٍ آخر

لعبة العَرض والطّلب

أودّ عند هذا الحدّ توجيه التّحيّة – الأكاديميّة والشّخصيّة – إلى البروفسور الفرنسي المخضرم في الاقتصاد وفي علم القرارات الفرديّة، الدّكتور برتراند لومونيسييه Bertrand Lemennicier، المتوفي أواخر عام ٢٠١٩، والذي تعرّفتُ عليه وأنا طالب في جامعة باريس (الثّانية). كان برتراند رجلاً ليبراليّا (أو أولترا-ليبراليّ ربّما) صادقاً مع نفسه ومع طلبَته، واقتصاديّا فذّاً منسجماً مع معتقداته وأيديولوجيّته وكذلك مع نتائج أبحاثه. كان يعرف جيّداً معنى الأمانة العلميّة، ويجيد بامتياز التّفريق بين الحُكم القيمي وبين العلم. كان برتراند عدوّ تسلّل الأحكام القيميّة إلى البحث العلمي، ورجلَ الوقائع والتّجربة، ولكنّه مع ذلك كان يُعلن عقيدته الاقتصاديّة (الأيديولوجيّة) دونَ مواربة. كان يردّد على مسمعي إعجابَه بالطّلّاب اللّبنانيّين بسبب جدّيّتهم واجتهادهم، لكن بالأخص، بسبب فهمهم شبه التّلقائي لمسائل السّوق والحرّيّة الفرديّة. اللّبناني عنده يفهم علم وعقيدة السّوق الحرّة بسهولة لا مثيل لها.

كان برتراند يتقبّل كلّ شيء تقريباً ما عدا المسّ بحرّيّته الفرديّة، خصوصاً من قبل تكنوقراط الدّولة الفرنسيّة (وغيرها). تدخُّل الدّولة في القرارات الفرديّة للمواطنين-الأفراد وفي لعبة السّوق، هو الشّيطان الأكبر بذاته. لا يُمكن للحكومة أن تعرف مصلحتي أكثر منّي: فليسهروا على أمننا وبنانا التّحتيّة والخدمات الأساسيّة ـ التي ندفع كلفتها من خلال ضرائبنا – وليتركونا وشأننا! ماذا يعرف موظّفو وزارة الماليّة والمصرف المركزي عن مصلحتي الفرديّة وتفضيلاتي؟ فليبقوا في مكاتبهم (المُكلِفة لي!) ولا يتدخّلوا في علاقتي مع بقيّة اللّاعبين الاقتصاديين والاجتماعيين. كلّ مصائبنا الاقتصاديّة تقريبا متأتّية من تعدّي موظّفي الحكومات على حرّيّاتنا الفرديّة (هذا رأي البروفسور المذكور طبعاً).

باختصار: الأطروحة – العلميّة – الأساسيّة لهذا العالم ولزملائه، هي أنّ قانون العرض والطّلب – على الأقل في العالم المَعرِفي الذي نعيش فيه – ليس مسألة تمنّ ولا رجاء ولا عقيدة، وإنّما يكاد يرتقي إلى مستوى القانون الطّبيعي العام. إذا تركنا السّوق يلعب من دون تدخّل، لوصلنا إلى السّعر الحقيقي لأي سلعة (ولا سعر حقيقيّا آخر أصلاً، ما عدا سعر السّوق الواقعي). كلّ الأطروحات الأخرى، حسب هذه المدرسة، هي مجرّد مفاهيم وتصوّرات. السّعر الحقيقي الوحيد هو ذاك النّاتج من اللّعبة الحرّة بين العرض والطّلب. ببساطة: عندما يعلو العرض نسبة إلى الطّلب، ينزل السّعر لا محالة؛ وعندما يعلو الطّلب نسبة إلى العرض، يعلو السّعر لا محالة أيضا.

إقرأ على موقع 180  نصرالله يُدرك ما يقول.. الخيارات والأوقات الحرجة

عند تواجد عدّة أسعار (اصطناعيّة طبعا)  لسلعة ما (كما هي الحال اليوم مع اللّيرة اللّبنانيّة)، فالسّعر الأقرب إلى الوقائع الاقتصاديّة هو.. ذلك الذي ينتج عن السّوق الأكثر حرّيّة. يمكننا الاعتراض والصّراخ والبكاء ربّما.. لكن هذه هي “الحقيقة”. الدّليل على ذلك أنّنا لو نزلنا إلى سوق الصّرّافين، فلن نشتريَ بسعر نظري ولا أيديولوجي ولا بسعر الحكومات.. بل بسعر السّوق. لو كان برتراند على قيد الحياة لصرخ قائلاً: أيّها اللّبنانيّون، هناك سعرٌ وحيدٌ حقيقيّ للّيرة اللّبنانيّة، هو سعر السّوق السّوداء (البيضاء عنده)! وحقيقة الحالة اللّبنانيّة تتجلّى من خلال سعر السّوق السّوداء لا من خلال أي سعر نظري أو حكوميّ أو مصرفيّ آخر!

الأسعار النّظريّة!

السّعر الحقيقي إذن: هو السّعر الذي تشتري به السّلعة من خلال اللّعبة الحرّة بين العرض والطّلب. ليس سعر المصرف المركزي ولا سعر المصارف ولا سعر الدّولة ولا سعر الخبراء.. ولا سعر آدم سميث ولا سعر كارل ماركس. السّعر الحقيقي هو سعر السّوق. عندما أنزل إلى ساحة الصّرّافين في شتورا أو في بيروت لأشتريَ الدّولار، لا أجد أمامي السّعر النّظري اللّيبرالي أو السّعر النّظري الماركسي، أو السّعر المحتسب من قبل غولدمان ساكس: أرى أمامي سعر الصّرّاف الذي يعلنه أمامي بشكل حرّ وواضح. إن لم يعجبني سعره، يمكنني أن أذهب إلى صرّافٍ آخر. لا يُجبرني عليه ولا أجبرهُ على أيّ سعرٍ آخر: هذا هو السّعر الحقيقي في عالمِنا الرّاهن.

