أرمينيا.. الخطأ القاتل

يتأكد يوماً بعد آخر ان كسب الحرب والظفر بها منوط بعدة شروط اهمها قراءة الوقائع الاقليمية والدولية، وهذا ما أكدته حرب اقليم ناغورنو قره باخ عندما اتضح عدم وقوف قيادة ارمينيا ولا سيما رئيس الوزراء نيكول باشينيان على الوقائع الآنفة الذكر.

ما لم يقرأه نيكول باشينيان جيداً هو حجم التحول الذي بلغته العلاقات الروسية – التركية، التي لم ولن تصبح تحالفاً، لكن مجرد القاء الضوء على مساحة التباعد التركي عن الغرب (أوروبا والناتو والولايات المتحدة)، كما على إبرام صفقة صواريخ “اس 400″، الروسية وحجم التبادل التجاري والسياحي بين البلدين والتفاهمات القائمة بينهما في سوريا، برغم إهتزازها أحيانا، والتشاركية في خطوط الطاقة، يكفي ذلك لتكوين خلاصة عما آلت إليه العلاقة بين موسكو وأنقرة. زدْ على ذلك حجم العلاقات الروسية الأذربيجانية، ولا سيما من الناحية الإقتصادية، فضلا عن محاذرة الأذريين إستفزاز موسكو من اللغة والثقافة إلى القضايا الإستراتيجية، بعكس ما فعلت أرمينيا وجورجيا وجمهوريات سوفياتية سابقة.

هذا التموضع التركي، معطوفاً على سوء العلاقة الروسية مع رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، الغربي الهوى، الآتي الى السلطة عبر حركة دعمتها واشنطن، كان كفيلاً بجعل موسكو تتجاهل نداءات يريفان للتدخل في الحرب التي شنتها باكو بعنوان تحرير ارضها المحتلة في تسعينيات القرن الماضي واعادة الوضع في إقليم ناغورنو قره باخ الى ما كان عليه قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي.

وبدا ان حتى مجرد الاستناد الى اتفاقية الدفاع المشترك بين موسكو ويريفان ليس في محله، إذ أن الاتفاقية المذكورة لا تتضمن الدفاع عن اقليم ناغورنو قره باخ الذي لم تعترف لا موسكو ولا اية دولة في العالم بواقعه الانفصالي، بما في ذلك ارمينيا، فكانت الحجة القانونية الارمينية ضعيفة جداً بما يكفي حتى لا تجد إلى جانبها كل من عوّلت عليهم ولا سيما روسيا والإتحاد الأوروبي، وتحديداً فرنسا، في مواجهة التمدد التركي الذي بلغ العديد من الحدائق الخلفية شرقا وشمالا وغربا وجنوبا.

لم يقرأ رئيس الوزراء الأرميني الواقع الأوروبي، ففرنسا ليست دولة عظمى تمتلك قدرات حاسمة للتدخل في منطقة ليست من ضمن مداها الحيوي ولا تتبع لمنظومة مصالحها المباشرة، وهي ان تحركت عسكريا فإن تحركها يحتاج إلى بيئة ملائمة كما هو الحال في ساحات شمال غرب افريقيا مثل مالي والنيجر، بينما لا تستطيع أن تحمل نفسها مسؤولية تغيير معادلات وأنظمة في ساحات تمتلك تعقيدات مثل القوقاز.

كذلك إتكأ الأرمن على موقف إيراني بالاستناد الى وضعية عام 1991 في الحرب الاولى بين ارمينيا وعدوتها اذربيجان من دون الاخذ في الاعتبار ما طرأ على الواقع الايراني خلال ثلاثين سنة مضت، اذ أن حسابات ايران الداخلية لا تقل أهمية عن الخارجية، خاصة وأن هذه الحرب يمكن أن يتأثر بها ابناء ثاني قومية تشكل دولة ايران، اي الاذريون.

صحيح أن روسيا لديها حسابات ونزاعات هنا أو هناك مع تركيا وهما لا تتفقان على قضايا جيوسياسية عديدة “ولكنهما تحاولان إدارتها”، على حد تعبير أونور إسكي المحاضر في الشؤون الدولية في جامعة بيلكينت في أنقرة

في ضوء التوصل إلى إتفاق وقف النار، في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ما هي حسابات الربح والخسارة للأطراف المعنية؟

روسيا: فرضت وقفاً لاطلاق النار على جميع الاطراف في اللحظة التي كاد فيها لاندفاع الاذري يبلغ حدود جمهورية ارمينيا، وعندها كانت روسيا ستصبح، بموجب اتفاقية الدفاع المشترك مع يريفان، ملزمة بالتدخل. صحيح أن روسيا لديها حسابات ونزاعات هنا أو هناك مع تركيا وهما لا تتفقان على قضايا جيوسياسية عديدة “ولكنهما تحاولان إدارتها”، على حد تعبير أونور إسكي المحاضر في الشؤون الدولية في جامعة بيلكينت في أنقرة.

تركيا: النقاط والمناطق التي حررها جيش أذربيجان بدعم تركي (وإسرائيلي) كافية لضمان عدم التصادم مع روسيا في لحظة يسعى فيها الطرفان إلى تطوير علاقات البلدين. كما ان تركيا باتت شريكة في التسوية، ولو بشروط الروس، وفي ذلك تعبير متجدد عن إستقلالية تركية ما يسعى أردوغان إلى تثبيتها، مستفيدا من إندفاعته الخارجية لحماية منظومة أمنه القومي.

ارمينيا: برغم ما يمكن وصفه بأنه إستسلام في هذه الجولة من الحرب، حافظت أرمينيا على عاصمة الاقليم ستيباناكرت مع ممر صغير (لاشين) الذي يربطها بباقي المنطقة التي ستظل أرمينية في الإقليم.

اذربيجان: بالانسحاب المفروض على ارمينيا بموجب اتفاق وقف اطلاق النار، حررت مقاطعاتها السبع التي احتلت بعد حرب التسعينيات حول الاقليم وحققت توغلا عنوانه الابرز السيطرة على شوشي ثاني أكبر مدن قره باخ والفوز بممر يعبر أرمينيا ويمكنها من البقاء على صلة بمقاطعتها نخجوان. كما أمّن الأذريون خطا يعبر تركيا وأذربيجان وصولا إلى بحر قزوين.

ايران: لو حقق الاذريون نصرا اكبر من هذا ودخل جيشهم عاصمة الإقليم بعد شوشي، لكانت ايران وجدت نفسها امام هياج قومي اذري في داخلها، وذلك في لحظة تحسس ايراني من مشاريع يعدها لها “الأعداء” لتفجير أي تناقضات داخلية (الكرد، البلوش، الأذريون وعرب الاهواز).

إقرأ على موقع 180  هكذا تسلّل الحرس الثوري إلى لبنان في صيف 1982 (72)

مجدداً يتأكد أن المصالح هي التي تشعل الحروب وتحشد الجيوش والدليل صمت العالم امام هزيمة وطن شارل ازنافور وبول غيراغوسيان ويكفي اننا لم نسمع في لبنان تضامناً جدياً مع ارمينيا الا في بعض حالات التطوع والمساعدات البسيطة والتراتيل الحزينة في برج حمود.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

كاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  مصارف لبنان تُناور إستباقياً.. من يَدفعْ كلفة الإنهيار؟