كلّ الأسباب الاقتصاديّة تتجلّى في النّهاية من خلال سعر السّوق. لا تقُل لي هذا السّعر سعر سياسي: السّياسة أيضا من العوامل المؤثّرة في العرض والطّلب، وكذلك الحالة النّفسيّة العامّة للّاعبين. مجدّداً: هناك سعرٌ حقيقيٌ وواقعيٌّ واحدٌ، وهو سعر السّوق! دعونا لا نخلط المفهوم بالواقع

كلّ المعلومات المتعلّقة بالسّلعة متجلّيةٌ من خلال هذا السّعر: المعلومات المتعلّقة بالطّلب والمعلومات المتعلّقة بالعرض. فمن الخطأ القول، بحسب هذه النّظرة، إنّ سعر السّوق ليس حقيقيّاً. قد يكون مستواه أو ارتفاعه أو انخفاضه مبالغاً فيه بالنّسبة إلى نماذجنا الاقتصاديّة (أنظر المقطع اللّاحق): ولكنّه لم يرتفع أو ينخفض – أو يصل إلى مستوى معيّن – بلا سبب “حقيقي”. قد يكون تقييمه من قبل السّوق “فوق قيمته النظّريّة” أو تحتها، ولكنّ القيمة الحقيقيّة – في النّهاية – هي قيمة السّوق. ولم يصل السّوق إلى قيمة معيّنة بالصّدفة، بل هناك دائماً أسباب واقعيّة. مثلاً: التّلاعب المقصود بالعرض هو سبب واقعي، وبالتالي، فهذا التّلاعب يتجلّى أيضا في سعر السّوق. وكذلك الاحتكار والشائعات ومختلف أنواع التّلاعب: إن وُجدت، فلا يمكن إلا أن يأخذَها سعر السّوق بالاعتبار.

كلّ الأسباب الاقتصاديّة تتجلّى في النّهاية من خلال سعر السّوق. لا تقُل لي هذا السّعر سعر سياسي: السّياسة أيضا من العوامل المؤثّرة في العرض والطّلب، وكذلك الحالة النّفسيّة العامّة للّاعبين. مجدّداً: هناك سعرٌ حقيقيٌ وواقعيٌّ واحدٌ، وهو سعر السّوق! دعونا لا نخلط المفهوم بالواقع!

المقارنة بين المفاهيم والسعر الحقيقي

ماذا عن النماذج والتوقّعات الاقتصاديّة والحسابيّة؟ هي ليست السّعر الحقيقيّ طبعاً، ولكنّها تصوّرات عما “يجب أن يكون عليه السّعر الحقيقيّ” استناداً إلى النظريّة الاقتصاديّة والنظريّة الماليّة ونظريّة المحافظ الاستثماريّة (مع شيخها الأكبر: هاري ماركوفيتز، Harry Markowitz، المولود سنة ١٩٢٧). مثلاً، بالنّسبة إلى العملات: النماذج النّظريّة تعتمد عادةً على حسابات فارق الفائدة بين البلدين المعنيَّين، وفارق التضخّم، كما تعتمد على دراسة ميزان المدفوعات (لا سيّما الفارق بين الميزان التّجاري وميزان تدفّق رؤوس الأموال) وتوقّعات النّمو وما إلى ذلك. بعض النّماذج يجمع بين كل هذه العوامل سويّةً. لكن، مجدّداً: كلّ الأسعار والتّقييمات المحتسبة، رغم رصانتها وتمثيلها النّسبيَّين للواقع، ليست هي الأسعار والتّقييمات الحقيقيّة والواقعيّة. ما نقوله هنا، بالمناسبة، هو جوهر عمل الإدارة الماليّة وإدارة المحافظ الماليّة: المقارنة على الدّوام بين المفاهيم وبين السّعر الحقيقي.

في ما يخصّ وضع الاقتصاد اللّبناني واللّيرة، فارتدادات ما سبق هي ذات أهميّة جمّة:

أوّلاً، بالنّسبة إلى تقييم الوضع اللّبناني موضوعيّاً (الوضع يتجلّى من خلال السّعر الحقيقي لا أسعارنا النّظريّة).

ثانياً، بالنّسبة إلى توقّعاتنا كأصحاب قرار وكمستثمرين (يتوجّب مقارنة نماذجنا الاقتصاديّة والماليّة مع الواقع).

ثالثاً، بالنّسبة إلى اتّخاذ القرارات السّياسيّة والنّقديّة الصّحيحة (بالمناسَبة، قد يكون حاكم مصرف لبنان من القليلين الذين يفهمون هذه اللّعبة جيّداً، أي اللّعبة بين المفهوم والواقع، ولذلك فله اليدُ العليا بشكل واضح حتّى الآن على مستوى التنبّؤ والاستباق).

رابعاً وأخيراً، يساعدنا ما سبق على التّنبّه إلى التّلاعب السّياسي والإعلامي، من خلال طرح عدّة أسعار “مصطَنَعة” بهدف إخفاء الواقع.. واقع اللّيرة الحقيقي وواقع الاقتصاد اللّبناني الحقيقي.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أربعون "السيد".. الحزن المؤجل في حضرة الغياب